(1)

انتابني شعور غريب وأنا أدخل الصف الدراسي لأول مرة في حياتي، كان ارتباكي على ما يبدو واضحاً جداً، حتى جعل هؤلاء الطلاب ينظرون نحوي بوجوم عميق، العيون ساهمة، دون أن يتحرك فيها هدب، فازدان المشهد بالصمت لدرجة أني صرت أسمع زفير أنفاسهم، ربما شبابية عمري، وصغر حجم جسدي، جعلهم يستغربون وجودي بينهم كمدرس، وخاصة أن بعض الطلاب يبدون أكبر مني لضخامة أجسادهم، المهم أن تعييني في مدرسة تقع في أطراف القرى النائية، جعلني أحمل انطباعات تكاد تكون متقاربة مع ما أعيشه اللحظة.

لابد لي أن أقف أمام طولي، وأنا الذي قضيت نصف عمري بالكتابة الأدبية، وبتفاسير القرآن والدراسات الدينية والحوزوية، والقراءة المكثفة والمنوعة، أمامي آفاق الثقافة الاحتوائية، وامكانية جذب المتلقي، ولهذا صرت أتخطى أمامهم بمهابة، وأنظر في عيونهم دون تركيز، وفتحت حينها باب التعارف.

والغريب في الأمر، إن هذا التعارف هو الآخر لم يجد نفعاً، كل يفتح فمه على قدر العبارة التي تقدم اسمه، ثم يعود لوجومه المهلك، وحين قدمت لهم نفسي، شعرت أن شيئا ما قد تغير، وبدأت الأسئلة تتقافز دون ترتيب:

أستاذ، هل أنت تجيد التفسير؟

: أستاذ هل أنت شاعر حقاً؟

: هل تكتب القصة والشعر والـ..؟ وهل...؟

بدأت أشعر فعلاً أن الأمر قد تغير تماماً، وكان عليَّ أن أتعلم حقيقة واحدة أن الشباب أكثر شغفاً للموضوعة القرآنية والدينية وللأدب من بقية الدروس، رفع أحد الطلاب يده مستأذناً الكلام، وإذا به يبدأ بكلمة ترحيبية، شعرت حينها أني أعيش في وسط المحاضرات الدينية والأدبية التي كنت أتمناها طوال حياتي، فقال:

نحن ننتمي يا أستاذ إلى تجمع ديني ثقافي، نقيم الأمسيات لتفسير القرآن يومياً، نستقطب أبناء القرى الباقية، ونحتاجك يا أستاذ كثيراً.

قلت لهم: أنا بخدمتكم في أي سؤال أو استفسار أو مساعدة، رفع أحد الطلاب يده فقال: أستاذ ما معنى (صيِّب)، فقد استوقفتنا هذه الكلمة التي وردت في سورة البقرة، الآية: (19): (أَو كَصَيِّبٍ منَ السمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعدٌ وَبَرقٌ) أجبته بكل هدوء:

إن الصيِّب يعني المطر إذا نزل، وقيل: إنه كل نازل من علو إلى أسفل. ويرى بعضهم أنه يعني السحاب المسحوب بصوت، قال الطالب: طيب أستاذ، لماذا نكّر الصيب ولم يعرّفه؟

قلت لنفسي لحظتها: إن مثل هذا السؤال فيه الكثير من التأمل، ولابد أن هذا الطالب يتميز على أقرانه بميزة البحث في جميع أوجه الموضوع، وصار الجميع مشدودين بصمت مترقبين الجواب، وأنا الآخر قررت أن أتعمق في الموضوع؛ كي أحصل على ثقتهم، وأخلق جواً من الاطمئنان.

قلت: إن تنكير المشبه به يقرب لنا فكرة التشبيه، يعني يقدم لنا مفهوم أن المنافق نكرة غير معلوم، إيحاء بوهنهم مع عدم معرفيتهم، والبلاغة تقتضي التنكير، ولو تأملت في الآية الكريمة ستصل إلى مسألة مهمة، وهي اقتران الصيِّب بكلمة (من السماء)، ونسأل: لماذا هذه الإضافة، والصيِّب أساساً هو من السماء؟

فقال الطالب مستغرباً: صحيح أستاذ، لماذا أضيفت (من السماء) لجملة معلومة أساساً؟ قلت: هذا يأتي للتهويل، وهو إيحاء إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم.

رفع طالب آخر يده مستأذناً السؤال: أستاذ، لماذا جمعت الظلمات، وبقي الرعد والبرق على حالهما؟ باغتني السؤال قليلاً، ويبدو فعلاً أنه قد تكّون عنده هذا السؤال أثناء المحاورة مباشرة، قلت بعد شيء من التأمل:

جاء في العديد من الكتب الموروثة، ومنها كتاب البحر المحيط، وتفسير القرآن أيضاً أنها ذكرت لأجل المبالغة التي تريد أن توضح بأن الظلمة شديدة متراكمة، والألف الممدودة بـ(الظلمات) تورث حسناً في السماع والطبع، بينما سبب إفراد الرعد والبرق جاء في تفسير الطبري، وفي بعض المصادر الأُخَر، لعدم وجود أنواع الرعد والبرق، فوردا نوعاً واحداً بالإفراد، ولغة: أن الرعد والبرق لا يقبلان الجمع؛ لكونهما اسمين لحاصل المصدر، ويجمع شاذاً... ولأضيف جمالية للدرس، قلت:

واستخدمت مفردة (الصيِّب) في كثير من التراكيب الجميلة، حيث استخدمت: كصيّب الدمع، صيّب العهاد: وهو أول مطر الربيع، وصيِّب الحياء وغيرها...

