بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال مالك بن أنس، إمام المذهب المالكي، في حق إمام مذهبنا، الصادق من آل محمد (عليه السلام): ما رأت عينٌ، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمد الصادق، علماً وعبادة وورعاً.
الإمام الصادق (عليه السلام) في عيون الآخرين:
قد لا نكون بحاجة أن نستند إلى قولٍ خارج حدود مدرسة أهل البيت (عليه السلام)، خصوصاً إذا كان فيه الإشارة إلى علوِّ مقامهم، وهذا مبنيٌّ على البناء الأولي، أما إذا لاحظنا مجموعة من القرائن المساعدة، التي تفرض نفسها في إبطال معطيات المبنى الأول، ولا أقل من تحديده، فإننا اليوم بحاجة أن نستند إلى أقوال أولئك، لأن الحجة من الغير على الغير أبلغ. فلو أننا قلنا: قال الإمام الباقر في حق الإمام الصادق (عليه السلام) لما قبل الطرف الآخر منا، ولكن عندما نقول: قال فلان من علمائهم وأئمة مذاهبهم في حق واحد من أئمتنا وأعلامنا، فهذا أمر من أمرين: إما التسليم والابتعاد عن دائرة المكابرة، وإن تم هذا فهو المطلوب، أو أن يكون وراء ذلك ما وراءه، وفيه من الحجة على الطرف الآخر الشيء الكثير.
إننا لا نحتاج إلى دليل من الغير، ولا إلى مزيد كلام، لأن ما نزل في حقهم في الكتاب الكريم، يفي بالغرض، وما جاء عن النبي العظيم (صلى الله وعليه وآله) يفي بالغرض أيضاً، وما جاء من بعضهم في حق بعضهم، يفي بالغرض كذلك، ولكن علينا أن نسلِّم بحقيقة، هي أننا لسنا وحدنا في هذا الوجود، ولسنا نحن الذين نمثل المساحة الكاملة لأتباع هذه الديانة الحقة والرسالة الخاتمة، إنما نمثل فصيلاً هاماً مؤصَّلاً له من قبل المعصومين (عليه السلام).
وإن كان الأمر كذلك، فلا شك أن بقية الفصائل لها ما تستند إليه وتتكئ عليه في تثبيت قواعدها وتأصيل أصولها، وهو ما لا يمكن أن ندير له ظهراً، أو نغضَّ عنه طرفاً، أو نتجاهل له أثراً.
وإذا كان الأمر كذلك، فحريٌّ بنا أن نقترب من الموروث عند الطرف الآخر، إن كان يعنينا بالدرجة الأولى، وفي كلامهم الكثير الكثير الذي يُجبر أولئك أن يسطِّروا كلمات لا يمكن إلا أن تكون مشيرة إلى جانب من جوانب الكمال فيهم، لأن كمالهم لا يحيط به أولئك، إنما يحيط به من خص بذلك.
يقول (صلى الله وعليه وآله) لعلي (عليه السلام): «يا علي، ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا» [1] . فالمعرفة الحقة من النبي لعلي، ومن علي للنبي، ولا مزايدة على ذلك. ولكن إذا صدرت كلمات الإطراء والتقريظ والمدح، في حق أحد أعلامنا، على لسان أو قلم من يمثل طرفاً آخر، فهي تشكِّل مؤيداً لنا، على ما نحن عليه، وليس دليلاً معتمداً، كما تشكل إلزامَ حجةٍ على الطرف الآخر.
فمالك بن أنس، إمام المذهب المالكي، يقف أمام هذه الشخصية العظيمة الجليلة الكاملة، التي تفيض كمالاً على من حولها، وليس للبشربة أن تحظى بمثل أنفاسها، فيأتي بتلك المفردات المختصرة، لتشكّل كلمة واحدة في قالب أدبي رائع، لكنها على لسان عالم في مصطلح الطرف الآخر.
