تلك الأوقات كانت نابضة بالمأساة مذ عرفتهم الحياة، كانوا أشد الناس صلة بالله، بل كانوا أقربهم له، غير أنهم لم ينالوا من هذا القرب -ظاهراً- أي امتياز آخر غير حالة الامتحان المستمرة التي لا تستقر ولا تعرف الهوادة.
الامتحان.. الابتلاء، كلمات مرادفة للألم الذي كانوا يتجرعونه باستمرار، عبر ظلاماتهم تارة، وعبر الخذلان وقلة الناصر تارة أخرى.. في كل مرة أفتى بها القهر أن يزور بيت النور هذا؛ تولد قصة حزن جديدة، وتسري المأساة مرة أخرى في عروق ما تبقى من نبض حياتهم.
ذات مرة.. وبعد صراع طويل مع وشيجة الأخوة، قرر الحسين بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، فرع النور لشجرة هذا البيت، قرر أن يسلم أخاه العباس إلى مصيره الأخير، حيث مصرعٍ دامٍ لا يخلوا من رفيقتهم المأساة، حينها أقدم الحسين إلى مخيم أخيه ليعلن أن العباس لم يعد موجوداً أيها المنتظرون!! يقول أرباب المقاتل أنه: "أقبل إلى خيمة العبّاس، فأسقط عمودها، عندها ارتفعت الأصوات بالبكاء...".
تكشف هذه التراجيديا المؤلمة عظيم قدرة أهل البيت، عليهم السلام، على اختزال الفاجعة وتصويرها في موقف أو حركة أو كلمة. اختصرت حركة الحسين هذه ملايين الكلمات التي كانت سوف تكتب عبر التاريخ لتصوّر لنا هذه اللحظة الدامية، لقد جاء اسقاط عمود الخيمة مكملاً لسلسة العبارات التي أطلقها أبو عبد الله ناعياً اخيه: "الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي".
هذه الحرفية في اختزال الحزن العميق لم تأتِ وليدة الموقف.. لم تكن ارتجالية أبدا كما تبدو للوهلة الأولى، وإنما جاءت بتأسيس مسبق من مواقف عاشتها أمه فاطمة الزهراء، وأبيه علي بن أبي طالب، عليهما السلام.. لقد شاطر الحسين أصليه في محاكاة الشعور بالوجع الصامت.
نبدأ بفاطمة، وسننتهي بعلي، وللقصتين نهاية واحدة!
فاطمة والبكاؤون الخمسة
بكت فاطمة، عليها السلام، على أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، حين وافاه الأجل، لكن السؤال العريض الذي يطرق الأسماع، هو هل يحق لبنت نبي أن تبكي على أبيها؟.. هل يحق لها الجزع لدرجة أن هناك من اشتكى بكائها الدائم على النبي؟
ويأتي الرد في رواية وردت عن الإمام جعفر بن محمد الصادق، عليه السلام، وهي رواية معروفة يذكرها العلامة المجلسي (ره) في كتابه بحار الأنوار، وتتحدث عن "البكاؤون الخمسة"، إذ يقول الإمام الصادق: "البكاؤون خمسة: آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه واله وعلي بن الحسين عليهما السلام. فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الاودية; وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له: " تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين " وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحدة منهما...".
إذاً، لم تكن فاطمة، عليها السلام، أول من بكى لفقد عزيز، وإنما كما يبدو من الرواية أن البكاء عادة جرت على الأولين ولم يستثن منها حتى الأنبياء وإن كانوا من أولي العزم!، وهذا يعني أنهم يشتركون جميعاً في تصوير ألمهم ومعاناتهم عبر بكائيات مترابطة ومتشابهة نوعاً ما، بدءاً من آدم، وانتهاءً ببكاء زين العابدين على أبيه الحسين على مصرعه المرعب.
فاطمة تبكي أباها..
في ظروف حساسة وحرجة، حانت ساعة رحيل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فنعى نفسه بحضور ريحانه الوحيدة. ينقل الشيخ المفيد (ره) رواية مفادها: "لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال: أبكي لذريتي وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة بنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه، فلا يعينها أحد من أمتي، فسمعت ذلك فاطمة (عليها السلام) فبكت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تبكِ يا بنية، فقالت: لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، ولكني أبكي لفراقك يا رسول الله، فقال لها: أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي...".