&&&&

(2)

رغبة تنتابني أن أرى تلك الوجوه المشدودة نحوي تبقى مثلما أراها الآن، عوالم متنوعة تستقبل بمكوناتها المعرفية كل ما يُضاف لها، وهذا يسهل لي – كمدرس - من خلق (الاندهاشية) كجاذب مهم من جواذب التواصل، رفع أحد الطلاب يده:

أستاذ.. أستاذ؟ قلت: تفضل...

قال: أستاذ، أريد أن أعرف معنى المن والسلوى في قوله تعالى: (وَأَنزَلنَا عَلَيكُمُ المَنَّ وَالسَّلوَى) في سورة البقرة آية: 57، وقبل أن أجيبه، أكمل الطالب:

أستاذ، أشعر بأنها أشياء لطيفة، لكن هل هي من الشراب أم من الطعام؟ وما هي شكلها أستاذ؟ قلت وأنا أنظر الى جميع الطلاب، وكأني أريد أن أتأكد من حضورهم معي جميعهم:

لقد ورد في كتاب (التبيان في تفسير القرآن) بمعنى النعمة، ولو تأملنا في المنزلة التي هي أرفع؛ كون انزال الغذاء من المن والسلوى جاء عبر معجزات غيبية، أراد الله أن يثبت لهم أن السماء هي مصدر المن والسلوى، قاطعني الطالب فجأة وهو يصيح أستاذ: ما هو شكله؟

فقلت: صبرا عليَّ ولا تتعجل المعلومة، يقال: إنه طعام شبيه في شكله بالثلج، وقيل هو شيء كالصمغ، كان يقع على الأشجار وطعمه كالشهد، وقيل: منه يُصنع الخبز الرقاق، فهناك من فسره بالشراب، ومنهم من يراه طعاماً، ومنهم من يجده عسلاً، ويرى بعضهم أنه إن أُكل وحده كان طعاماً، وإن مُزج مع الماء صار شراباً، وإن رُكّب مع الغير صار نوعا آخر، المهم أن بعض أهل اللغة يراها تعني ما يمن الله به مما لا تعب فيه ولا نصب، كقول النبي (ص): (الكمأة من المن مأواها شفاء للعين)، فسأل طالب آخر بغتة: أستاذ، وما هي السلوى؟

فقلت: هو طائر صغير الحجم، ويُقال: إنه الجنس الوحيد من رتبة طيور الدجاجات الذي له المقدرة على الطيران والهجرة، حيث يقضي فصل الصيف في أوربا، ويهاجر الى افريقيا في فصل الشتاء، ثم يعود مرة اخرى الى موطنه.،

فقال: أستاذ، يُقال: إنه طائر موسمي؟

فقلت: نعم، إنه طائر خريفي يكثر حيث يكثر الزيتون، ويدرك على الأرض بسهولة، ويخاف من الأصوات العالية،

&&&&

(3)

قال أحد التلاميذ: أستاذ، نحن نمتلك الكثير من المعلومات، لكنها قد لا تكون بالوضوح التام، وقد لا نقف عند بعض التفاصيل العميقة من الجملة القرآنية، نفهم جزءاً منها، ويفوتنا الكثير منها.

قلت: كيف يعني؟

فأجابني: أستاذ، مثلاً نحن نعرف تفسير قوله تعالى: (إِنهَا بَقَرةٌ لا فَارضٌ وَلاَ بِكرٌ عَوَانٌ بَينَ ذَلكَ فَافعَلُوا مَا تُؤمَرونَ).

قلت: يعني تعرفون ما معنى (الفارض)؟

قال أحدهم: نعم أستاذ، الكبيرة المسنة، ويقال: فرضت البقرة اذا أسنت.

قلت: وقيل أن الفارض هي التي ولدت بطوناً كثيرة، واتسع جوفها؛ لأن في اللغة يبقى معنى الفارض هو الواسع، ويقال: لحية فارض، إذا كانت لحية عظيمة...

وبعد برهة صمت، أكملت قائلاً: ومن المؤكد أنكم تعرفون معنى (البكر)، ويعني الصغيرة التي لم تحمل من إناث البهائم، وعند البشر هي الفتاة ما قبل الزواج.

وما معنى الهوان؟ رفع أحد الطلاب يده ووقف ليقول: هي النصف التي قد ولدت بطناً أو بطنين. قلت: وعندما يقال (عونت) المرأة، يعني أنها بلغت ثلاثين سنة.

قال الطالب الواقف: أستاذ لو تسمح، لماذا قال تعالى: (عوان بين ذلك)، ولم يقل بينهما؟

قلت: هي ملاحظة دقيقة؛ لأن الله سبحانه تعالى أخرجه على لفظة واحدة.

