إن من المسائل الاعتقادية التي وقع النزاع حولها، هي مسألة هل نحن مسيرون أم مخيرون؟.. وهل الحق هو الجبر؟.. أو الحق هو التفويض؟.. والمسألة بحسب الظاهر نظرية، ولكن قطعا لها آثارها الكبرى في حياة الإنسان.

إن الإنسان الذي يعتقد بأنه مسير، سوف يعيش حالة الركون إلى ما هو فيه، ولا يفكر في تغيير واقعه؛ فيعيش حالة الرتابة في الحياة.. لأنه لا يرى نفسه مؤثرا في الوجود، {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}.. فما دام القلم قد جف بما هو كائن، فإذاً لماذا السعي؟.. وعندها يرى الإنسان نفسه كأنه قشة في مهب الرياح، أو على سطح البحر، تقلبه الأمواج كيفما تشاء.
والإنسان الذي يرى بأنه مخير، وليس هنالك قدرة مهيمنة عليه؛ فإنه يعيش حالة من الفرعونية الباطنية.. لأنه يرى أنه هو صاحب القرار الأول والأخير في هذه الدنيا، ولا شيء يقف أمامه {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد}، وإن لم يقل ذلك بلسانه، وإنما لسان حاله يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}.. فيرى نفسه ربا لنفسه على الأقل، فيقول: أنا مالك لأمري، وليس هنالك من يتدخل في شؤوني.
فما هي الكلمة الحق في هذا المجال؟.. إن القرآن الكريم فيه صنفان من الآيات: صنف قد يستشم منه البعض منها رائحة الجبر، وهناك قسم يستشف منه التفويض.. فلندرس الطائفتين من هذه الآيات الكريمة.
إن المسلمين انقسموا إلى فرق: هناك جماعة من فرق المسلمين اعتقدوا بالجبر، وتاريخهم معلوم.. وقسم منهم المفوضون.. وخط أهل البيت معروف أنه خط الأمر بين الأمرين (لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين الأمرين).
هناك مجموعة آيات، بل أنواع من الآيات.. تدل بشكل واضح، على أنه ليس هنالك جبر في الحياة:
النوع الأول: هنالك نوع يدل على أن الإحسان والإساءة منتسبين إلى العبد، وليس هنالك شخص آخر، أو جهة أخرى مسؤولة عن أعمال العبد: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}، {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي}.. إن هذا الصنف من الآيات، دالة على نفي الجبر.

النوع الثاني: الآيات الدالة على نفي الظلم عن الله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.. ونحن نعلم أن العبد إذا كان مسيرا، أو مكرها، أو مجبرا؛ فلا معنى لعقوبته.. وهذه الآيات، وهي قرابة أربعون آية في القرآن الكريم، تدل على هذا المعنى الإجمالي.
النوع الثالث: إن الصنف الثالث من الآيات، يدل على أن الله عز وجل خلق الموت والحياة ليختبر الناس: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}.. فإذن، إن معنى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}؛ أي أن هنالك حرية في اختيار العمل الأحسن.. وهنالك أكثر من ستين آية في القرآن، تدل على هذا المعنى الإجمالي.
النوع الرابع: والصنف الرابع من الآيات، دالة وداعية إلى الحذر والتضرع، ولو كان الأمر هو التسيير، وهو الجبر.. فعندئذٍ لا معنى للتضرع: {أَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}.. فإذن، إن التضرع له دوره في رفع المقدرات، ورفع العذاب الإلهي.. وهنالك سبعون آية -تقريبا- تدل على هذا المعنى؛ أي أن الحذر والتقوى والإيمان -هذه الأمور- مؤثرة في مسيرة الإنسان.
النوع الخامس: إن الطائفة الخامسة من الآيات، تدل على أن الثواب والعقاب مستندان إلى فعل العبد، لا إلى أمر خارجي.. قال تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}، {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}.. فإذن، إن هذه الآيات نسبت الجزاء إلى فعل العبد.
