(متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنا الجنتين دان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان* فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن، الآيات: 54 ـ 57).
طلاب الجنة قليلون:
إذاً أعد الباري تعالى لعباده الخائفين مقامه (تعالى) جنتين فيهما من ألوان النعيم التي أشار القرآن إلى شيء منها، ومن جملة النعم الفُرش الرائعة ذوات البطائن الحريرية، فكيف بالفراش نفسه؟ مع العلم ن بطائن الفرش من افضل والطف وأنعم وأنور وأزهى الأقمشة حيث عبر عنها القرآن بأن مادتها الاستبرق. يقول الإمام علي (ع) (ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها) مع ان المرء كم تأخذ السعادة منه مأخذاً ويحلّق به السرور أوجاً لو حصل في هذه الدنيا على بستان أو روضة؟ بل وكم ينفق من جهده وعرقه وسعيه حتى يحقق ما صبت نفسه إليه في دنياه باقتناء بستان مثلاً؟ وهو يعلم تماماً أنه سينتفع منه لأجل محدود ثم يغادره إلى حيث لا رجعة إليه، بينما الجنة أولى بالشوق إليها والسعي نحوها وبذل العرق وتحمل الصعاب وتجشم العناء طلباً لها لأنها الباقية، ولأنها المُلك المقيم (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) (سورة المطففين، الآية: 26).
فواكه الجنة في متناول أيدي أهلها:
(وجنا الجنتين دان)، كلمة (جنا) تعني الثمرة المقطوفة من الشجر، ولا يصح تسمية الثمرة التي لم تجنى بعد من شجرتها (جنا)، ففواكه الجنة وثمارها في متناول أيادي أهل الجنة وأنّى شاءوا، فما أن يشتهي المؤمن فاكهة ما حتى يهبط إليه غصنها وتقترب الثمرة المطلوبة عند فمه، فهو لا يحتاج إلى النطق والافصاح عن حاجته أو رغبته أبداً.
ومعنى كلمة (دان) هو قريب، وهي مشتقة من الدنو أي القرب إذاً خلاصة معنى الآية هو (إن ثمار الجنتين وفواكههما قد دنت إلى المؤمن وأضحت في متناول يده وعند رغبته، بل ان القطاف والجني ذاتي ولا يحتاج فيه المؤمن إلى الامساك بالثمرة وقطفها بل تصير بذاتها إلى فمه وقتما شاء ذلك. فطوبى لك أيها العبد المؤمن الذي أفنى عمره في طاعة الله تعالى وتبع إرادة ربه فقد جعل الله عز وجل لك في غدك الآتي ثواب طاعتك وعبادك في نعيم الجنة فيصيّر لك الأشياء حينذاك وفقاً لارادتك ومطيعة لرغبتك وشهواتك.
من قال كلمة التوحيد فله بها شجرة في الجنة:
يقول أحد العلماء، لو أن ملكاً سمع بخبر يقول أن في الأرض الفلانية شجرة لها ثمار يعطي مائة ألف طعم في مذاق ثمرتها وقد خلص الثمر من النوى والقشور وهي تثمر على مدار فصول السنة جميعاً، ترى كم سينفق هذا الملك، وكم سيعطي من جهده وعنائه جرياً وراء الحصول على هذه الشجرة ليتمكن من حيازتها والاستفادة منها؟
وأنت أيها المرء المؤمن حسبك أن لا تستهين بوعد الله أو تستصغره، فان من قال كلمة (لا اله إلا الله) مخلصاً غرس الله له شجرة في الجنة بها وفي سائر الأذكار يعد الله عباده بجزيل الثواب وعظيم المّن، فلم التهاون والتقاعس إذاً؟! ان فاكهة الجنة لا تحتاج منك إلى بذل جهد أو حركة، فهي جنيّة، ولو انك طعمتها واكثرت منها سوف لا تثفل على معدتك ولا يحصل لديك انتفاخ البطن أو وجع القلب الناشئ عن تناول الأطعمة دون الشهيّة.