يقول: ما رأت عينٌ، أي لم تقع عينه، ولا عين غيره، على رجل أكمل من جعفر بن محمد (عليه السلام) واستخدم التنكير ليدلَّ على الاستغراق والشمول، فليس هنالك عينٌ يمكنها الادعاء أنها رأت أفضل من جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) لأن في التنكير المنوَّن سراية في استغراق الأفراد.
وأما إذا عنى بها نفسه فقط، فهو ضرب من ضروب الاستخدام البلاغي للمفردات، فكأنه يقول: ما رأت عيني. ثم يقول: ولا سمعت أذنٌ. فربما تضيق المساحات على البعض أن يبصر ويتبصر هنا أو هناك، لكنْ أن يسمع فالمساحة أكبر من ذلك بكثير. ونحن قد لا نرى إلا المساحة التي نحنُ فيها، لكننا نستطيع أن نسمع عن مساحات أكبر من ذلك.
ثم يقول: ولا خطر على قلب بشر، وفي هذا التعبير اقترب الرجل إلى مساحة أكثر دقة، ألا وهي الذات، فلم يقف الحد عند السمع والبصر، فالقلب إذا ما صفا، ونال قسطاً من الإشراق، رأى الحقيقة كما هي، ولا صفاء للروح والقلب، إلا بعد التخلص من المكدِّرات الثقيلة التي تشد المرء إلى الأرض، فإن تخلص منها صفت روحه وسمت، وعمر القلب بالإشراق.
والإشراق على القلب منهم (عليه السلام) لا يتأتى لكل أحد، ما لم يتأثر بمعطيات تلك المدرسة التي أرادتها السماء للبشرية منقذاً.
ثم يبين مالك بن أنس تلك المجالات التي لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بشر مثلها في فرد سوى جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فيقول: علماً وعبادةً وورعاً. فقد أجمعت جميع الأطراف على علوّ كعب الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الجانب، فلم تُجمع محابر، ولا رؤوس أقلام، ولا وريقات، ولا طويت أسفار على كمٍّ بهذا القدر من العمق والوفرة، كمّاً وكيفاً، إلا عن جعفر بن محمد (عليه السلام). فهو في المدينة قدمٌ راسخة، وفي الكوفة كذلك، وفي بغداد مثلها.
ففي بغداد، كان في مجلس السلطة، حيث أُشخص من المدينة إلى بغداد، وكان يقف أمام خليفة صعب المراس، لا يرى إلا نفسه في هذا الوجود، ولو أن الظروف واتته كما واتت فرعون من قبل لقال: أنا ربكم الأعلى، لكن الإمام الصادق (عليه السلام) وقف وقفة من يثبت لذلك الطرف أن هذا المسار، وهذه الكلمة الحق، التي تعني كلمة السماء، لا بد لها أن تخترق جميع الحواجز، وأن تسقط جميع الموانع.
في بلاط الخليفة العباسي يُسأل عن التوحيد، فيجيب بأدق المعاني في أجمل العبائر، وهو من السهل الممتنع تركيباً، والمستعصي تأليفاً. ويُسأل عن حدود حاكمية الحاكم، وهو بين يدي الحاكم، فيضرب طوقاً حول الحاكم يعرِّيه من كل شيء، حتى فيما يرتبط بجانب الشرعية في التصدي لشأن الخلافة.
ويُسأل بمحضر الخليفة عن السلوك في وسط المجتمع، ويجيب بما يؤمِّن يقظةً لأفراد المجتمع، لما يجري من حولهم.
أما التلامذة فكان الواحد منهم يمثل كوكباً مشعاً يهتدي به أهل الأرض، كما يهتدون بحركة النجوم في السماء، وكانت تلك الكوكبة التي شرفها الله تعالى بشرف المثول والتقلب والاستفادة من جعفر بن محمد، والبقية من آل محمد (عليه السلام).
من هنا فإن الباحث أو الكاتب أو المتحدث الذي يعيش واقعيةً، ولو على نحو التصنع والمجاملة، لا بد أن يصدر حكماً بهذه المثابة، وهي ما يقرب من قول الإمام مالك: ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).