النوع السادس: إن الصنف السادس، هي آيات توبيخ الكفار والفساق.. والإنسان غير المختار لا يوبخ، فحتى في حياتنا اليومية رغم أن الطفل يفعل الأعمال باختياره، ولكنه غير مكلف، فإن الإنسان يعاتب من كثرة توبيخ الطفل الذي رفع عنه القلم.. {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}، {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون}.. إن كل هذه الآيات موبخة، وتدل على أن الإنسان أيضا مخير في عمله.
النوع السابع: هناك آيات واضحة، تدل على أن الإنسان مخير، كقوله تعالى: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}..فهنالك تصريح، بأن هذه الحالة من الاختيار.
النوع الثامن: الآيات التي تدعو إلى المسارعة في الخير، {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}.. فإذا كان لا مجال في الترقي، فلماذا ندعى للمسارعة في الخيرات؟..
النوع التاسع: نقرأ يوميا صنفا آخر في سورة الحمد: {إياك نعبد وإياك نستعين}؛ أي يا رب أنا أستعين بك.. ولو كان الله هو الفاعل، فلا معنى للاستعانة.. فالاستعانة تطلق عندما يفعل الإنسان فعلا اختياريا، ولكنه يستعين بغيره.
النوع العاشر: وكذلك من الآيات الدالة على هذه الحالة، اعتراف الكفار يوم القيامة، عندما يحكم على الناس بدخول النار {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}.. فإذن، إن هؤلاء فلسفوا حكمهم بالبقاء في النار، على أنهم كانوا مقصرين، وإلا بإمكانهم أن يقولوا: ربنا أدخلتنا النار بفعلك، فنحن لم نعمل شيئا اختياريا.
النوع الحادي عشر: من الآيات الدالة على الاختيار: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}.. فإذن، إن معنى ذلك، أنه يعمل الصالح الذي يعوضه، عما فعله في حياته الدنيا.
فمع هذه الآيات الكثيرة يصبح واضحا، أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا، يخط طريقه بيده.. ومن هنا حسن عقابه، كما حسن ثوابه.

ولكن في المقابل هنالك مجموعة من الآيات، قد يستشم البعض منها شيئا من الجبر، فما هي هذه الآيات؟.. فلنكن منصفين في البحث العلمي.. هنالك آيات، وهي آيات متنوعة تجعل الهداية من الله، وتجعل الهادي هو الله سبحانه وتعالى{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}.. فإذن، إن الله هو الهادي، والعبد لا شأن له في ذلك، فهنيئا لمن هداه الله تعالى!.. {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}، فهذه من الآيات التي يمكن أن يستشم منها الجبر.
إن الجواب الإجمالي على مثل هذه الآيات، التي تسند الهداية إلى الله عز وجل: هو أن الله عز وجل هو الذي هيأ مواد الهداية، وجعل في وجود الإنسان محطات أو كواشف للطريق.. فإذا كان الأمر كذلك، فإن الإنسان الذي بيده إضاءة قوية، وسراج منير، فإنه يمشي أمام الناس.. فيقال: أن هذا الإنسان يهدي الآخرين، لماذا؟.. لأنه فتح لهم الطريق.. فالله سبحانه وتعالى جعل محطة خارجية، ومحطة داخلية في الوجود الإنساني.. وكل محطة تفتح لك الطريق: المحطة الباطنية تسمى بالفطرة، والرسول الباطني.. والمحطة الخارجية متمثلة بمئة وأربع وعشرين ألف إضاءة في عالم الوجود، ختمت الإضاءات بمن جعله الله السراج المنير في هذه الأمة، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}.. وعليه، فإن كون رب العالمين، هو الذي فتح لك الطريق؛ بالإرشاد، والهداية الفطرية، والخارجية.. فإنه يصح أن يقال بأنه هو الهادي، ولا يستلزم ذلك شيئا من الجبر والإلزام.
