عندما دعا أمير المؤمنين، عليه السلام، وهو طريح الفراش من ضربة ابن ملجم، أن "سلوني قبل تفقدوني، فاني أعلم بطرق السماء منها بطرق الارض"، صار من حوله، ينظر الواحد بوجه صاحبه لا يعرفون عمّا يسألون؟! وقد فتح الامام لهم فجأة آفاق العلم والمعرفة كمن هو في ظلام دامس ثم يفتحون عليه باباً على طرق عديدة في واحات خضراء فسيحة لا حدّ لها.
ربما لا نلوم أهل ذلك الزمان ممن لم يتعلموا في حياتهم سوى الزراعة والتجارة والقتال، في عدم سؤالهم عما نحتاجه اليوم، فربما لم يغادر الكثير منهم خيامهم واراضيهم أبعد من مكة والمدينة وبعض مناطق الجزيرة العربية، رغم الفتوحات باتجاه العراق وايران شرقاً، والشام شمالاً، بيد اننا نتحسس حرارة تلكم الكلمات التي كانت تخرج "شِقشقةً" من الامام كما كانت مثيلاتها في وقت يجد الامام الحاجة طارئة اليها، نظير "الخطبة الشِقشقية" التي هدرت ثم قرّت خلال اجتماع له مع عبد الله بن عباس، وكانت له شِقشقة طويلة أخرى مع واليه على البصرة (عثمان بن حنيف) لامه فيها على تلبيته دعوة أحد أثرياء البصرة على مأدبة، فخشي أن تهتزّ صورة النزاهة في الدولة الاسلامية في اذهان الناس، وفيها اشار الى سهولة حصوله على ما هو أعظم وأكبر من الدعوات المرموقة، وفرص الشهرة، والتملّك، بأن "وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ".
وبعيداً عن لوم وتقريع الإمام لواليه على البصرة، هل سأل أحد آنذاك عن كيفية الوصول الى تلك الحقائق العلمية، على الاقل؛ للاستفادة مما ذكره الامام في حياتهم اليومية، وفي مجال الزراعة، لاستثمار العسل، والحرير، والقمح، وبشكل افضل واكثر؟
الامام علي يعلّم الأمة ثقافة السؤال

نحن نعيش هذه الايام ذكرى مولده الشريف حيث الناس يبدون مشاعر الفرح والابتهاج بطرق مختلفة، بينما المقال تصدر خاطرة من اللحظات المحزنة من حياته الشريفة، ولا غرو من أن يكون أمير المؤمنين مصدر خيرٍ وعطاء للأمة من المهد الى اللحد، وعلى مرّ الزمن، ولكن! لا يكون على طبق جاهز يقدم لمن يحب ويرغب، إنما بالحركة والبحث والجد والاجتهاد، فهل يرى نور الشمس من يبقى في الزوايا المظلمة؟ وهل يصل الى الحقائق من يتشبث بتصوراته الشخصية ويعدها الحقيقة الكاملة؟
نعم؛ كان المحيطين بأمير المؤمنين يسألون عما يمسّ مصالحهم وفي حدود تفكيرهم الضيق، فهم يسألونه عن سبب السماح لجند معاوية بالارتواء من الماء رغم سيطرتهم عليه في حرب صفين بعد ان منعوهم منه في النزال الاول؟ وعن سبب عدم السماح لهم بالاستحواذ على ممتلكات اصحاب الجمل كونها في نظرهم غنائم حرب؟ ولماذا ألغى الامتيازات لشريحة معينة تعد نفسها افضل من الاخرين؟ ولكنهم لم يسألوا الامام عن سبب عدم التعريف بنفسه أمام ذلك البائع الذي رفض إعادة المال لتلك الجارية بعد رفض أهلها ما اشترته منه، وقد رفض البائع طلب الامام ودفعه الى الخلف؟ وتكرر الأمر مع تلك المرأة الارملة وايتامها عندما شكت من أمير المؤمنين وقائد الجيش –دون أن تعرفه- لما تسبب باستشهاد زوجها وترملها في احدى حروب الامام الثلاثة؟
ولمن يراجع كلمات أمير المؤمنين في أواخر ساعات حياته، وفي الخطبة الشقشقية ورسالته الى واليه على البصرة، يجد أنها قدمت أجوبة لأسئلة غير مطروحة عن فلسفة العدل، وطريقة الحكم، وهذه الثغرة المعرفية في فكر الأمة آنذاك هو الذي جعلها تنساق بكل سهولة خلف دعاة "الحكم لله"، بينما لم يمض على المسلمين سنوات قلائل من تجربة حكم رسول الله في المدينة، وهو ما حاججهم به أمير المؤمنين مفنداً مقولة اصحاب الفتنة المتعكزين على ظاهر القرآن الكريم، فتحول الآلاف منهم من جبهة الخوارج الى جبهة الحق، وفي نفس تلك الفترة العصيبة كانت بذرة الاعتزال عن المجتمع والحياة تزرع في النفوس على يد الحسن البصري الذي لم يتركه أمير المؤمنين دون أن يصفه بـ "سامري هذه الأمة" لترافق اسمه على مر الاجيال والزمن، والذي قال "لا قتال" محرضاً على عدم الاشتراك في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين بقيادة الامام، عليه السلام، وفي مكان آخر حذر، عليه السلام، من السقوط في شرك الالتباس والغموض موضحاً لأحد اصحابه بعد الانتهاء من جماعة الجمل عندما خامره الشك بأحقية جبهة الإمام: "انك امرؤٌ ملبوس عليك، إن دين الله لايُعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله".
ومنذ ذلك التاريخ وهو وفق التقويم الميلادي سنة 661للميلاد تاريخ استشهاد أمير المؤمنين، عليه السلام، وحتى اليوم تشكو الامة من الالتباس والغموض في منظومتها المعرفية والاخلاقية، والى حدٍ ما؛ المنظومة العقدية والدينية، مما جعلها عرضة للتأثيرات الخارجية، ولعل ما نعيشه اليوم يكون مصداق هذا المآل المؤسف لأمة عمرها اربعة عشر قرناً تخللته محطات مضيئة من نهضات علمية، ومشاريع إصلاح وتغيير وتضحيات جسام، بيد أن المشكلة باقية في عدم فهم تلك المنظومات التي تشكّل الثقافة والوعي لدى افراد الامة مما كرّس التسطيح في الفهم، وفصل الايمان عن العمل، و التبعيض في الاحكام رغم تحذير القرآن الكريم: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، ثم ظهور الاشكالية الرهيبة في الوقت الحاضر بالقول بجواز اجتماع النقائض، بل و ضرورة اتخاذ خيار "الرمادية"! ومسك العصا من الوسط للخروج من الازمات سالمين!
الفرصة ما تزال قائمة