الصادق (عليه السلام) قدوتنا:
لقد طوينا كشحاً عن الكثير من سيرة الإمام الصادق (عليه السلام) في مجالسنا، مع شديد الأسف، في حين أنه يعنينا كما يعنينا النبي الأكرم محمد (صلى الله وعليه وآله)، فهذا نبي الرسالة الخاتمة الخالدة، وذلك إمام المذهب الحق، الذي لا نستطيع أن نقرأ الإسلام كوحدة كاملة متكاملة إلا من خلال التقلب على مائدته.
إننا لو جردنا تاريخنا من مفردة جعفر، وجردنا علومنا وسلوكنا من تلك المفردة، وجردنا حياتنا من إشراقات جعفر، فما عسى أن يبقى في أيدينا؟إنَّ زادنا ومعيننا الصافي يبدأ من جعفر بن محمد (عليه السلام) ومن خلال ذلك الزاد نشقُّ طريقنا وسط دهاليز مظلمة، ونخترق سواتر يراد لها أن تحدَّ من مسيرتنا، لكن المارد انفلت من قمقمه، وما عاد أحدٌ لديه القدرة والاستطاعة أن يعيد المارد إلى قمقمه من جديد، لأننا بتنا رويداً رويداً نسير نحو عالم الظهور، الذي سينوَّر بأنوار الخلف الباقي من آل محمد «عج».
عندما يطرق أسماعنا حديث شريف عنهم (عليه السلام)، وهو قولهم: طوبى للغرباء، ويكون المقصود من ذلك من يعيش في زمن الغيبة، فنحن من المصاديق التي عنتها تلك النصوص.
كيف نقتدي بأئمتنا (عليه السلام)؟
أيها الأحبة، لا سيما جيل الشباب الواعد، الذي يُراهَن عليه كثيراً، فجيل الآباء قضى ما عليه، وكان سبباً في وصول الأمانة إلى هذا الجيل، علينا اليوم أن نشكر للآباء والأجداد ما قاموا به من دور في إيصال الأمانة إلى الجيل الحاضر، وهي أننا وُلدنا فطرةً، ونشأنا تربيةً، حباً واعتقاداً بنبينا محمد (صلى الله وعليه وآله) وآل محمد (عليه السلام). إلا أن المهمة الملقاة على عواتقنا اليوم، لا سيما جيل الشباب، هي أن نحفظ الأمانة ونسير بها سيراً سجحاً، بأن نعدّ الآليات المتناسبة التي تفضي في نهاية المطاف إلى حفظ الأمانة.
وتلك الآليات المطلوبة، هي من الكثرة بمكان، ولا أستعرضها إلا على نحو الإشارة السريعة اختصاراً ورعاية لوقتكم الشريف، والحفل المبارك بكل خصائصه.
وتلك الآليات ما هي إلا طرق شقها لنا أهل البيت (عليه السلام) وهي كما يلي:
1 ـ القرآن الكريم: فعلينا أن نتمسك به، ونلوذ بحماه، وأن نقرأه ونستظهره ونتدبر آياته، ونجعل منه مشروع حياة يقنن لنا مسيرنا في هذا الوجود.
2 ـ إبراز حالة الحب والولاء لمحمد وآل محمد (عليه السلام) ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، من خلال تسجيل الحضور في مجالسهم، سواء في طابع الفرح، في ذكريات المواليد وغيرها، أم في طابع الحزن، في ذكريات الشهادة وغيرها، فعلينا أن لا نقصر في ذلك، لأن واحدة من الضمانات للاستقرار في حفظ الأمانة هو منبر الإمام الحسين (عليه السلام). وعلينا أن لا نكون أصحاب علاقات مُجتزَأة مع الإمام الحسين (عليه السلام) من خلال أيام عاشوراء فقط، ثم نقول للمناسبة: إلى اللقاء في العام المقبل. وكذا الحال في بقية المناسبات.