اعترض الطالب الذي ما زال واقفاً: لم نفهم يا أستاذ شيئاً.

قلت: بين ذلك، يعني بين الكبيرة والصغيرة.

قال: طيب أستاذ، لماذا رفعت ولم تنصب؟ قلت: لأنها صفة في معنى البقرة، وليس للنفي... وبعد برهة صمت، استردت خلالها انفاسي، وأعدت السيطرة على نظام الصف، ربما مثل هذا الزحام في الكلام سيخلق فوضى، إذا لم يتابع وينظم بين الحين والآخر، ثم سألتهم: هل جميعكم يعرف قصة البقرة؟

صاح طلاب الصف: نعم أستاذ... رأيت أحدهم يختلس النظر، وقد تردد في الاستجابة، قلت له: أنت، فقال متلعثماً: نعم أستاذ، لقد ذُكرت القصة في الكثير من المصادر، وأنا قرأتها في كتاب (تفسير الإمام العسكري (ع)) أن امرأة حسناء ذات جمال وخلق كريم، ونسب شريف، كثر خطابها، وكان لها بنو أعمام ثلاثة خطبوها قبلت بأفضلهم علماً، فاشتد حسد ابني عمه، فدعوه إلى وليمة وقتلوه، ودفنوه في محل آخر، فلما أصبحوا وجدوا القتيل هناك، فأحضرهم موسى (ع) وأنكروا قتله والقصة معروفة. فقال أستاذ: ما هو موقع الهاء في قوله تعالى (إنه يقول)؟

فقلت: هذه واضحة يا بني، فهي كناية عن الله تعالى؛ لأنه لا يجوز للكناية التقدم إلا اسمه تعالى، وتعرب هذه الهاء ضمير متصل مبني في محل نصب اسم إن.

&&&&

(4)

قال أحد الطلاب: أستاذ، نحن لدينا الكثير من الأسئلة، لكننا ما زلنا نخجل منك، ونخشى أن نتعبك في أول لقاء بيننا، لا نريد أن نستثقل عليك في أول دخولك علينا؛ لكوننا لأول مرة نجد من يتفاعل معنا بهذا الشكل... قلت: اسألوا ما تريدون، فأنا أجيب ما اعرف، واستفسر لكم عما لا نعرفه.

رفع أحد الطلاب يديه بكل أدب، وراح يسأل مباشرة: استاذ ما معنى (شطر) في قوله تعالى: (فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المَسجِدِ الحَرَامِ) قلت: أغلبكم يعرف الجواب، أو لديه تصور كامل عن معنى الجواب، فقد ذكر في كتاب (التفسير الأمثل) أن بيت المقدس كان هو القبلة الأولى للمسلمين، وكان النبي (ص) ينتظر الأمر الإلهي بتغيير القبلة، خاصة وأن اليهود استغلوا مسألة اشتراك المسلمين معهم في القبلة، وقد ذكرت كتبهم أن النبي المبعوث يصلي الى القبلتين.

وجاء في (تفسير القمي) أن رسول الله (ص) صلى بمكة ثلاث عشرة سنة الى بيت المقدس، وبعد هجرته إلى المدينة بعد سبعة أشهر تحول الى الكعبة المشرفة، ويرى العلامة الطباطبائي أن الشطر يعني نصف، والذي شطر المسجد الحرام هو الله، والحرم مكة كله مسجد، فكل الوجوه شطر الكعبة.

قال الطالب: أستاذ، دعنا نقف قليلاً عند تكرار الجملة الطلبية بلفظها الدلالي يعمل على ثبوت حكم على أية حال.

صاح الطالب: أستاذ، وما معنى قوله تعالى (ولِّ)؟

قلت: فعلاً، الأمر يحتاج الى وجه الدقة، فـ(تولى) لا تُقال إلا لمن عدل بنفسه، يعني اقتضى هنا معنى الولاية، (وليت وجهي شطر المسجد) أي: أقبلت عليه وأنا أعلن ولائي.

&&&&

(5)

شعرت أن حكايتي مع هؤلاء الطلاب ستبني لي مسيرتي في حياتي، فهذا النبض الشاب بدأ يتدفق خاطراً بصمة حضور، سيكون لها بصمات واضحة على حياتي.

أنظر في وجوههم النظرة، فأرى جزءاً كبيراً من عملي كمدرس دين، ووريث بيت حوزوي، علمني كيف أصهر هذه المفاهيم التي أعيشها اللحظة إلى عمل، فصرت أتفرس في الوجوه ، ثمة من يرفع يده الآن، سألني أحدهم:

أستاذ أنا أسألك عن معنى (جنفاً) وأعرف أن معناها الجور، وبعضهم يراها الميل عن الحق، لكني أريد أن أسألك يا أستاذ عن معنى (الجنف) في وصية ميت، أوصى بما في نفسه وراح الى آخرته؟

قلت: الجنف هو لاشك يعني الميل عن الاستواء، والمروي عن الامام جعفر الصادق (ع): إذا جنف الموصي في وصيته، فالوصي أن يردها الى العدل، فالموصي مثلاً في حال مرضه يوصي، فيعطي بعضاً ويضر ببعض فلا إثم عليه أن يسيرها الى الحق، ويردها إلى الصواب، ويسرع في الاصلاح بين الموصي والورثة.