وكذلك من الآيات التي يمكن أن يقول البعض بأنها تدل على شيء من الجبر: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}، و{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ}.. فإذن، ما معنى هذه الآيات؟.. -آيات نفي القوة إلا بالله، وآيات أنه لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا- وكيف نوفق بينها وبين الآيات التي ذكرناها في أول الحديث؟..
إن مضمون هذه الآيات هي: إن وفقت لدخول الجنة -والجنة من أعظم المنافع، والرضوان الإلهي غاية المكاسب- لا تظن أن ذلك مقطوع الصلة بالله عز وجل، إذ كيف وصلت إلى الجنة؟.. الجواب: من خلال العبادة!.. وكيف عبدت الله عز وجل؟.. الجواب: بهذا البدن!.. ومن خلق هذا البدن؟.. ومن أعطاه الطاق للعبادة؟.. الجواب: هو رب العالمين، ولو شاء لسلب منك هذه الطاقة.. فمثلا: إذا جلست في المنزل، ولم توفق لحضور المسجد في هذه الليلة.. فإن الفعل من العبد، ولكن المواد الأولية من رب العالمين.. وهكذا في باب الضلالة، فإن الإنسان عندما يقتل إنسانا، وهناك إنسان آخر قد أعطاه سكينا.. فهو قتل، ولكن مادة القتل أعطاه إياها شخص آخر.. وهو لا يلام على ذلك، فالشخص الأول هو الذي قتل باختياره.. وعندما يقف أمام القاضي، لا يقول: فلان أعطاني مدية وسكينا.
فإذن، إن معاصي الخلق هذه الأيام تعود إلى الشهوة هي: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}.. فمن الذي زين؟.. إن رب العالمين زين ذلك للإنسان، حيث جعل فيه الشهوة.. وعليه، فإذا دخل النار أيضا يمكن أن يقال بأن لله عز وجل دورا في ذلك، لا بمنعى الإلزام، بل بمعنى أن ما وقع فيه له صلة بالله عز وجل، فهو المُمَكّن لطريق الخير {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.. فإذن، لا قوة إلا بالله: فكل حركة في هذا الوجود سلبا أو إيجابا للبناء أو الهدم، يحتاج إلى طاقة.. وهذه الطاقة مخلوقة لله عز وجل، من دون أن تلازم سلب القدرة.. ومن هنا لا ظلم أبدا في هذا المجال.
وعليه، فإن ملخص الحديث فيما تقدم، أنه في الفقرة الأخيرة هنالك شاهد قرآني جميل، التفت إليه بعض العلماء التفاتة جميلة، وهي: أن إبراهيم -عليه السلام- عندما يتكلم مع الرب، وهو بطل التوحيد، ماذا يقول عن الأصنام؟.. {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ}؛ أي أن هذه الأصنام أضلت الناس كثيرا، فما ذنب هذا الصنم، الذي يصنعونه من التمر صباحا، ويأكلونه ليلا؟.. ولكن إبراهيم جعل الإضلال منتسبا إلى الصنم، رغم أن الذي ضل هو بني آدم، الذي يشعر بالأمور.
إن من خلال مجموع هذه الأمور، نصل إلى أنه (لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين).. وهنالك آية في القرآن الكريم، آية جميلة جدا -وكل القرآن جميل- تشير إلى هذه الحالة: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}..انظروا إلى التعبير المتموج!.. وما رميت إذ رميت في معركة بدر، ولكن الله رمى.. فالنبي هو الرامي، والمسلمون هم الرماة.. ولكن الله هو الرامي أيضا؛ لأنه أمدهم بهذا المدد، وساعدهم في النصرة على أعدائهم، وهو الذي خلق مادة السهم، وهو الذي جعل القوة في العضلات، غير ما ذكره من إنزال الملائكة المسومين.
وعليه، فإن الحق أن لا نعتقد بالجبر، فننسب الظلم إلى الله عز وجل.. والحق أن لا نعتقد بالتفويض؛ لكي لا يجعل الإنسان يعيش حالة من حالات الركون إلى طاقاته وقواه.