ومن ذلك أيضاً إحياء زياراتهم، سواء عن قرب أم عن بعد، ففي قراءتي لبعض النصوص الواردة عنهم (عليه السلام) في فضل بعض الزيارات عن بعد، وجدت أنها إنْ لم ترشد إلى ثواب أعظم منها عن قرب، فهي ليست بأقل منها، ودونك ما جاء بحق زيارة النبي الأعظم (صلى الله وعليه وآله) عن بُعد من الأجر العظيم. وعلينا أن نكرر الزيارة، ونغرس هذا في نفسيات أبنائنا وبناتنا.
3 ـ الدعاء والتوسل والتقرب إلى الله تعالى بمحمد وآل محمد (عليه السلام): فكلنا أصحاب حاجات، وليس منا من ليس لديه حاجة ماسة، ينتهي معها إلى طريق مسدود، فلا يجد لها نجاحاً إلا بتدخل يد الغيب، والغيب إذا ما أراد أن يتدخل، سنَّ لنا طريقاً طبيعياً سهلاً ممكناً: ﴿وَابْتَغُوْا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ﴾ [2] ، والوسيلة الموصلة إلى الله تعالى هي محمد وآل محمد (عليه السلام). لذا يُستحب للإنسان أن يبدأ دعاءه بالصلاة على محمد وآل محمد (عليه السلام)، وهو أقصر الأدعية وأشرفها وأثقلها، بل وأثقل الأعمال التي توضع في ميزان المؤمن يوم القيامة.
أسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا وأيديكم لما أراد أهل البيت (عليه السلام) أن نكون عليه، من المحبة والصدق والإخلاص والتفاني والارتباط، وأن يجعلنا من الثابتين المستقرين في محبتهم وولائهم لأهل بيت النبوة، وأن يجعلهم لنا شفعاء مشفَّعين فينا، بما نقدم به عليهم من عمل.
ـــــــــــــــــــــــــاللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال مالك بن أنس، إمام المذهب المالكي، في حق إمام مذهبنا، الصادق من آل محمد (عليه السلام): ما رأت عينٌ، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمد الصادق، علماً وعبادة وورعاً.
الإمام الصادق (عليه السلام) في عيون الآخرين:
قد لا نكون بحاجة أن نستند إلى قولٍ خارج حدود مدرسة أهل البيت (عليه السلام)، خصوصاً إذا كان فيه الإشارة إلى علوِّ مقامهم، وهذا مبنيٌّ على البناء الأولي، أما إذا لاحظنا مجموعة من القرائن المساعدة، التي تفرض نفسها في إبطال معطيات المبنى الأول، ولا أقل من تحديده، فإننا اليوم بحاجة أن نستند إلى أقوال أولئك، لأن الحجة من الغير على الغير أبلغ. فلو أننا قلنا: قال الإمام الباقر في حق الإمام الصادق (عليه السلام) لما قبل الطرف الآخر منا، ولكن عندما نقول: قال فلان من علمائهم وأئمة مذاهبهم في حق واحد من أئمتنا وأعلامنا، فهذا أمر من أمرين: إما التسليم والابتعاد عن دائرة المكابرة، وإن تم هذا فهو المطلوب، أو أن يكون وراء ذلك ما وراءه، وفيه من الحجة على الطرف الآخر الشيء الكثير.
إننا لا نحتاج إلى دليل من الغير، ولا إلى مزيد كلام، لأن ما نزل في حقهم في الكتاب الكريم، يفي بالغرض، وما جاء عن النبي العظيم (صلى الله وعليه وآله) يفي بالغرض أيضاً، وما جاء من بعضهم في حق بعضهم، يفي بالغرض كذلك، ولكن علينا أن نسلِّم بحقيقة، هي أننا لسنا وحدنا في هذا الوجود، ولسنا نحن الذين نمثل المساحة الكاملة لأتباع هذه الديانة الحقة والرسالة الخاتمة، إنما نمثل فصيلاً هاماً مؤصَّلاً له من قبل المعصومين (عليه السلام).