فقام الطالب رافعاً يده:

أستاذ، لماذا قال: جنفاً، ولم يقل إثماً، ثم عاد ليلحقها بالإثم، فهل لجنف هنا خصوصية في العرض الجملي؟

قلت: الجنف هو الميل عن الحق من جهة الخطأ، وهو لا يدري أنه لا يجوز، بينما الاثم يعني التعمد في الخطأ وهو يدري، فبذكر الجنف والاثم يعني في حالة إن كان الموصي يدري أو لا يدري فالحالة جائزة.

برهة صمت، يبدو أن الطلبة يعيدون في بالهم ما قيل ليدركوا معناه، فرحت أكمل لهم الكلام:

جاء في كتاب الفقيه عن أمير المؤمنين (ع) أن الجنف في الوصية من الكبائر، فالإصلاح بين الورثة والموصي لهم لا أثم فيه؛ لأنه تبديل باطل إلى الحق.

رفع أحد الطلاب يده:

أستاذ، هل من الممكن تبسيط المسألة لنا، كيف يحق لنا تغيير وصية الميت؟

قلت: ذكر القمي عن الامام الصادق (ع): إذا أوصى الرجل بوصية، فلا يحل للوصي أن يغير وصيته، إلا إذا كانت الوصية بغير ما أمر الله، فيعصي الله في الوصية ويظلم، يجوز في هذه الحالة تبديل الوصية.

فصاح الطالب وكأنه غير مصدق: هل من الممكن ذلك أستاذ؟

قلت: نعم، رجل يكون لهم ورثة، فيجعل المال كله لبعض الورثة، ويحرم بعضهم الآخر منها، فالوصي يجوز له بهذه الحالة أن يردها الى الحق.

سأل الطالب حينها: أستاذ، هل يمكن أن نعرف منك المصدر الذي اعتمدت عليه؟

قلت: نعم، اقرأ التفسير الأصفى: للفيض الكاشاني الجزء الأول صفحة (240). واسمحوا لي أن أتوسع لكم قليلاً في هذا الموضوع:

إذا قرأنا الآيات التي سبقت هذه الآية، سندرك أن الله سبحانه تعالى، أعطانا تشريع الوصية باعتباره جزءاً من النظام المالي، وتذكرنا بالحكم الالزامي (كُتِبَ عَلَيكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيةُ لِلوَالدَين وَالأقرَبينَ بالمَعرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتقِينَ)، ولنقف عند جملة (حقا على المتقين)، وهذا المورد ذكر للاستحباب، ولو كان فيها وجوب لقيل: حقاً على المؤمنين.

تساءل أحدهم: وضح لنا ذلك يا أستاذ؟

قلت: جاء في كتاب (التفسير الأمثل): قيل إن هذه الآية نزلت قبل نزول أحكام الإرث، فكانت واجبة ثم نسخ هذا الوجوب بعد نزول آيات الإرث، وأصبح حكماً، وهذا التشخيص وجدته في كتاب (تفسير العياشي).

وبعد لحظات من الصمت سادت الصف...

قلت لهم: دعوني أتوسع قليلاً للفائدة العلمية، لنعيد ما قرأناه: (كُتِبَ عَلَيكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيةُ...) لنقف عند كلمة (خيراً)، وتأملنا في حكم الله سبحانه تعالى، إن الآية الكريمة عبرت عن المال بكلمة (خيراً)، (إن ترك خيراً) ويعني ان الاسلام يعتبر الثروة المستحصلة عن طريق مشروع، والمستخدمة لتحقيق منافع المجتمع ومصالحه خيراً وبركة، ويرفض النظرات الخاطئة التي ترى الثروة شراً ذاتياً، وهذا يدل على مشروعية الثروة.

&&&&&

(6)

كنت أحلم أن أرى مثل هذا اليوم الذي أقف به أمام صف دراسي متفاعل يموج بالحركة، الجميع يريد أن يشارك، روح التفاعل وجدتها في الدراسة الحوزوية لتفاعليتها وحراكها الفكري، لا أحب الصفوف الخافتة، ولذلك منذ زمن طويل أحلم بهذا التفاعل...

صاح أحد الطلاب متوسلاً: أستاذ... أستاذ...

ولما رآني سمحت له بالكلام، انفرجت أساريره: أستاذ، جاء في سورة البقرة (267) (وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنفِقُونَ) فعجبت لكلمة (الإنفاق) كيف جاءت مع التيمم؟

قلت للطالب: تفضل بالجلوس لأحدثك عن معنى هذه الآية الكريمة، أولاً علينا أن نقرأ الآية كلها لنعرف معناها التام، قال الله تعالى: (يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبتُم وَمِما أَخرَجنَا لَكُم مِنَ الأَرضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنفِقُونَ وَلَستُم بِآخِذِيه إِلا أَن تُغمِضُوا فِيهِ وَاعلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أولاً: تعالوا لنتفق على حقيقة مهمة أن كل ذكر قرآني يبدأ بـ(يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا) نزل بالمدينة المنورة، وكل ذكر قرآني يبدأ بـ(يا أيها الناس) يعني أن هذه الآية نزلت بمكة المكرمة.

