تركت الخطيب ناعيا، وارتجلت مخيلتي الى عوالم بهجة، أشعل الروح أفياء لقاء، وأطوف جنوني الى سنا هذا الوجد في يوم مقتله الزاكي، رأيت هناك الأرض تنزف محنتها، وعلى جبين رابية قرأت:
(علي بن الحسين بن علي سلام الله عليهما، أمه شاه زنان، والولادة 5 شعبان 38هـ القاتل: الوليد بن عبد الملك، ومكان الدفن: البقيع)، وأنساب مع نهر الدم الى قلب المعنى، وقفت أمام علامة استفهام كبيرة أسألها: كيف نجى السجاد (عليه السلام) من واقعة الطف، وشاغلت نفسي عن أي تفسير، فأنا مقتنع بأنها عناية الله تعالى لا غير، ليبقى نسل رسول الله (ص) يواجه الطغاة في كل حين، وإلا ماذا نرجو من قوم ذبحوا رضيعاً همّ أبوه لتوديعه، كنت أسمع نحيب رابية قريبة عني، التفت اليها وإذا بها تخبرني:ـ
استلم السجاد (سلام الله عليه) الإمامة عام 61 هـ بعد مقتل الحسين (عليه السلام)، قلت: أريد أن تحدثوني عن أشياء أثمرت بها التواريخ عندكم؟ قالت رابية وهي تحدثني عن أخلاق الإمام:ـ إن رجلاً شتمه، فقال له: إن كنت قلت ما بي غفر الله لي، وإلا فغفر الله لك.
قلت أبحث عن ثمر التواريخ، وأرى امامي مجامر ومجازر وأهلاً ودموعاً وما تبقى من قبور، ولجت غار المعنى أبحث عن ضحى الكلمة، وأسمع سيدي السجاد ينادي بأهل الكوفة: (أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات)، وسمعته ينادي بأهل الشام: (أنا ابن مكة ومنى.. انا ابن زمزم والصفا.. انا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء)، نهضت تاركاً خلفي اشتعالات النداء، أبحث عن ما يتوج الرايات بزهو هذه الرؤيا الجليلة، والدنيا أشعرها تمطر تواريخ ورؤى، أستكين تحت ظلال تأريخ، لأقرأ:ـ
(الإمام الحسين عليه السلام، كسر حاجز الخوف بنهضته، وساهم الامام السجاد عليه السلام بإثارة الرأي العام، ففتحت الباب على مصراعيه امام الثورات).
شلالات طفوف تطل على جراحات منهمرة بنيونات الندى المتكربلة، وإمامي السجاد (عليه السلام) له المدى والندى، ونداء فجر يوقظ العالم للصلاة، ونبض صبر غيور، روى لي تل في مرتفع الوثوب أن هشام بن عبد الملك كان ولياً للعهد، ومع سطوة الدولة وقوتها وهيأة الرجال من خدم وحشم وموكب يزهو عجز عن الوصول إلى (الحجر الأسود)، كرَّرها فلم تفلح محاولاته، وإذا بإمامي السجاد (سلام الله عليه).
بدأ بالطواف حول الكعبة، ثم توجه بخطوات مطمئنة يريد لمس الحجر الأسود، فلما رآه الناس انفرجوا قسمين، وتنحّوا عنه هيبةً وإجلالاً، واضطرم السؤال من هذا، فكان الخوف اعمى. أجابهم حينها الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم... هذا التقي النقي الطاهر العلم
وليس قولك من هذا بضائره... العربُ تعرف من انكرت والعجم
فقال للفرزدق غاضباً:ـ ألا قلت فينا مثلها؟ فقال الفرزدق: هات جداً كجده، وأباً كأبيه، وأمّاً كأمّه، حتى أقول فيك مثلها؟ فأمر هشام بحبسه.
يرتدي قامة التراب ليقودني الى نبض الوجد؛ كي أزكي مستحدثات جنوني، عثرت على إشراقة الشوق، إذ رتلت لي رسالة سيدي السجاد الى عبد الملك الزهري مفتياً:
1- أنظر أي رجل تكون غداً، إذا وقفت بين يدي الله، فسألك عن نعمه عليك كيف رعياتها.
2- ما أخوفني بإثمك غداً مع الخونة.
3- حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم.
4- ما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك.
5- وما أيسر ما عمروا لك فكيف ما خربوا عليك.
6- فانظر لنفسك فإنه لا ينظر إليها غيرك وحاسبها حساب رجل مسؤول.
انظر حولي، فكل شبر في هذه الصحراء الممتدة باليقين تعلمنا نشوة الحضور، للرمل حدقات تبصر وجه التأريخ لماذا قتلوه؟ تلك حكاية توشج زهوها بالحنين.
دُهش الحجاج لشخصية السجاد (عليه السلام) وتأثيره العارم بالناس، فخاف منه وقلق على سلامة العرش، فكتب الى عبد الملك بن مروان، رأى عنده الخوف اكبر من خوفه فجاء الى الوليد بن عبد الملك بن مروان، بعث السم الى واليه على المدينة سليمان بن عبد الملك وأمره أن يدس السم خفية في شراب وطعام علي بن الحسين (عليه السلام)، دُفن بالبقيع بجوار عمه الحسن (سلام الله عليه)، وفي هذا اليوم الذي تمر به ذكرى مصابك سيدي يوم ارتعشت الأرض، فاستفحلت العاصفات بنا، ونحن نحفل بانتظار وقور لمن سيقيم القسط مهديا بالصلوات...
سلام الله عليك سيدي علي بن الحسين السجاد زين العابدين ورحمة الله وبركاته.