وإن كان الأمر كذلك، فلا شك أن بقية الفصائل لها ما تستند إليه وتتكئ عليه في تثبيت قواعدها وتأصيل أصولها، وهو ما لا يمكن أن ندير له ظهراً، أو نغضَّ عنه طرفاً، أو نتجاهل له أثراً.
وإذا كان الأمر كذلك، فحريٌّ بنا أن نقترب من الموروث عند الطرف الآخر، إن كان يعنينا بالدرجة الأولى، وفي كلامهم الكثير الكثير الذي يُجبر أولئك أن يسطِّروا كلمات لا يمكن إلا أن تكون مشيرة إلى جانب من جوانب الكمال فيهم، لأن كمالهم لا يحيط به أولئك، إنما يحيط به من خص بذلك.
يقول (صلى الله وعليه وآله) لعلي (عليه السلام): «يا علي، ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا» [1] . فالمعرفة الحقة من النبي لعلي، ومن علي للنبي، ولا مزايدة على ذلك. ولكن إذا صدرت كلمات الإطراء والتقريظ والمدح، في حق أحد أعلامنا، على لسان أو قلم من يمثل طرفاً آخر، فهي تشكِّل مؤيداً لنا، على ما نحن عليه، وليس دليلاً معتمداً، كما تشكل إلزامَ حجةٍ على الطرف الآخر.
فمالك بن أنس، إمام المذهب المالكي، يقف أمام هذه الشخصية العظيمة الجليلة الكاملة، التي تفيض كمالاً على من حولها، وليس للبشربة أن تحظى بمثل أنفاسها، فيأتي بتلك المفردات المختصرة، لتشكّل كلمة واحدة في قالب أدبي رائع، لكنها على لسان عالم في مصطلح الطرف الآخر.
يقول: ما رأت عينٌ، أي لم تقع عينه، ولا عين غيره، على رجل أكمل من جعفر بن محمد (عليه السلام) واستخدم التنكير ليدلَّ على الاستغراق والشمول، فليس هنالك عينٌ يمكنها الادعاء أنها رأت أفضل من جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) لأن في التنكير المنوَّن سراية في استغراق الأفراد.
وأما إذا عنى بها نفسه فقط، فهو ضرب من ضروب الاستخدام البلاغي للمفردات، فكأنه يقول: ما رأت عيني. ثم يقول: ولا سمعت أذنٌ. فربما تضيق المساحات على البعض أن يبصر ويتبصر هنا أو هناك، لكنْ أن يسمع فالمساحة أكبر من ذلك بكثير. ونحن قد لا نرى إلا المساحة التي نحنُ فيها، لكننا نستطيع أن نسمع عن مساحات أكبر من ذلك.
ثم يقول: ولا خطر على قلب بشر، وفي هذا التعبير اقترب الرجل إلى مساحة أكثر دقة، ألا وهي الذات، فلم يقف الحد عند السمع والبصر، فالقلب إذا ما صفا، ونال قسطاً من الإشراق، رأى الحقيقة كما هي، ولا صفاء للروح والقلب، إلا بعد التخلص من المكدِّرات الثقيلة التي تشد المرء إلى الأرض، فإن تخلص منها صفت روحه وسمت، وعمر القلب بالإشراق.
والإشراق على القلب منهم (عليه السلام) لا يتأتى لكل أحد، ما لم يتأثر بمعطيات تلك المدرسة التي أرادتها السماء للبشرية منقذاً.
ثم يبين مالك بن أنس تلك المجالات التي لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بشر مثلها في فرد سوى جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فيقول: علماً وعبادةً وورعاً. فقد أجمعت جميع الأطراف على علوّ كعب الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الجانب، فلم تُجمع محابر، ولا رؤوس أقلام، ولا وريقات، ولا طويت أسفار على كمٍّ بهذا القدر من العمق والوفرة، كمّاً وكيفاً، إلا عن جعفر بن محمد (عليه السلام). فهو في المدينة قدمٌ راسخة، وفي الكوفة كذلك، وفي بغداد مثلها.