روي عن أمير المؤمنين (ع) أنها نزلت في بعض الناس الذين كانوا يأتون بالخشف (أردأ التمر) فينفقونه، وقال إمامنا الصادق (ع) بأنها نزلت في أقوام لهم أموال ربا في الجاهلية، وكانوا يتصدقون بها، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمر بالصدقة من الحلال، و(تيمموا) يعني: أنفقوا، فقد اعتاد بعض الناس أن ينفقوا من فضول أموالهم التي لا قيمة لها، أو التي لم تعد تنفعهم في شيء، حتى يصل بعضه الى الإهانة والتحقير، فالآية تقول للناس: كيف تنفقون مثل هذا المال الذي لا تقبلونه لأنفسكم؟

رفع أحد الطلاب يده: هناك ثمة شروط لابد أن تكون موجودة لقبول هذا الانفاق، فهل نقدر أن نعرف موجز هذه الشروط؟

قلت: نعم، لقد بين لنا القرآن شروطاً مهمة للإنفاق، مثلاً، لابد من انتخاب أجود الأموال للإنفاق والإقراض من الأموال، وليس اختيار الأرخص والأقل قيمة وشأناً، ويجوز أن يكون الانفاق والإقراض من الأموال التي هي موضع حاجة شديدة إليه، تؤخذ بعين الاعتبار أولويات الاحتياج، ولابد أن يكون محاطاً بالسرية، وأن لا يقرن بالمنّ، تصحبه نية خالصة لله تعالى، ومن ثم الشعور بضآلة العطاء مهما كان ثميناً، وأن تكون الأموال من المال الحلال وغير العالق فيه من الأموال، ويشعر المنفق أنه ينفق من مال الله

&&&&&

((&

شعور بالزهو يعتمرني فرحاً بهؤلاء الطلاب، أرى أسئلتهم ندية لم توضع لأجل الاحراج أو للتظاهر، بل أجدها كانت تدون في صدورهم وفي قلوبهم، ويبدو لي أنهم تناقشوا في معظم ما يطرح، لكن هذه المرة أرادوا أن يمحصوا المعلومة، ومن خلال التمحيص سيعثرون على أسئلة جديدة، صاح أحدهم:

أستاذ، لقد تأملت في قول الله سبحانه تعالى: ((ولا تَحملْ عَلينَا إصرًا)، فوجدت انها تعني الحمل الثقيل.

:ـ نعم.

:ـ لكني أشعر أن هناك أموراً تفسيرية أكبر لهذا القول المبارك؟

:ـ تنوعت استخدامات (الإصر)، فبعض يراها تعني العهد، وبعض يراها الذنب والثقل والكسر... لو تقرأ في كتاب (تفسير العياش: المجلد/1)، قال الامام الصادق (ع): أتى جبرئيل رسول الله (ص) وهو في الابطح بالبراق، زف به من بيت المقدس الى السماء فقال جبرئيل: الله أكبر.. الله أكبر، ثم صلى رسول الله (ص) بالملائكة، ثم مضى به الى مقام ما وطأه أحد قبله، ولا يطأه أحد بعده، فكلمه (الله) سبحانه تعالى: (آمَنَ الرسولُ بِمَا أُنزلَ إليهِ مِن ربِّهِ)، قال (ص): نعم يا رب، (وَالمُؤمنُونَ كُلّ آمَنَ باللّهِ ومَلآئكَتِهِ وَكُتُبهِ وَرسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أَحَد من رسُلِهِ وَقَالُوا سَمعنَا وَأَطَعنَا غُفرَانَكَ رَبنَا وَإلَيكَ المَصِيرُ)، قال الله تبارك وتعالى: (رَبنَا لاَ تُؤَاخذنَا إِن نسِينَا أَوْ أَخطَأنَا رَبنَا وَلاَ تَحمِلْ عَلَينَا إِصرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذِينَ مِن قَبلنا رَبنَا وَلاَ تُحَملنَا مَا لاَ طَاقةَ لنَا بهِ وَاعْفُ عَنا وَاغْفِرْ لَنَا وَارحَمْنَآ أَنتَ مَولاَنَا فَانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ)، قال الله تعالى: يا محمد مَنْ لأمتك من بعدك؟ فقال (ص): الله أعلم، فقال جل علاه: (علي أمير المؤمنين)، فأكد مولاي الصادق (ع) أن ولاية علي (ع) كانت مشافهة من الله لمحمد (ص).

قال الطالب متسائلاً: أستاذ، فما الذي رفعه الله تعالى عن الأمة من الشدائد؟

قلت: قال رسول الله (ص): (رفع عن أمتي أربع خصال: خطؤها، ونسيانها، وما أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا...) (جامع أحاديث الشيعة: السيد البروجردي/ ج14). وهناك ملاحظة دقيقة نوه عليها الإمام الصادق (ع) إذ قال: ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله (ص) حين سأل لأمته هذه الخصال) (عوائد الأيام: المحقق النراقي). و(الإصر) تعني الشدائد التي كانت على الأمم قبلنا، فرفعها الله تعالى، حيث كانت لا تقبل صلاتهم إلا في بقاع من الأرض معلومة، اختارها الله تعالى وإن بعُدت عن الأوطان، بينما جعل الأرض كلها للمسلمين مسجداً وطهوراً.

وكانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوه من أجسادهم، وقد جعل الماء لأمتنا طهوراً، كانت الأمم تحمل قرابينها على أعناقها الى البيت المقدس، فمن قبلت منه ذلك أرسلت اليه ناراً فأكلته ورجع مسرورا، ومن لم تقبل منه رجع مثبورا، وجعل الله قربان أمتنا من بطون فقرائها ومساكينها، فمن قبلت منه تضاعف أجرها، ومن لم يقبل منه رفعت عنه عقوبات الدنيا.

صاح الطلاب: أستاذ، كيف كانت صلاتهم؟

:- ملاحظة جيدة وسؤال في محله، حيث كانت الأمم السالفة فد فرض الله عليها خمسين صلاة في خمسين وقتا، فرفعها عن الامة وجعلها في خمسة أوقات، وكانت الامم السالفة حسنتهم بحسنة، وسيئتهم بسيئة، فرفعها عن الأمة وجعل الحسنة بعشر، والسيئة بواحدة، وأضاف اليها النوايا. وكانت الامم السالفة إذا أذنبوا كتبت على أبوابهم ذنوبهم، والتوبة لها شروط حرمان ملذات الأكل والشرب، وجعل لأمتنا غفران الذنوب بينها وبين الله (جل علاه) وجعل التوبة بلا عقوبة، وكانت الأمم تحتاج عشرات السنين للتوبة، وأصبحت غفران التوبة عندنا بطرفة عين يغفر الله والحمد له.

&&&

(8)

هذا التفاعل الجاد من الطلبة يدفعني باتجاه محبتهم والتجاوب معهم، والمهم أن هذه الألفة العجيبة تكونت في حصة واحدة في أول لقاء، وصرت أشعر ثمة حرقة في أعماقهم تحرك مشاعرهم نحو المشاركة الفاعلة، رفع أحد الطلاب يده، وهو يقول: أستاذ جاء في قوله تعالى: (أَنَّ اللّهَ يُبشرُكَ بيَحيَى مُصَدقًا بِكَلِمَة منَ اللّهِ وَسَيدًا وَحَصُورًا) فما معنى (حصورا)، قلت له: قال الإمام أبو عبد الله الصادق(ع): الحصور، الرجل الذي لا يتزوج مع وجود القدرة، فهو يبعد تفكيره عن الزواج بكثرة الصوم، والحصور عند العرب الناقة التي لا يخرج لبنها، وكان يحيى عليه السلام كافاً عن النساء.

اعترض الطالب مستفسراً: أستاذ كان النبي محمد (ص) لا يقبل بمن يضرب عن الزواج، وهذا يعني أن الحصور عندنا صفة مذمومة وغير شرعية، بينما القرآن امتدحها؟

قلت في نفسي: لآخذ برهة أستجمع فيها زوايا التنصت لتقوية التأثير، فالمهم أن لا أفقد القدرة على التواصل، والمحافظة على البؤر الجاذبة، التفت اليه قائلاً: جاء في كتاب (شرائع الاسلام في مسائل الحلال والحرام)، وتحديدا في موضوعة الزواج، بأن القرآن امتدح الحصور في شرع غير شرع الاسلام، وهذا لا يلزم وجوده في شرعنا؛ لاختلاف الشرعين في الأحكام،، ولعل عدم الزواج ممدوح في بعض الشرائع السابقة، أما في الاسلام، يعتبر فعلاً انسانياً يبعث على الهدوء النفسي والصفاء، قال النبي (ص): (لم يرسلني الله بالرهبانيّة، ولكن بعثني بالحنيفيّة السهلة السمحة، أصوم وأصلّي وألمس أهلي، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي، ومن سنّتي النكاح) (مستدرك سفينة البحار ج10ص144).

قال علي بن أبي طالب عليه السلام: إن جماعة من الصحابة كانوا حرموا على أنفسهم النساء والإفطار بالنهار والنوم بالليل، فأخبرت ام سلمة رسول الله (ص) فخرج إلى أصحابه فقال: أترغبون عن النساء، فإني آتي النساء، وآكل بالنهار، وأنام بالليل، فمن رغب عن سنتي فليس مني). وجاء في كتاب (جامع المقاصد) للمحقق الكركي: إن مدح النبي يحيى بالحصور، ربما كان مكلفاً بالسفر، وتحمل مشاق السياحة في سبيل تبليغ وإرشاد أهل زمانه في بلادهم، والزواج ربما يعيق سفره أو يبعد تفرغه.