نساء الجنة مولهات بأزواجهن:
(فيهن قاصرات الطرف) أي وفي الجنتين نساء يقصر نظرهن على ازواجهن. ويعد وجود الحور العين في الجنة أحد اكبر النعم الالهية، فقد خص الباري تعالى خلقهن للآخرة وحدها، ومع الحور العين توجد أيضاً النسوة المؤمنات الصالحات في الجنة، والمؤمنات يفوق جمالهن جمال الحور العين بأضعاف مضاعفة، مع أن زيادة تقوى وايمان الامرأة الصالحة يؤدي إلى زيادة درجات الجمال الآخروي.
ويبلغ من عشق الحور العين لازواجهن حداً يقصر فيه طرفهن عن رؤية غير ازواجهن، لذلك وصفهن الله عز وجل بـ (قاصرات الطرف)، وقد ورد عن النبي (ص) قوله (قاصرات الطرف، قصر طرفهن على ازواجهن فلم يردن غيرهم) وقال أبو ذر(رض) (إنها (أي الحورية) تقول لزوجها، وعزة ربي ما أرى في الجنة خير منك، فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي)[1].
قاصرات الطرف من الحور لمن قصر طرفه عن النظر إلى الحرام:
ويقول أحد المفسرين، إن نعمة قاصرات الطرف من الحور العين اللواتي يقصر نظرهن عن رؤية غير أزواجهن، إنما هن لمن يقصر طرفه عن النظرة المحرمة، فلا يجعل عيناه تزيفان بالنظر إلى ما حرم الله تعالى وهناك من يقول علة تسمية الحور العين بقاصرات الطرف هي نهن يقصر طرف الرائي عنهن من شدة تألّق ضيائهن[2]، فلا يستطيع من مواصلة النظر إليهن.
وتذهب إحدى الروايات إلى تأكيد هذا المعنى إذ تقول (ولو أطلّت حورية من حور الجنة على أهل الدنيا لغشي عليهم من فرط جمالها، حتى أن ضوءها ليطغى على ضوء الشمس، ولو أنها بصقت في البحار المالحة لعذب ماؤها، وان المرأة من أهل الجنة ليُرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة من الحرير)[3]، فيكون ذلك زيادة في جاذبيتها[4].
رحلة خطوبة الحور العين تبدأ من المساجد:
وينقل كتاب بحار الأنوار عن رجل انه قال: رأيت يوماً الإمام زين العابدين (ع) وقد خرج لتّوه من الحمام وقد تخضّب ولبس جبّة وهو يروم الذهاب إلى المسجد ماشياً مشية ملؤها الوقار كأنه في مشية عرس، فدنوت منه وسألته: إلى أين يا سيدي؟ قال: إلى حيث تخطب الحور العين. (ومن الحور العين برحمتك فزوّجنا)[5].
إذاً الجنة مكان طاهر نظيف لا يشتمل على نجاسات أو أوساخ، فما فيها هو محض نور، ولذاتها نابعة من الجمال المحض فلا يعكّرها صفواً من نجاسة كما في لذات الدنيا وشهواتها. وعوداً على بدء، نقول إن معنى قاصرات الطرف هنّ من لا تتعدى أبصارهن أزواجهن.
الحور، ابكار لم يتزوجن من قبل:
(لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) أي لم يمسسهن أحد من الناس أو الجنّة، من قبل، ويرى البعض ان المقصود من هذه الآية الكريمة هو أن الحور العين المخصصات للرجل الانسي لم يطمثها أنسي قبله والحور العين المخصصات للجنّي المؤمن لم يطمثها جنّي قبله.
وبالتأكيد ان جمال الحور يتزايد ويتناقص تبعاً لأعمال المؤمن الصالحات واستناداً إلى ايمانه وتقواه. ثم تأتي الآيات اللاحق لتقدم لنا أوصاف الحور، وما يهمّنا الآن هو ان الجنة في سعادة لا تشوبها شائبة، ونعيم في نعيم لا ينغصه شيء.
ولعله من المناسب لمقالنا هذا أن نذكر احدى فضائل أهل البيت (ع)، تقول إحدى الروايات ان الحور العين بجمالهن الأخّاذ وضيائهن الباهر، يشع عليهن نور فجأة فيبهر أبصارهن ويغلب كل الأنوار (بما فيه نورهن) فيضاء له كل شيء هناك، فيتساءلن عن مصدر النور، فيأتيهن الجواب أن علياً وفاطمة (ع) قد أنسا ببعضهما فضحكا ضحكة فشع النور من فيهما.