ففي بغداد، كان في مجلس السلطة، حيث أُشخص من المدينة إلى بغداد، وكان يقف أمام خليفة صعب المراس، لا يرى إلا نفسه في هذا الوجود، ولو أن الظروف واتته كما واتت فرعون من قبل لقال: أنا ربكم الأعلى، لكن الإمام الصادق (عليه السلام) وقف وقفة من يثبت لذلك الطرف أن هذا المسار، وهذه الكلمة الحق، التي تعني كلمة السماء، لا بد لها أن تخترق جميع الحواجز، وأن تسقط جميع الموانع.
في بلاط الخليفة العباسي يُسأل عن التوحيد، فيجيب بأدق المعاني في أجمل العبائر، وهو من السهل الممتنع تركيباً، والمستعصي تأليفاً. ويُسأل عن حدود حاكمية الحاكم، وهو بين يدي الحاكم، فيضرب طوقاً حول الحاكم يعرِّيه من كل شيء، حتى فيما يرتبط بجانب الشرعية في التصدي لشأن الخلافة.
ويُسأل بمحضر الخليفة عن السلوك في وسط المجتمع، ويجيب بما يؤمِّن يقظةً لأفراد المجتمع، لما يجري من حولهم.
أما التلامذة فكان الواحد منهم يمثل كوكباً مشعاً يهتدي به أهل الأرض، كما يهتدون بحركة النجوم في السماء، وكانت تلك الكوكبة التي شرفها الله تعالى بشرف المثول والتقلب والاستفادة من جعفر بن محمد، والبقية من آل محمد (عليه السلام).
من هنا فإن الباحث أو الكاتب أو المتحدث الذي يعيش واقعيةً، ولو على نحو التصنع والمجاملة، لا بد أن يصدر حكماً بهذه المثابة، وهي ما يقرب من قول الإمام مالك: ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).
الصادق (عليه السلام) قدوتنا:
لقد طوينا كشحاً عن الكثير من سيرة الإمام الصادق (عليه السلام) في مجالسنا، مع شديد الأسف، في حين أنه يعنينا كما يعنينا النبي الأكرم محمد (صلى الله وعليه وآله)، فهذا نبي الرسالة الخاتمة الخالدة، وذلك إمام المذهب الحق، الذي لا نستطيع أن نقرأ الإسلام كوحدة كاملة متكاملة إلا من خلال التقلب على مائدته.
إننا لو جردنا تاريخنا من مفردة جعفر، وجردنا علومنا وسلوكنا من تلك المفردة، وجردنا حياتنا من إشراقات جعفر، فما عسى أن يبقى في أيدينا؟إنَّ زادنا ومعيننا الصافي يبدأ من جعفر بن محمد (عليه السلام) ومن خلال ذلك الزاد نشقُّ طريقنا وسط دهاليز مظلمة، ونخترق سواتر يراد لها أن تحدَّ من مسيرتنا، لكن المارد انفلت من قمقمه، وما عاد أحدٌ لديه القدرة والاستطاعة أن يعيد المارد إلى قمقمه من جديد، لأننا بتنا رويداً رويداً نسير نحو عالم الظهور، الذي سينوَّر بأنوار الخلف الباقي من آل محمد «عج».
عندما يطرق أسماعنا حديث شريف عنهم (عليه السلام)، وهو قولهم: طوبى للغرباء، ويكون المقصود من ذلك من يعيش في زمن الغيبة، فنحن من المصاديق التي عنتها تلك النصوص.