رفع طالب آخر يده: أستاذ، هل كان الحصور نتيجة عجز نفسي؟

قلت له: لا يمكن النظر الى الحصور بأنه عاجز؛ لأن مدح الانسان بما يكون عيبا غير جائز، فهنا القضية ممدوحة؛ كونه معتقا من الشهوات، ومن لم يجيء قبل يحيى من الأنبياء عليهم السلام من اجتمع له ما اجتمع ليحيى، فأنه أعطي النبوة وهو صبي، وقال آتيناه الحكم صبيا، وجعل حصورا ليكون مأمونا في عصمته عن الحرام، ولئلا تكون له مشقة في الجمع بين حقوق العبادة وحقوق الزوجة.

وهناك ملاحظة مهمة وردت في كتاب (التحرير والتنوير)، وصف الله تعالى يحيى عليه السلام بقوله: وحصوراً ليس المقصود منه فضيلة، ولكنه أعلم أباه زكريا عليه السلام أن الله أجاب دعوته، فوهب له يحيى عليه السلام كرامة له، ثم قدر أنه لا يكون له نسل، ويرى بعضهم أن الحصور يعني العصمة عن الذنوب.

&&&&

(9)

من حق أي مدرس أو معلم أن يشعر بالاعتزاز الذي صرت أشعر به الآن، أي حين يرى تلاميذ صفه بهذه الحيوية والحراك، وخاصة أنا ابن اليوم الاول من تجربتي التربوية، صرت أسأل نفسي: هل هذا الحراك سمة دائمة من سمات هؤلاء التلاميذ، وأرى أنهم كانوا مخنوقين تحت لافتة المقرر من المنهج، واليوم قد تحررت طاقاتهم ولا بأس أن يكون اليوم الاول هو يوم تعارف وتعريف وتقارب مفاهيم تكون لصالح الطلبة مستقبلاً، ولاحتواء الاشكاليات التي تمر بهم أثناء مطالعاتهم، وخاصة انهم يمتلكون محفلاً قرآنياً يجمع أمسياتهم... بمجرد أن قلت لهم: أنا بخدمتكم، رفعت الايادي وأنا الذي كنت اظن انها نضبت، او ربما انتهى حماسهم، طالب يرفع يده:

أستاذ، ما معنى كلمة (مسومين) التي وردت في الآية (125) من سورة آل عمران: (يُمددكُم رَبُّكُم بِخَمسةِ آلاف منَ المَلآئكَةِ مُسَوِّمِينَ)؟

ثم بادر طالب آخر بالسؤال أيضاً: في أية موقعة كان هذا المدد الإلهي، وما هي سمات هذا التسويم؟

قلت: يرى بعض المفسرين أن الله تعالى أنزل خمسة الآف من الملائكة، وقال ابن عباس: لم يقاتل الملائكة إلا يوم بدر، بينما يؤكد الكثير من المفسرين أن الله أرسل خمسة آلاف من الملائكة في (أحد)، وأما في (بدر) فكانوا ثلاثة آلاف، والتسويم هو نقطة بيضاء على مكان أسود، وقيل أيضاً: إنها كان عليها امثال الخواتم يتوسمون بها، بينما فريق من الرواة قالوا: إن الله جعل على كل حجر اسم من سيهلك به، أي خصص هذا الحجر بالأسماء.

رفع أحد الطلاب يده وهو يهم بالوقوف: أستاذ...

قلت: تفضل...

: أستاذ، ما معنى كلمة (مردفين)، وهي موجودة في آية (9) من سورة الأنفال: (إِذ تَستَغيثُونَ رَبكُم فَاستجَابَ لَكُم أَنِّي مُمِدكم بأَلف منَ المَلآئِكَةِ مُردفِينَ)؟

شعرت بالاعتزاز لاستمرارية هؤلاء الفتية بما يملكون من تأملات ليست سهلة على الاطلاق، وبأسئلة بهية لها منطقيتها كأسئلة، وأسعدني حفظهم لهذا الكم من الآيات القرآنية، وتمكنهم البليغ من الاستشهاد القرآني.

فقلت: يرى البعض ان الإرداف يعني المثل، او يكون قد جاءوا من بعد استغاثتكم ربكم... يرى السيد مكارم الشيرازي في (تفسيره الأمثل) التتابع بعضها بعضا في النزول للنصرة، واحتمل معنى آخر أن مجموعة الألف من الملائكة كانت تتبعها مجموعات أخر، وكذلك يرى السيد مكارم أن وعدا من الله للمسلمين في انزال للملائكة أثر لنصرة المسلمين اذا ما اقتضى الأمر.

: أستاذ، هل اشتركت في القتال الفعلي؟

هناك من يرى فعلا انها دخلت ساحة القتال، وهاجمت الاعداء بأسلحتها الخاصة، وقتلت بعضهم، والقرائن تؤيد من يقول: إن الملائكة نزلت لتطمئن قلوب المؤمنين.

&&&

(10)

أقرأ في عيونهم الفرحة والبشر والسعادة، مأخوذين بروح التنافس النبيل الذي يريدون منه أن يظهرهم بمستوى هذا التحاور البناء، لا أعتقد أن فيهم من يريد أن يحرجني، ولذلك أجدهم ينصتون بشكل ينم عن اندماجهم الروحي وقيمة استيعابهم.