ثقافة السؤال يمثل أحد عوامل تطور وتقدم الغرب على العالم الاسلامي، ونشوء شيء اسمه "الحضارة الغربية" على انقاض الحضارة الاسلامية، اذ لولا اسئلة نيوتن، و امبير، و ماري كوري، وباستور، واديسون، وامثالهم من علماء الفيزياء والكيمياء والهندسة والاحياء المجهرية، لما كان انسان اليوم يتمتع بوسائل الراحة والانجاز السريع لما يريده بفضل القوانين والمكتشفات، بينما فضّل انسان الشرق المراوحة في عالم المعنويات والاستغناء عن الماديات، وهو ما خلق الهوّة السحيقة بينه وبين تاريخه المشرق، وبين منجزات الآباء والاجداد التي كانت هي صاحبة الفضل على تطور العلوم، بل ونشوء الحضارة الغربية اليوم.
يكفي ان نقرأ القرآن الكريم قراءة مختلفة اليوم لنعدّ المرات التي يسألنا فيها: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ}، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، {هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}، لنخرج من أطر التفكير الضيقة للتفكير ما بعد العطاء للفقراء والمساكين –مثلاً-، ولما بعد إثارة المشاعر والعواطف، حيث الآثار المباشرة على السلوك الفردي والبناء الاجتماعي، وحتى تكون أعمال الخير والبر والمراسيم والطقوس، وكل ما نقوم به من أعمال حسنة، ذات صبغة عملية ومحتوى عميق وغني بالافكار والبدائل لأي مشكلة مهما كانت.
فلو كان أمير المؤمنين قد عرّف نفسه لتلك المرأة الأرملة بأنه القائد السياسي، والإمام المفترض الطاعة، وأن زوجها قتل شهيداً في سبيل الحق وهو في جنان الخلد، لما كان في الامر ضير، ولم يكن سبباً في انزعاج المرأة، اذا لم نقل في استبشارها و اسداء الشكر للإمام على زيارته لها، ثم الدعاء له بالموفقية والسلامة، لكن كل هذا لم يكن في حساب الإمام بشيء، فهو يريد أن تكون زيارة الارامل والايتام والفقراء والمحتاجين ثقافة اجتماعية، وليس فرصة للظهور، كما ان خوض القتال او المواجهة العسكرية وغير العسكرية مع جبهة الباطل والضلال مناسبة لتنمية الوعي وتعميقه وبناء الفكر والثقافة، وليس مناسبة لعرض العضلات وسباق الهيمنة بكل ثمن.
إن حياة أمير المؤمنين، من ولادته وحتى آخر رمق في حياته، كلها عِبر وعضات وتجارب، ليس لنا كمسلمين فقط، وإنما هي للبشرية جمعاء، وصدق الشاعر بولس سلامة:
لا تقولوا شيعة هواة علي
إن في كل منصف شيعيّا
هو فخرُ تاريخ لا فخر شعبٍ
يصطفيه ويتخذه وليا
وكذا الحال في حياة الأئمة الاطهار، وقبلهم الصديقة الطاهرة، والرسول الأكرم، صلوات الله عليهم، هنالك نقاط مضيئة تلمع من بعيد كالنجوم علينا الاقتراب منها ما استطعنا الى ذلك سبيلا باكتشاف العلل والاسباب والدوافع لنعرف –على الاقل- كيف نقتدي بهم، وفي مرحلة لاحقة نتعلم منهم كيف نعيش، وكيف نحل مشاكلنا، و ندواي دائنا، ثم نضمن الآخرة بما يرضي الرب

محمد علي جواد تقي
من شبكة النبا المعلوماتية