قد يكون من المفيد أن نعرض إلى ذلك المنهج الذي نعتقد بمطلوبية اعتماده في معالجة النصوص الدينية ذات الصلة بالمهدوية، وذلك بهدف التأسيس للإجابة على بعض الأسئلة التي قد تُطرَح في هذا الشأن.
وهنا لا بدَّ من القول: إنَّ نظريات عديدة قد عُنيتْ بتفسير غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) وفلسفتها، حيث نجد أنَّ بعضاً منها تناول البُعد الشخصي لهذا الحدث، في حين أنَّ نظريات أُخرى ركَّزت على بُعده الاجتماعي والعامِّ. وهذا الاختلاف في التفسير يرجع إلى طبيعة المنهج المعتمد في قراءة نصوص الغيبة وفلسفتها. حيث يجب الإشارة هنا إلى أنَّ النصوص الدينية قد أخذت الدور الأساس في توليد تلك النظريات المفسِّرة للغيبة.
بدايةً لا بدَّ من أن نشير إلى أهمّ تلك النظريات، ومن ثَمَّ نحاول الإلفات إلى المنهج المناسب في بنائها وفهم النصوص التي ارتكزت عليها، في محاولة لتقديم رؤية شاملة وموضوعية، تأخذ بعين الاعتبار الأُسس الكلاميَّة والدينيَّة، التي ترتكز عليها تلك الغيبة.
يمكن تقسيم تلك النظريات إلى قسمين: نظريّات شخصيَّة ونظريّات اجتماعيَّة.
١- النظريات الشخصيَّة:
والمراد منها تلك النظريات التي تُفسِّر الغيبة بالاستناد إلى شخص الإمام المهدي (عليه السلام)، وهي نظريات متعدِّدة، يمكن استفادتها من الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، وأهمّها:
أ- نظرية الخوف: تذهب هذه النظرية إلى أنَّ الإمام (عليه السلام) قد غاب خوفاً على نفسه من القتل أو الذبح، وبالتالي، فإنَّ حماية شخص الإمام قد اقتضت غيبته، منعاً من تعرضه للقتل.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «يا زرارة، لا بدَّ للقائم من غيبة»، قلت: ولِمَ؟ قال: «يخاف على نفسه-وأومأ بيده إلى بطنه-» (٨).
ب- نظرية البيعة: أي إنَّ الإمام (عليه السلام) قد غاب حتَّى لا يبايع أحداً من الظالمين؛ لأنَّه لو بقي ظاهراً، فسوف يضطرُّ إلى البيعة.
رُويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام): «صاحب هذا الأمر تغيب ولادته عن هذا الخلق، لئلَّا يكون لأحدٍ في عنقه بيعة إذا خرج» (٩).
ج- نظرية الاعتزال: ومفادها أنَّ الله تعالى يكره لأوليائه مجاورة الظالمين، ولذلك غاب الإمام (عليه السلام) كرهاً لأفعالهم، وكتعبيرٍ عن رفض ظلمهم وفسادهم.
ورد عن أبي جعفر (عليه السلام): «إنَّ الله تعالى إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم» (١٠).
هذه أبرز النظريات التي يمكن تصنيفها في تفسير البُعد الشخصي لقضيَّة الغيبة.
٢- النظريات الاجتماعيَّة:
وهنا يمكن أن نعرض لبعضٍ من تلك النظريات، وهي:
أ- نظرية التمحيص: حيث أكَّدت بعض الروايات على أنَّ الهدف من الغيبة هو تمحيص المؤمنين واختبارهم؛ لأنَّ فلسفة الحياة قائمة على أساس الابتلاء، ومن أبلغ الابتلاءات ضرورة الإيمان بالقائم (عليه السلام) وهو في غيبته، بل وتحقيق جملة تلك الغايات والنتائج التي تترتَّب على الابتلاء بالغيبة، حيث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ هذا الأمر لا يأتيكم إلَّا بعد إياس، لا والله حتَّى تُمَيَّزُوا، لا والله حتَّى تُمَحَّصُوا، لا والله حتَّى يشقى من يشقى، ويسعد من يسعد» (١١).
ب- نظرية النصرة: أي إنَّ الإمام (عليه السلام) قد غاب لعدم وجود الناصر، وهو ما يُستفاد من بعض الروايات، باعتبار أنَّ الأُمور تجري بأسبابها؛ ومن أسباب النصر وجود الناصر، ولذلك غاب الإمام لعدم وجود الناصر.
ج- نظرية الامتحان: والمراد بها امتحان النظريات الوضعيَّة واللادينيَّة التي أُريد لها أن تكون بديلاً عن الأُطروحة الإلهيَّة، فكان تغييب الإمام بمثابة تعطيل مرحلي للأُطروحة الإلهيَّة في مرتبتها المعصومة إفساحاً في المجال أمام تلك النظريات الوضعيَّة حتَّى تختبر صحَّتها وصولاً إلى مرحلة الانسداد الحضاري واكتشاف عدم قدرة تلك النظريات على علاج جميع مشاكل الإنسان، وإيصاله إلى سعادته الحقيقيَّة.
د- نظرية الإعداد: والمراد بها انتظار جميع الظروف الموضوعيَّة، والإعداد لها للقيام بعملية التغيير الشاملة، وتمكين الدين، وإحقاق العدل في جميع الأرض (١٢).
وبناءً على ما تقدَّم، كيف يمكن الجمع بين كلِّ تلك النظريات؟ وما هو المنهج الذي يجب أن يُعتَمد في قراءة النصوص المفسِّرة لحدث الغيبة، باعتبار أنَّ تحديد المنهج والمقدّمات التي يمكن أن يرتكز عليها في تلك القراءة؛ كلُّ ذلك يُؤثِّر حكماً في النتائج التي يُنتهى إليها؟
--------------------------------------------------------------------
٨) الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، (لاط)، مؤسَّسة النشر الإسلامي، قم، ١٤٠٥ه.ق، ص٤٨١.
(٩) المجلسي، بحار الأنوار، مؤسَّسة الوفاء، بيروت، ١٩٨٣م، ط٣، ج٥٢، ص٩٦.
(١٠) الصدوق، علل الشرائع، مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ١٩٨٨م، ط١، ج١، ص ٢٨٥.
(١١) الكليني، محمّد بن يعقوب: الكافي، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، ط٥، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران، ١٣٦٢ه.ش، ج١، ص٣٧٠.
(١٢) في علل الغيبة ونظرياتها راجع (عدا عمَّا ذكرنا من مصادر): الصدوق، علل الشرائع، م.س، ص ٢٨٤-٢٨٨؛
الأستاذ الدكتور الشيخ محمد شقير
عميد كلية الدراسات الإسلامية- بيروت لبنان
جزء من بحث مشارك في مسابقة خاتم الأوصياء (عجّل الله فرجه) للإبداع الفكري وحاز على المركز الأول