رفع أحدهم يده وهو يسأل:

أستاذ، ما معنى مفردة (يغل)؟ وكيف لنبي أن يغل؟

قلت: وردت هذه المفردة في سورة آل عمران آية: 161 (وَمَا كَانَ لنبِيٍّ أَن يَغُل ومَن يَغلُلْ يَأتِ بما غلَّ يَومَ القيَامَةِ) والغل هنا جاء بمعنى يخون، أي يغل اذا خان فيها. اعترض الطالب لهذا المعنى وقال:

أستاذ، كيف لنبي أن يخون؟

قلت: يراها بعض المفسرين بضم الياء وفتح العين، وما كان لنبي أن يُخان، بمعنى أن يُسرق منه كمثال (ما كان لزيد أن يضرب)، وجاء في كتاب (التبيان في تفسير القرآن) للشيخ الطوسي عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الآية هو أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من المغنم، فقال أحدهم لعل النبي (ص) أخذها.

واستأذن أحد الطلاب بالسؤال فقال: أستاذ، ما دام الغل يعني الخيانة، لِمَ رفعت مفردة يخون وهي أقرب للمعنى؟

أجبته: لقد خصت الخيانة يا أخي بصفة دون السرقة.

استأذن آخر فقال:

أستاذ، لماذا يراها الناس حقداً، ويتعاملون معها بهذا المعنى؟

قلت: لأن أصل الغلول في اللغة هو الغلل.

قال: وماذا يعني الغلل؟

: لا تتعجل يا بني الجواب، الغلل يعني دخول الماء في خلل الشجر نقول: انغل الماء في أصول الشجر، وشبه الغل بالحقد؛ لأن العداوة تجري في النفس كالغلل، ومنه الغل، ومنه للغليل حرارة العطش... دعوني أشرح لكم الامر لأرفع الغموض، جاء في كتاب (التفسير الأمثل)، أن هذه الآية تنزه جميع الأنبياء والرسل من الخيانة، فهي لا تتناسب أساسا مع مقامهم العظيم، يعني أن الخيانة لا تتناسب مع النبوة، فإذا كان النبي خائنا لم يمكن الوثوق به في اداء الرسالة، وتبليغ الأحكام الإلهية.

&&&

(11)

صرت أشعر أن كل تلميذ من هؤلاء التلاميذ منشغل بمسألتين: الأولى فهم ما يطرح من تفسير وإجابته بإصغاء عال. والثاني هو البحث في الذاكرة عن أي إشكال علق فيها سابقاً، او ربما عرض امامه مع وجود التفاعل الجاد مع المستجد، متى اصبح الطلاب شعلة من التحاور.

قال احدهم بعد الاستئذان: أستاذ، قال الله تعالى: (وَلَقَد صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعدَهُ إِذ تَحُسونَهُم بِإِذنِهِ) فما معنى (تحسونهم)؟ قلت: أولاً هي آية (152) من سورة آل عمران، واعرف ان التركيز على معرفة اسم السورة، ورقم الاية، يخلق الدهشة الوقورة، ويشد الانتباه، ويستوعب الاجابة، تعطي مفردة (أحس) عدة معان تبعا لحركة لتشكيل الحركة الاعرابية، أحس: من الاحساس الموجود بالحاسة، والحس: القتل؛ لأنه يحس بألمه، اذ تحسوهم باذنه، والحس: العطف لإحساس الرقة على صاحبه، والتحسس طلب الاخبار في قوله تعالى: (يَا بَنِيَّ اذهَبُوا فَتحسسُوا مِن يُوسُفَ وأَخِيهِ).

برهة صمت أردت من خلالها أن أغيّر مسار التلقي الى ما هو اعمق، لأصل بهم الى جذوة الموضوع الى المنفعة العامة، قلت: قال امير المؤمنين (عليه السلام)، مخاطبا أهل البصرة: (ويلك يا بصرة من جيش لا رهج له ولا حس) بالكسرة أي بمعنى الصوت الخفي، وهذه نبوءة من نبوءات الامام (عليه السلام) لخروج صاحب الزنج الذي خرج بعد ذلك بجيش مشاة حفاة لم يكن لهم قعقعة.

واستخدم العرب هذه المفردة بعدة استخدامات مثل: الحسي، الادراك بالحاسة، والحسوس السنة المجدبة التي تأكل كل شيء، والمحسة التي ينفض بها التراب، وورد في القرآن بمعنى القتل.

سأل أحد الطلاب: استاذ، ما الحكمة في استخدام القرآن الكريم لمفردة الحس بدل القتل وهي اكثر واقعية؟

انه سؤال كبير، لابد من احترام هذه الذهنية الفتية، قلت: انها ملاحظة جيدة، لكن عليك ان تعرف ان القتل في الجماعة هو قتل الى حد معين وتكتفي بالقتل، اما الحس فهو قتلهم جميعهم، هو استئصال حتى آخر الموجودين، يقال: جراد محسوس اي ان البرد انهاه تماما، وسنة حسوس اي التي تفني كل شيء، ولو تعمقنا في مفردة الحس، سنجد منه يلد الادراك الحسي، ومنها الحواس المشاعر الخمس.



علي حسين الخباز