أ.م.د. عباس علي الفحام
حاز الشريف الرضي ملكات أتاحت له الإبداع في اختياراته لكلام الإمام علي عليه السلام وحسن تبويبها ، واختيار هذا الاسم الخالد لها (نهج البلاغة)، إضافة إلى جمال تعليقاته عليها، وهي إضافات فنية رائعة تستحقّ لوحدها أن تدرس كظاهرة فنية وموضوعية.
شاعرية الشريف الرضي وفصاحته
ولعل أولى تلك المواهب هي شاعريته وتمكنه من الإمساك بزمام ناصية العربية الفصيحة وبلاغتها الرفيعة، فالرضي أصلا شاعر مبدع قدم هذا الفن القولي بممازجة رائعة بين فنون البيان والبديع، وعنايته بذلك هي التي أتاحت له دراسة النصوص البلاغية الرفيعة بمستوياتها المختلفة من الإعجاز المتمثل بكتابه (تلخيص البيان) حتى النصوص النبوية الشريفة في كتابه (المجازات النبوية) والكلام العلوي الرائع في كتابه (نهج البلاغة). نعم كان الحس البلاغي وعناية دراسات الرضي بالفنون البلاغية مكنته من تقديم أعمال علمية رائدة أغنت المكتبة العربية وأثرت البحث العلمي بشكل لافت بما ذكرنا من المصنفات العظيمة التي قدمها الرضي رحمه الله تعالى.
قوله لنهج المقصد العلوي
وقد أعرب الرضي عن نهجه في مقدمة كتابه (نهج البلاغة) وعن السبب الذي دعاه لاختياراته فقال : (فإني كنت في عنفوان السن، وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب خصائص الأئمة عليهم السلام يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم : حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب وجعلته أمام الكلام. وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا عليه السلام. وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان ومماطلات الأيام. وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا. وفصلته فصولا فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة. فاستحسن جماعة من الأصدقاء والإخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وآداب علما أن ذلك يتضمن عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب… ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة : أولها الخطب والأوامر. وثانيها الكتب والرسائل وثالثها الحكم والمواعظ. فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم والأدب، مفردا لكل صنف من ذلك بابا ومفصلا فيه أوراقا لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا ويقع إلي آجلا. وإذا جاء شيء من كلامه عليه السلام الخارج في أثناء حوار أو جواب سؤال أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها وقررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الأبواب به وأشدها ملامحة لغرضه . وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة، ومحاسن كلم غير منتظمة، لأني أورد النكت واللمع ولا أقصد التتالي والنسق) (نهج البلاغة، الإمام علي (ع): 1/12). الاختيارات – إذن – جاءت على أساس من حس بلاغي رائع وشاعرية مرهفة تدل عليها الألفاظ التي جاءت على لسانه في أكثر من موضع في مقدمته مثل (محاسن، اختيار) ونحو ألفاظ تنم عن حس بديعي يشير إلى البلاغة القديمة نحو (النكت، اللمع). إن تجربة دراسته الجمعية لكلام أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه (نهج البلاغة) تكرار لتجربته في الدراسة البلاغية المستفيضة للحديث النبوي في كتابه الرائع (المجازات النبوية)، غير أنه في الأول بدا جامعا بلاغيا بينما في الثاني كان بلاغيا بشكل واضح. وكلا الحالين ينم عن تمكن في الأداء البلاغي تعززه الأمثلة التي فصل الكلام فيها في ذكر بعض الفنون البلاغية كالبيان والبديع والمعاني.
المصطلح البلاغي عند الرضي
بقي أن نؤكد حقيقة مهمة في الدرس البلاغي عند الرضي تتعلق بقضية المصطلح البلاغي، فالسيد الرضي من العلماء البلاغيين الذين يميلون إلى الاتجاه الأدبي في الدراسات البلاغية الذين لا يعنيهم تحديد المصطلح البلاغي، ومن المعروف أن عصر الرضي وهو الرابع والخامس الهجري شهد خلطا واضحا بين المصطلحات البلاغية فقد يعنون بالبلاغة الفصاحة وقد يطلقون الفصاحة على الاستعارة أو فنون علم المعاني أو البديع(ظ.البلاغة العربية، أحمد مطلوب : 53-59) كما في تعليقاته الكثيرة على كلام الإمام علي مطلقا مصطلح (الفصاحة) على الفن الاستعاري مثل شرحه لقول الإمام عليه السلام في دعاء استسقى به: ((اللهم اسقنا ذلل السحاب دون صعابها)) فقال: (وهذا من الكلام العجيب الفصاحة، وذلك أنه عليه السلام شبه السحاب ذوات الرعود والبوارق والرياح والصواعق بالإبل الصعاب التي تقمص برحالها وتقص بركبانها، وشبه السحاب خالية من تلك الروائع بالإبل الذلل التي تحتلب طيعة وتقتعد مسمحة)) ()نهج البلاغة، الإمام علي (ع): 4/108 – 109). ومثل ذلك قول الإمام عليه السلام: (لنا حق فإن أعطيناه وإلا ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السرى) فقال: ((وهذا من لطيف الكلام وفصيحه، ومعناه أنا إن لم نعط حقنا كنا أذلاء وذلك أن الرديف يركب عجز البعير كالعبد والأسير ومن يجري مجراهما)( نفسه :4/ 6). وغير ذلك كثير في كتاب النهج من تذييلاته رحمه الله مثل عبارة (وهذا من أفصح الكلام، العبارات الفصيحة، عجيب الكلام..)).
وخلاصة القول أن الرضي صنع كل الخير بجمعه للكنوز المتناثرة من رفيع البلاغة العربية جمعا ابتني على أسس موضوعية وفنية، وشرع لاختياراته اسما جامعا استقاه من نفس علي عليه السلام وبلاغته فكان بحق (نهج البلاغة).
نشرت في الولاية العدد 87