المنولوج هو الكلام غير المسموع وغير الملفوظ، تعبر به الشخصية عن أفكارها الباطنية، والتي تكون أقرب الى اللاوعي، وهذه الأفكار لا تخضعُ للتنظيم المنطقي وفي مسرحية (حين نطق الدم) للكاتب منور ناهض الخياط والتي هي عبارة عن محتوى نص تابع لمجموعة مسرحيات تحت عنوان (الطف يتكلم).
أربع مسرحيات منها مسرحية حين نطق الدم، حوارات ذهنية قادرة على تقديم المحتوى النفسي للشخصية والعملية النفسية، هي عبارة عن تداعيات مشدودة بلا شعورية تراها محكومة بالوعي (التذكر) وتارة منفلتة، بحيث تكون ذاكرة لا إرادية تتدفق تلقائياً للسيولة النفسية، وهي أساساً غير منضبطة باعتبارها تداعيات حرة تمنحنا الكثير من بيانات التأويل.
في المشهد الأول يقول الشمر: (ها هو الليل يأتي أخيراً, وها أنذا أنسل تحت دثاره الأسود أبغي السكون والاطمئنان) تصور المسرحية بهذه الدلالات المرعبة الشمر وهو يبحث عن الليل تلك المنطقة المظلمة، ليأوي وحداته المرتبك بها ليبحث عن السكون والاطمئنان.
ينتظر الليل بشغف، وهذا تجسيد كلي للتيه والضياع انتظار العتمة – تحريك دواخل النص بأمنية شبقة: (أغمض عيني على وجه جارية جميلة تكاد تموت بي عشقا، لكن هيهات أن يحصل ذلك).
اشتغال فكر الشمر اشتغال مادي غريزي، لا يخرج عن اطار اللذة (جسد، طمع، جشع) وخاصة بعدما فقد الرجولة، وما عاد قادراً على ابراز فحولته تصبح اليقظة غير فاعلة وغير مجدية، لذلك يبحث عن الليل.
حوار المنولوج بأفعاله وتفاصيله ووحداته مثلت جوهر المعنى: (تلك الرماح الشاخصة تقبع على اسنتها كنوز ابن ذي الجوشن) هذا هو مفهوم النصر عنده أن يبيع تلك الرؤوس، ولديه القتال تجارة تجلب الكنوز (آه يا بن علي، كم كنت شجاعا، ان كرسي الحكم يستحق اكثر من ذلك).
هذا هو مفهوم الصراع عند الشمر، المنولوج كشف لنا عمق الداخل الشعوري, لغة بوح فيها الندم والعبث الفكري يخاطب الحسين (عليه السلام) في مخيلته يقول له: (لم تكن خطواتك محسوبة بشكل دقيق).
وفي جملة أخرى يرى الشمر نفسه انه رجل ذو حظ عظيم، وفي أخرى يقر بسطوة الحسين (عليه السلام) وقوته ويقول: (والله ان كرسي العرش سعى لهم سعيا وهم يعطون له ظهورهم ينظرون الى الأفق بوجه خاشع مستكين)، ليصرخ بعد هذا الصراع النفسي (أنا الأقوى).
الحوارات الداخلية تكشف دواخل الشخصية، ثم يسعى داخل تمرده المعتاد: (قطعت رأس ابن فاطمة) ويصف لنا الحدث (امسكت برأسه ونحرته بسيفي هذا حتى كدت ان انحر معه الأرض)، حرر الكاتب لغته بعيدا عن التقريرية بطاقة تعبيرية فاعلة في النص، البحث في ذهنية ابن سعد لا يهمه سوى المال يتغنى به كمجد وفوز وحياة وتستفحل الذاتية, التفكير, القلق، والخوف حتى من الليل الذي يسميه الصديق الوفي ولكن في هذه المرة يصرح: (أخشاه ان يغدر بك الليل يا بن ذي الجوشن).
وهذا الحوار الداخلي يكشف عن نفسية الشمر، وحتى نفسية الحكومة التي يتعامل معها أسئلة متداعية تكشف عوالم العبث النفسي داخل نفسية الشمر (اذن احذر من نفسك) ولا يتردد عن تقطيع نفسه الى أشلاء متناثرة: (هل تقطع رأسك؟ نعم وقبل ان يتفوه بكلمة واحدة).