كيف نقتدي بأئمتنا (عليه السلام)؟
أيها الأحبة، لا سيما جيل الشباب الواعد، الذي يُراهَن عليه كثيراً، فجيل الآباء قضى ما عليه، وكان سبباً في وصول الأمانة إلى هذا الجيل، علينا اليوم أن نشكر للآباء والأجداد ما قاموا به من دور في إيصال الأمانة إلى الجيل الحاضر، وهي أننا وُلدنا فطرةً، ونشأنا تربيةً، حباً واعتقاداً بنبينا محمد (صلى الله وعليه وآله) وآل محمد (عليه السلام). إلا أن المهمة الملقاة على عواتقنا اليوم، لا سيما جيل الشباب، هي أن نحفظ الأمانة ونسير بها سيراً سجحاً، بأن نعدّ الآليات المتناسبة التي تفضي في نهاية المطاف إلى حفظ الأمانة.
وتلك الآليات المطلوبة، هي من الكثرة بمكان، ولا أستعرضها إلا على نحو الإشارة السريعة اختصاراً ورعاية لوقتكم الشريف، والحفل المبارك بكل خصائصه.
وتلك الآليات ما هي إلا طرق شقها لنا أهل البيت (عليه السلام) وهي كما يلي:
1 ـ القرآن الكريم: فعلينا أن نتمسك به، ونلوذ بحماه، وأن نقرأه ونستظهره ونتدبر آياته، ونجعل منه مشروع حياة يقنن لنا مسيرنا في هذا الوجود.
2 ـ إبراز حالة الحب والولاء لمحمد وآل محمد (عليه السلام) ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، من خلال تسجيل الحضور في مجالسهم، سواء في طابع الفرح، في ذكريات المواليد وغيرها، أم في طابع الحزن، في ذكريات الشهادة وغيرها، فعلينا أن لا نقصر في ذلك، لأن واحدة من الضمانات للاستقرار في حفظ الأمانة هو منبر الإمام الحسين (عليه السلام). وعلينا أن لا نكون أصحاب علاقات مُجتزَأة مع الإمام الحسين (عليه السلام) من خلال أيام عاشوراء فقط، ثم نقول للمناسبة: إلى اللقاء في العام المقبل. وكذا الحال في بقية المناسبات.
ومن ذلك أيضاً إحياء زياراتهم، سواء عن قرب أم عن بعد، ففي قراءتي لبعض النصوص الواردة عنهم (عليه السلام) في فضل بعض الزيارات عن بعد، وجدت أنها إنْ لم ترشد إلى ثواب أعظم منها عن قرب، فهي ليست بأقل منها، ودونك ما جاء بحق زيارة النبي الأعظم (صلى الله وعليه وآله) عن بُعد من الأجر العظيم. وعلينا أن نكرر الزيارة، ونغرس هذا في نفسيات أبنائنا وبناتنا.
3 ـ الدعاء والتوسل والتقرب إلى الله تعالى بمحمد وآل محمد (عليه السلام): فكلنا أصحاب حاجات، وليس منا من ليس لديه حاجة ماسة، ينتهي معها إلى طريق مسدود، فلا يجد لها نجاحاً إلا بتدخل يد الغيب، والغيب إذا ما أراد أن يتدخل، سنَّ لنا طريقاً طبيعياً سهلاً ممكناً: ﴿وَابْتَغُوْا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ﴾ [2] ، والوسيلة الموصلة إلى الله تعالى هي محمد وآل محمد (عليه السلام). لذا يُستحب للإنسان أن يبدأ دعاءه بالصلاة على محمد وآل محمد (عليه السلام)، وهو أقصر الأدعية وأشرفها وأثقلها، بل وأثقل الأعمال التي توضع في ميزان المؤمن يوم القيامة.
أسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا وأيديكم لما أراد أهل البيت (عليه السلام) أن نكون عليه، من المحبة والصدق والإخلاص والتفاني والارتباط، وأن يجعلنا من الثابتين المستقرين في محبتهم وولائهم لأهل بيت النبوة، وأن يجعلهم لنا شفعاء مشفَّعين فينا، بما نقدم به عليهم من عمل.
[1] مشارق أنوار اليقين، الحافظ البرسي: 173.
[2] المائدة: 35.