كانت هذه الساعات الأخيرة لرسول الله، والتي أخبر فيها بحتمية الظلم الذي سيقع على أهل بيته وأولهم ابنته فاطمة، كان لتلك الكلمات وقع كبير عليها على الرغم من أنها حملت بين طياتها بشرى ختم بها الرسول نبوءته بالظلم والفراق.
لقد كان للنبي سبق المواساة لابنته ببكائه قبيل الرحيل، وهو الآخر عبر عما يجري واختزل معاناة فاطمة بدموعه التي بلّت لحيته الشريفة، إذاً رسول الله يبكي لمصير فاطمة، فما الذي يمنع الأخيرة أن تبكي هي أيضا أسوة بأبيها وخصوصاً أنها عللت ذلك البكاء بالقول: "أبكي لفراقك يا رسول الله". فتأملوا!.
لكن كيف ترجمت فاطمة عليها السلام مأساتها هي الأخرى بعد رحيل أبيها؟
في تتمة الرواية التي أوردها المجلسي (ره) يقول الإمام الصادق، عليه السلام، مشيراً إلى ما قامت به فاطمة بعد رحيل النبي: "وأما فاطمة فبكت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى تأذى به أهل المدينة فقالوا لها: قد آذيتينا بكثرة بكائك، فكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف...".
لقد كان البكاء خير وسيلة لإظهار حجم المعاناة والألم اللذين نالا من الزهراء، عليها السلام، تلك الشابة بدأت تذبل تدريجياً كزهرة تساقطت أوراقها بعد أن يبس عودها.
شهقة مميتة..
في موقف آخر.. بلال الحبشي، مؤذن رسول الله، كان قد امتنع عن الأذان بعد رحيل النبي، صلى الله عليه وآله، وكان يقول: "لا أؤذن لاحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)"، لكن فاطمة الزهراء عليها السلام قررت ذات يوم أن تسمع صوت مؤذن أبيها.
تشير الرواية إلى أن ذلك بلغ بلال "فأخذ في الاذان، فلما قال: الله أكبر الله أكبر، ذكرت أباها وأيامه، فلم تتمالك من البكاء، فلما بلغ إلى قوله: أشهد أن محمدا رسول الله شهقت فاطمة (عليها السلام) وسقطت لوجهها وغشي عليها".
حزن علي.. تراجيديا حية حتى اليوم
أما زوجها علي بن أبي طالب عليه السلام، فانفرد بمشهد حزن بقي حتى يومنا هذا شاهداً على عظيم الألم الذي عاشه بعد وفاة كفؤه فاطمة، "فبعين الله تدفن بنتك سرا، ويهتضم حقها قهرا ويمنع إرثها جهرا.."، وفي هذه الكلمات الأخيرة التي قالها بعد انتهائه من دفنها ما يصور لنا شيء يسير من حالة الألم التي عاشها في تلك اللحظات.
وبقيت الزهراء، عليها السلام، سيدة الموقف ترسم سيناريو مأساتها بنفسها، سيّما وأنها أوصته، عليه السلام، بأن يدفنها ليلاً، وكانت لهجتها تحمل إصراراً كبيراً على أن يكون كل شيء كما تريد هي، لا كما يريده الناس ومن خذلها، وكان لها ما تريد، فكانت من تداعيات هذا الأمر -دفنها سراً- أن استشعر الجميع حجم الخطأ الذي ارتكبوه بحق بنت نبيهم، التي أوصاهم بأن يحفظوا حقها، حتى وصل بهم الأمر إلى قرار غبي يخلص إلى نبش كل القبور لكشف قبرها الذي أصبح لغزا محيراً بالنسبة لهم.
لقد حددت الزهراء مع زوجها مصير ظالميها بغضب لا قبل له: "إذا أنا مت فادفني ليلا ولا توذنن رجلين ذكرتهما.."، هكذا تقول الرواية!.
صفوة القول: قد تبدو لنا أحيانا وسائل حزن الأنبياء والأوصياء وفروعهم بشرية، لكنها وإن كانت كذلك فهي تصور بحرفية عالية مأساتهم التي لا تزال تستحضرها الدموع في تراجيديا حية حتى يومنا هذا.
شبكة النبا المعلوماتية