هذا المنهج الذي ابتكره حسب ما تدّعيه الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ أُستاذها الأمين الخولي المصري، عبارة عن استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته وعرض الظاهرة الاسلوبية على كل نظائرها في الكتاب المحكم، وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة ثم سياقها العام في المصحف كلّه التماساً لسرّه البياني.
وحاصل هذا المنهج يدور على ضوابط، وهي:
ألف: التناول الموضوعي لما يراد فهمه من القرآن، ويُبدأ بجمع كل ما في الكتاب المحكم من سور وآيات في الموضوع المدروس.
ب: ترتّب الآيات فيه حسب نزولها، لمعرفة ظروف الزمان والمكان كما يستأنس بالمرويات في أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية دون أن يفوت المفسّر أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية.
ج: في فهم دلالات الألفاظ يُقدّر أنّ العربية هي لغة القرآن، فتلتمس الدلالة اللغوية الأصلية التي تعطينا حس العربية للمادة في مختلف استعمالاتها الحسية والمجازية.
ثم يخلص لِلَمحِ الدلالة القرآنية بجمع كل ما في القرآن من صيغ اللفظ وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة وسياقها العام في القرآن كله.
د : وفي فهم أسرار التعبير يحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم ملتزمين ما يحتمله نصاً وروحاً، ويعرض عليه أقوال المفسّرين فيقبل منها ما يقبله النص.
هذا خلاصة هذا المنهج الذي ابتكره الأُستاذ الخولي المصري واقتفت أثره تلميذته بنت الشاطئ، فخرج من هذا المنهج كتاب باسم «التفسير البياني للقرآن الكريم» في جزأين تناول تفسير السور التالية في الجزء الأوّل: «الضحى، والشرح، الزلزلة، النازعات، العاديات، البلد، التكاثر» كما تناول في الجزء الثاني تفسير السور التالية: «العلق، القلم، العصر، الليل، الفجر، الهمز، الماعون».
ولاشك أنّه نمط بديع بين التفاسير، إذ لايماثل شيئاً مما أُلّف في القرون الماضية من زمن الطبري إلى العصر الأخير الذي عرف فيه تفسير الإمام عبده وتفسير المراغي، فهذا النمط لايشابه التفاسير السابقة، غير أنّه لون من التفسير الموضوعي أوّلاً، وتفسير القرآن بالقرآن ثانياً، والنقطة البارزة في هذا النمط هو استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده في الكتاب.
وبعبارة أُخرى: يهتم المفسّر في فهم لغة القرآن بالتتبع في جميع صيغ هذا اللفظ الواردة في القرآن الكريم ثم يخرج من ضمّ بعض إلى بعض بحقيقة المعنى اللغوي الأصيل، وهو لا يترك هذا العمل حتى في أوضح الألفاظ. مثلاً تتبع في تفسير قوله سبحانه: (ألَم نَشرَح لَكَ صَدرَك) كل آية ورد فيها مادة «الشرح» بصورها، أو كل آية ورد فيها مادة «الصدر» بصيغه المختلفة، وهكذا في كل كلمة حتى وإن كان معناها واضحاً عندنا لكنّه لايعتني بهذا الوضوح، بل يرجع إلى نفس القرآن ثم يطبّق عليه سائر الضوابط من تدبّر سياق الآية وسياق السورة، وسياق الآية العام في القرآن كله.
والذي يؤخذ على هذا النوع من التفسير أنّه أمر بديع قابل للاعتماد، غير أنّه لا يكفي في تفسير الآيات الفقهية بلا مراجعة السنّة، لأنّها عمومات فيها مخصصها، أو مطلقات فيها مقيدها، أو مجملات فيها مبينها.
نعم هذا النمط من التفسير يُغني عن كثير من الأبحاث اللغوية التي طرحها المفسرون، لأنّ المفسّر في هذا النمط يريد أن يستخرج معنى اللفظ منالتدبّر في النص القرآني، نعم معاجم العربية وكتب التفسير تعينه في بداية الأمر.
وربما يوجد في روايات أهل البيت في مواضع، هذا النوع من النمط، وهو الدقة في خصوصيات الآية وجملها ومفرداتها.
1 . روى الصدوق بإسناده عن زرارة قال:
قلت لأبي جعفر ـ عليه السَّلام ـ : ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: «يازرارة قاله رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ونزل به الكتاب من اللّه عزّ وجلّ، لأنّ اللّه عزّ وجلّ قال: (فاغْسِلُوا وُجُوهَكُم) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أنّ يغسل، ثم قال: (وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِق) فعرفنا أنّه ينبغي لهماأن يغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلامين فقال: (وامسَحُوا بِرؤُوسِكُم) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان «الباء» ثم وصل الرجلين بالرأس، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما، ثم فسر ذلك رسولاللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ للناس فضيّعوه»(1).
. روى الكليني بسند صحيح عن حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ أنّه سئل عن التيمّم، فتلا هذه الآية: (والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقطَعُوا أيْدِيَهُما) وقال: (فاغسِلُوا وجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِق) قال: فامسح على كفّيك من حيث موضع القطع(2).
فقد استظهر الإمام في التيمّم كفاية المسح على الكفين بحجّة أنّه أطلق الأيدي في آية السرقة والتيمّم ولم تقيّد بالمرافق وقال: (فَلَم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيّباً فَامسَحُوا بِوجُوهِكُم وأيْدِيكُم مِنه)(3) فعلم أنّ القطع والتيمّم ليس من المرفقين.
وأمّا التعبير عن الزند بموضع القطع ـ مع انّه ليس موضع القطع عند السرقة كما مرّ ـ فانّما هو لأجل إفهام مبدأ المسح بالتعبير الراسخ ذلك اليوم، أي موضع القطع عند القوم.
3. سأل أبو بصير أحد الصادقينعليمها السَّلام هل كانت صلاة النبي إلى بيت المقدس بأمر اللّه سبحانه أو لا ؟ قال: «نعم، ألا ترى أنّ اللّه تعالى يقول: (وَما جَعَلنا القِبْلَةَ التي كُنْتَ عَلَيها إلاّ لِنَعلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُول) »(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ ــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: المناهج التفسيرية في علوم القرآن / الشيخ جعفر السبحاني
1- الوسائل: 1، الباب 23من أبواب الوضوء، الحديث1. والآية 6 من سورة المائدة.
2- الوسائل: 2، الباب 13 من أبواب التيمم، الحديث2.والآية 38 و 6من سورة المائدة .
3- المائدة: 6.
4- الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب القبلة، الحديث2.والآية 143من سورة البقرة.