وانتصر "كاظم الغيظ" على "السيف"
فضيلة المحروس
قال المولى تعالى في كتابه الكريم {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}1

كثير ما نلهج ونترنَّم بهذه الصفة صفة "كظم الغيظ" أو "كاظم الغيظ"
فما معنى "كاظم الغيظ"؟ .. هل هو الحليم الذي يكتم غيظه ويُهدّئ من غضبه ويسكته أم ..؟

لو أردنا معنى "الكظم" في اللغة هو الإمساك، والجَمعُ للشَّيء، وكذلك يُعرف بأنّه حبس الشيء عند امتلائه، أما "الغيظ" في اللغة هو الغَضَب، وقيل أيضًا: هو أشدُّ من الغَضَب.
أما المعنى فهو مختلف في سيرة مولانا الإمام موسى بن جعفر (صلوات الله عليهما) وله منحى آخر.

لنتعرف على مدلول هذا الوصف والاسم المعجزة العجيب الذي اشتهر الإمام به وكذلك جده علي أمير المؤمنين صلوات الله عليهما..
نقول أولًا من الخطأ تفسير ما يتحلى به المعصوم صلوات الله عليه من صفةٍ ببعدٍ فردي ،فمثلا عندما نقول "شجاعة أمير المؤمنين" لا يمكننا تفسيرها بقوة في بدنه أو فتول في عضلاته فقط، لأن أحدى شجاعة " داحي باب خيبر" أنه نافذ البصيرة "، " لا تأخذه لومة لائم" ،و "لا يوحشه طريق الحق لقلة سالكيه" ،وهو الثابت الذي لا يتزلزل نفسيًا و"ان لم يبقِ له الحق صديق" ، ولو تركته جميع الملائكة والأنبياء "عدا نبينا محمد صلى الله عليه وآله" ،إذن هذه شجاعة من نمط آخر لا تكون إلَّا عند من عنده علم الأولين والآخرين أمير المؤمنين ..

والحال نفسه مع صفة "كظم الغيظ" التي تمثل كمال البصيرة عند الإمام موسى بن جعفر صلوات الله عليهما وتوحي بعظم ما يحمله من رسالةٍ إلهية نصبت عليه.
فنرى ما ذكر في سيرته الشريفة انه مع عظم ما واجهه صلوات الله عليه من تعذيب وتنكيل واستفزاز في سجون هارون اللارشيد ؛ الذي كان دأبه تبديد منهاج رسول الله صلى الله عليه وآله، وتصفية عترته الطاهرة ومن أتبعها من المؤمنين ،إلَّا انه كان "رابطا الجأش" كاظمًا للغيظ " "، حذرًا متيقظًا من مخططات ونوايا هذه الدولة المبتذلة؛ التي شيدت على أرواح الأبرياء وسفك دمائهم وعلى شعارات الزيف والفسق والمجون والليالي الحمراء ، وكان لهم بالمرصاد مناهض على كشف وتعرية مساوئ حاكمهم وان كان ثمنه إهلاك بدنه الشريف .

فرضت عليه الرقابة والإقامة الجبرية والتنقل من سجن إلى آخر حتى قضى فيها سبع سنين أو أربعة عشر عامًا، كان أشدها طاموره "السندي بن شاهق" لعنه الله الذي نَكّل به وقيده بثلاثين رطلًا من الحديد تحت عتمة سراديب الأرض لا يُعرف ليلها من نهارها ، وكذلك لم تسلم بيوت العلويين من آل الرضا من مداهمات العباسيين المباغتة ومن قتلهم الشرس ، لا للذنب سوى انهم من آل البيت النبوي صلوات الله عليهم .

كما اعتبرته السلطة العباسية مصدرًا خطرًا عليها، يربك ملكها العقيم؛ الذي نهبوه منذ "يوم السقيفة" غصبًا ، فاجتهدوا بإعلامهم الزائف على تقليص مقامات أهل البيت صلوات الله عليهم عند الناس، بالترويج والدعاية لمعتقداتهم الباطلة عبر مذاهب منتحلة وقتية كمذهب مالك ومذهب أبي حنيفة وغيرها من الطوائف التي صيروها الناطق الرسمي في الإفتاء عن بلاطهم «ألا لا يُفتي الناس إلّا مالك»2.

مع هذا الوضع المضطرب لم يهدأ الإمام "كاظم الغيظ"صلوات الله عليه ، كان شغله الشاغل هو إدارة وحماية الأمة من جاهلية بني العباس، وإعداد جيل صاعد من الفقهاء والمتكلمين كهشام بن الحكم و ابن أبي عُمير (مُحمَّد بن زياد).. يحملوا مسؤولية تعليم علوم أهل البيت ونشرها في البلدان القريبة والبعيدة ، وتمكن بعض من أصحابه وتلاميذه التوغل بحذر في مناصب الدولة العباسية المهمة وهيمنوا عليها دون علم من أحد ،كعلي بن يقطين وعبدالله بن سنان والحسن بن راشد.. اللّذَيْن عَملا في وزارات وخزائن هارون العباسي وأمثاله.

حتى أقرّ هارون يومًا لابنه المأمون الخؤون عن قدرة الإمام وتوسع نفوذه قائلًا": (وما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة الف سيف من شيعته ومواليه وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وإغنائهم)3.
ولما سمع هارون العباسي عن قُوّة حُجَّة هشام بن الحكم قال: (مثل هَذا حيّ ويُبْقي لي مُلكي ساعة واحدة؟! فوالله للسان هَذا أبلغ في قلوب الناس مِنْ مائة ألف سيف)4.

و نستفهم مما تقدم نمط آخر من أنماط "كظم الغيظ" عند الإمام موسى بن جعفر الكاظم صلوات الله عليهما ، أي بمعنى ان "الغيظ" لا يخفف ولايزال عند المعصوم إنما يديره ويستثمره ويتحكم فيه لصالح الدين والعقيدة.
وبه انتصر صاحب السجدة الطويلة "كاظم الغيظ" الذي سطع نجمه في الآفاق وأصبح مزاره تؤمه الملايين من مختلف الولايات والأقطار، بينما قبر عدوه اللدود هارون صار إلى الهاوية في مزبلة التاريخ لا يُذكر اسمه إلَّا بسبٍ وشتم ولعن.

1. 134 آل عمران.
2. وفيات الأعيان: 4: 135؛ تنوير الحوالك على موطأ مالك.
3. الاحتجاج 2: 133.
4. كمال الدين 362.