وهذه الأسئلة تحيلنا الى أسئلة مسائلة الذات أولاً هذه الورطة الكبيرة التي سقط فيها الشمر ليقر أن قلبه أمسى حجرا صلدا لا روح فيه: (منذ متى يا بن ذي الجوشن؟ منذ ان ذبحت الحسين).
أعاد مفردة الندم مرتين، فما الذي ترسخ في ذهنية الشمر النصر ام الضياع؛ كونه عاش في ذاته الالتقاء الهابط الذي لا روح فيه؟ نصر ميت وجوائز لا حقيقة لها شخصية منعزلة عن العالم رغم انها عبثت فيه لا حلم لها بالتواصل مع احد يبحث عن مصالحه.
ويرى يزيد هو الاخر العالم حسب رؤيته: (المجد نحن ونحن المجد, فلنا كل شيء: المال، العبيد، الجواري، الخيول، الأغنام، الجمال، الديباج) هذه اضاءة لقراءة نفسية الحاكم الذي لا يرى إلا اوهامه، ويخاطب الحسين الذي في مخيلته: (نحن القوة يا حسين).
لم يكتفِ كاتب النص بكتابة هذه الخواطر الذهنية للحاكم يزيد، لكنه راح يحفر في عمقه النفسي فخلف نظيراً متخيلاً، وأسس عليه رؤى التوقع، وإذا بالحسين يدخل منتصرا وهو ينادي: (من دخل دار يزيد فهو آمن).
وتدار أحداث فتح مكة في عرش ابن زياد، فرض الكاتب هيمنته على الاحداث ليصل الى الانتماء الروحي الذي هو ليس من أساليب الكتابة، فلذلك يرى يزيد بهويته بمعناه الذي يقدمه الانتماء، وهو في منطقة الصراع تصبح وسيلة من وسائل التعبير عن الموقف فعنده يزيد يصرخ في النص (حتى وهم في حضن الموت رؤوسهم تعلو الجميع صارخاً: اخفضوا الرماح وامنعوا النصر من أن يدنوا من ابن علي).
وعندما تتحول المنولوجات الى مواجهة تحاورية بين منولوج الشمر وبين منولوج يزيد الذي حاول التملص من المسؤولية: (يزيد:- أنت من كان في كربلاء، وليس انا، لقد أقدمت على فعلة شنعاء يا شمر, لم أقل لك أن تقتل الحسين, فلا تحملني جريرة ما حدث)، فهل هذا هو مستوى الحضور الحقيقي ليزيد؟ أليس هو الذي تغنى بأمجاد اشياخه ساعة رأى الرؤوس، يعود الشمر دخل صومعة المنولوج: (أي لعنة حلت عليك يا بن ذي الجوشن، انا الخاسر الوحيد في هذا العرش).
محوران مهمان في هذا المنولوج الأول المذلة والخسران، وهذا واضح في التبيان الحرفي: (كل ماء الفرات عاجز عن إزالة دم الحسين)، وهذا المحور يترك حيزاً كبيراً للشعرية العالية لتدخل النص المسرحي وهو يقول لنفسه: (لقد كدت تغرق الفرات بخطيئة كبرى حين منعته عن الحسين وأهله) ليطل على نتيجة مفادها: (لا بد من البحث عن مجزرة جديدة وحسين آخر).
أما المحور الثاني، فهو المحور المضمر المتحرك داخل بنيته النصر الحقيقي والحسين (عليه السلام) بسطوة انتمائه الجاد للإنسانية، للنور، وخوف العدو المتمكن بقدرته العسكرية من هذا البطل الغائب في النص، ويعني حضور الحسين المعنوي وكلمته المؤثرة الني جعلت من يزيد كاذباً متملقاً في المشهد الخامس، نجد ان السطوة الشعرية وصلت الى وهج المغامرة عندما تدخل معترك المسرحية: (من قال للحسين ان يكون بهذا الكبرياء).
الكاتب منور ناهض الخياط نقل لنا في هذه المسرحية كل ما يمثل رأسه المتعب من جرائم التاريخ، لينظر صوب انتشار الشمر في جسد التردي، وليظهر في كل الأزمنة، فها هو في العراق يعيد ويصيح:- (حرملة اين سهامك يا حرملة)، وبعد هذا تكون لنا وقفة إن شاء الله تعالى مع بقية المسرحيات مع اعتزازنا بما كتب هذا المبدع.