بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


قال الله تعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ... ﴾ من المميزات الأساسية للشخصية الإسلامية الملتزمة هي التكيّف مع الحكم الشرعي والالتزام به سواء كان لصالح المسلم أو ضد صالحه، وهذه هي الميزة التي نعبر عنها بـ (الصدق مع الله ومع النفس ومع الناس) والتي تعكس القدرة التربوية في العقيدة الإسلامية على صياغة الإنسان القادر على التحكم بميوله وغرائزه الشخصية أو الفئوية وعدم الانجرار وراءها إلى ما لا يرضى الله ولا يكون موضع القبول عند الناس بالعموم.

وهذه الميزة التي تؤكد عليها الآية القرآنية والتي تحدد المسار العملي للإنسان المسلم في كيفية التعاطي مع كل القضايا التي تواجهه، ترشده إلى النموذج الحقيقي لمواقفه من الأحداث، بأن يكون إلى جانب الحق في القضية المتنازع عليها، وذلك لأن الحق والباطل لهما أكثر من معنى، وعلى المسلم أن يعلم تلك المعاني المتعددة للحق حتى يعرف بالتالي كيف يميز بينها فلا يخلط أحد معاني الحق بشيء آخر تكون نتيجته بعيدة عن الالتزام وتكون معبرة عن اتّباع الهوى والتعصب ولو من دون علم أو دراية مما ينعكس سلباً على شخصية هذا الملتزم وينعكس سلباً على جذب الآخرين الذين لن يميزوا حينئذ المسلم الملتزم الذي لا يأخذ موقف الحق إلى جانب من له الحق ويقف إلى جانب أخيه المسلم الملتزم الآخر ولو كان إلى غير جانب الحق.

ولتوضيخ الأمر أكثر فإن مورد الكلام هو معنيان للحق والباطل:

الأول: الحق والباطل في الاعتقاد والسلوك الشخصي.

الثاني: الحق والباطل في المنازعات الشخصية بين الناس.

والآية الكريمة ناظرة إلى الحق والباطل بالمعنى الثاني، أي أن المسلم ولو كان على حق في الاعتقاد، وكان بينه وبين غيره منازعة في أمر ما سواء كان الآخر غير ملتزم بالحق كلياً أو ملتزماً به لفظاً وليس سلوكاً وتطبيقاً وكان الحق بالمعنى الثاني إلى جانبه، فهنا يجب بمقتضى دلالة الآية أن يرضخ المسلم الملتزم ويسلّم بالحق بمعناه الثاني للغير.

إلا أننا من الناحية العملية وبالنظر إلى الواقع الذي نعيش، نرى أن المسلمين الملتزمين بالحق بمعناه الأول في مسيرتهم العملية يربطون ما بين المعنيين للحق، إما بسبب الجهل بعدم الترابط بين هذين المعنيين للحق، أو بسبب الهوى والتعصب اللذين لم يستطع الملتزم بالحق بمعناه الأول التخلص منهما ومن نتائجهما السلبية، وهذا الخلط يمارسه بعض الملتزمين مع أن فيه من الضرر عليهم وعلى الدعوة ما لا يخفى، ولهذا نجد أن الآية تجعل من الذي يقف إلى جانب الحق بمعناه الثاني ولو على حساب الملتزم بالحق بمعناه الأول، هو السائر في طريق التقوى والعدل، وهو الطريق المنجي للمسلم في الآخرة، والباعث على تشجيع الآخرين من غير المسلمين أو غير الملتزمين إلى الدخول في الإسلام أو إلى الالتزام العملي، ولا شك أن هذا الأمر هو المرغوب عند الله عزوجل، وقد أكده في آية أخرى تقول:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ .

وقد ورد في الحديث عن المعصومين (عليهم السلام) الشيء الكثير الذي يؤكد ما تضمنته الآيتان من توجيه للمسلمين، ومن ذلك كنموذج ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف، وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة). وكذلك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي يؤكد فيه على نفس هذا المعنى: (لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة).

إذن هي دعوة لالتزام جانب الحق بكلا معنييه حتى نستطيع إعطاء النموذج الأفضل للشخصية الإسلامية التي تتعالى وتترفع عن الهوى والتعصب وتعيش الصدق مع الله في كل الحالات، خاصة الصعبة منها، ولو كانت على حساب النفس كما يقول الحديث الشريف: (الصدق ينجيك وإن خفته، والكذب يرديك وأن أمنته).

والحمد لله رب العالمين.