الغدير في صراط الرسالات
الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي عَلَا فَقَهَرَ، والْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي مَلَكَ فَقَدَرَ، والْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي بَطَنَ فَخَبَرَ، والْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي يُمِيتُ الأَحْيَاءَ، ويُحْيِي الْمَوْتَى وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، والْحَمْدُ لِلَّه مِدَادَ كَلِمَاتِه، والْحَمْدُ لِلَّه زِنَةَ عَرْشِه، والْحَمْدُ لِلَّه رِضَا نَفْسِه، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه أَرْسَلَه بِالْهُدَى ودِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه ولَوْ كَرِه الْمُشْرِكُونَ.
عباد الله اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ، ونَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ، واعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ، ونُوراً مِنَ الظُّلَمِ، ويُخَلِّدْهُ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، ويُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي دَارٍ ظِلُّهَا عَرْشُهُ، ونُورُهَا بَهْجَتُهُ، وزُوَّارُهَا مَلَائِكَتُهُ ورُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ، فَبَادِرُوا الْمَعَادَ، وسَابِقُوا الْآجَالَ.
يومٌ مهَّدت له كلُّ الرسالات:
أما بعدُ فأباركُ لكم عيدَ الغديرِ الأغر، يومٌ مهَّدت له كلُّ الرسالات على امتدادِها الضاربِ في عمقِ تاريخ الإنسان، من لدنْ آدمَ (ع) إلى أن بُعث النبيُّ الكريم (ص) .. حلقةٌ تتلوها حلقة، وخطوةٌ تُمهِّد لخطوة .. فآدمُ مهدَّت رسالتُه لرسالةِ نوح، ونوحٌ مهَّدتْ رسالتُه لرسالةِ إبراهيم، ومهَّدت رسالةُ إبراهيمَ لنبوة ورسالة موسى، وموسى مهَّد لعيسى، وعيسى مهَّد لنبينا الكريم (ص) ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِيْن / ذُرِيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيْعٌ عَلِيمٌ﴾(1).
والنبيُّ الكريمُ (ص) مهَّد برسالتِه التي صَدع بها إلى عليّ (ع)، وعليٌّ يُمهِّد للحجَّةِ ابن الحسن- عجَّل الله فرجَه الشريف-، وهذا هو مصداق ما ورد في الروايات الكثيرة، وفي الزيارات المأثورة المعبِّرة عن وراثةِ عليٍّ (ع) للأنبياء "السلام عليك يا وارثَ آدمَ صفوةِ الله، السلام عليك يا وارثَ نوحِ نبيِّ الله"(2). وقد أُسند هذا الوصفُ لعموم أئمةِ أهل البيت (ع) في الزيارات المأثورة وغيرها، فكلُّ أئمةِ أهلِ البيت (ع) ورثةٌ للأنبياء، وكلُّ إمامٍ يُمهِّدُ للآخر، إلاَّ أنَّ للرسالات فصولاً ومحطَّاتٍ أساسية، وكان أحدُ هذه الفصول التي مهَّدت له الرسالات هو يومُ الغدير، اليوم الذي جُعِل فيه عليٌّ (ع) إماماً لهذه الأمة بحاضرها آنذاك ومستقبلِها الذي أريدَ له أن يمتدَّ إلى قيام الساعة.
يومٌ تتوقَّف عليه خاتمة الرسالات:
والذي يُعبِّرُ عن أهميَّةِ هذا اليومِ عند الله -عزَّ اسمه وتقدس- هو الخطابُ الإلهيُّ غيرُ المسبوق، الذي استوقفَ الرسولَ (ص) في هجيرِ الصحراء، بعد أنْ عاد قافلاً من حجَّةِ الوداع: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين﴾(3).
خطابٌ غيرُ مسبوق، ولحنٌ من القول لم يكن قد عهدَه الرسولُ الكريم (ص)، فما هو هذا الشيءُ الذي يكونُ عدمُ التبليغِ له بمثابة عدم التبليغِ لمجملِ الرسالة التي امتدَّ تبليغُها لأكثرِ من عقدينِ من الزمن؟!
عقدانِ من الزمن تكبَّدَ فيهما الرسولُ (ص) أشدَّ العناء والعنت، وصبرَ فيهما على أشقَّ ما يصبرُ عليه المرسلون، واستفرغَ فيهما وسعَه لا يفتأُ ليلَ نهارَ معلِّماً لكتابِ الله ومبيناً لمقاصدِه ومبلِّغاً لأحكامِ الله وشرائع دينِه، فلم يترك حقيراً ولا خطيراً إلاَّ وقد أوضحه، فكان أثرُ بلاغِه عظيماً لا يُضاهى، إذ ليس له من نظيرٍ في تاريخ الرسالات، ولهذا باهى اللهُ تعالى به ملائكتَه ورسلَه. إذن كيف نفهمُ أنَّ أمراً واحداً يكون عدم التبليغِ له مُفضياً لنسفِ كلِّ ما كان قد بلَّغه: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾(4)، أيُّ شيء هذا الذي يُفضي عدمُ التبليغِ له إلى صيرورة الرسالة برُمَّتها في مهبِّ الريح؟!
لماذا هذا اللحن من الخطاب؟!
إنَّ هذا اللحنَ من الخطاب يُعبِّر عن جليلِ الأمر الذي كُلِّف النبيُّ (ص) بتبليغه: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾(5) إنَّ هذه الرسالة تحتاجُ إلى مَن يذودُ عنها، ومَن يحتاط إليها، ومن يقودُها ويرعاها، وليس ثمَّة من رجلٍ جديرٍ بهذا المقامِ الإلهيّ سوى عليّ (ع). ذلك هو ما فهمه كلُّ من شهد الخطاب النبوي في صحراء الغدير والذي احتشد فيه آلاف المسلمين يستمعون النبيَّ (ص) وهو ينعي نفسه ويعطي زمام رسالته بيد عليٍّ (ع).
وتُعبِّر عن أهمية هذا اليوم آيةٌ أخرى .. فبعدَ أن بلَّغ الرسولُ (ص) الأمرَ، وتألَّق عليٌّ (ع) يومَ الغدير أمام حشودِ المسلمين الحجَّاج، ورفع رسولُ الله (ص) يدَه، وكانت في يدِه يدُ علي، وبلَّغ ما أُنزل إليه من ربِّه أمام مشهدٍ لم يسبق له نظير في تاريخ المسلمين، فقال (ص): (من كنت مولاه؛ فهذا علي مولاه)، بعد أن طلب منهم الإقرار، وقال لهم: ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: فمَن كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأَدِر الحقَّ معه حيثما دار(6).
فبعد أنْ بلَّغ رسول الله (ص) هذا الأمر، نزلت هذه الآية المباركة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دِيْنَكُم وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نَعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾(7). فرسالاتُ السماء التي بدأتْ بآدم وانتهتْ إلى نوح، وصولاً إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، وبعده إلى عيسى، ثم إلى محمد (ص)، ففي هذا اليوم تمَّت الرسالة وخُتمت، من هنا كان هذا اليوم محطَّةً مفصلية وحاسمة في خطِّ الرسالات الإلهيَّة، ولولا ذلك اليوم لما تمَّت الرسالة ولما كمُل الدين. من هنا نعرفُ أهميةَ هذا اليوم.
وهنا قد يقفزُ للذهن سؤالٌ: لماذا اختار اللهُ عليَّاً للإمامة دون سواه؟
وتوطئةً للجواب نقول:
إنَّ الإمامةَ لا تعني -كما يتوهمُ الإخوةُ من أبناء العامة- الرئاسةَ الظاهريةَ وحسب، فتلك مظهرٌ من مظاهرِ الإمامة، وليست هي حقيقة الإمامةِ بحسب المفهومِ الإسلامي.
الإمامةُ في المصطلحِ القرآني تفوقُ مرتبةَ النبوَّة، فلم يكن كلُّ الأنبياءِ واجدينَ لمرتبةِ ومقامِ الإمامة. يقول اللهُ تعالى في شأنِ إبراهيمَ الخليلِ شيخِ الأنبياء (ع): ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيْمَ رَبُهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾(8)، بعد ذلك قال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ .. بعد تمحيصٍ عسرٍ وطويل، وبعد أنْ كان واجداً لمقام النبوَّة، ثم لمقام الخِلَّة، بعدها تأهَّل لمقام الإمامة، فحينذاك قال الله تعالى: ﴿إَنِّي جَاعِلُكَ لِنَّاسِ إِمَاماً﴾(9).
ورد عن الإمام أَبِي جَعْفَرٍ الباقر (ع) بسندٍ معتبر قَالَ: "إِنَّ اللَّه اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه نَبِيّاً واتَّخَذَه نَبِيّاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه رَسُولاً واتَّخَذَه رَسُولاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه خَلِيلاً واتَّخَذَه خَلِيلاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه إِمَاماً فَلَمَّا جَمَعَ لَه هَذِه الأَشْيَاءَ -وقَبَضَ يَدَه- قَالَ لَه: يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿إَنِّي جَاعِلُكَ لِنَّاسِ إِمَاماً﴾(10)، فَمِنْ عِظَمِهَا فِي عَيْنِ إِبْرَاهِيمَ (ع) قَالَ: يَا رَبِّ ﴿ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(11)"(12) وورد كذلك ما هو قريب من هذا المضمون عن الإمام الصادق (ع) من أكثر من طريق.
إذن نعود للسؤال: لماذا اختار اللهُ علياً إماماً دون سواه؟
الجواب:
أولاً: الإمامة لمن هو كفؤٌ لها:
ولهذا السؤال جوابان: أحدُهما يتمُّ بملاحظةِ الملكاتِ التي كان عليَّاً (ع) واجداً لها، ومتميزاً بها، ومتفوِّقاً بها على كلِّ الناس.
ثانياً: الإمامة اصطفاء واختيار إلهيّ:
وثمَّة جوابٌ آخر -أهمُّ من الجواب الأول رغم أهميَّته -، وهو إنَّ الإمامة اصطفاءٌ واختيارٌ من الله، شأنها في ذلك شأنُ النبوة: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَان﴾ هؤلاءِ أنبياءُ، وأوصياء، ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيْمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِيْن ُّذرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾(13)، فالإمامةُ اصطفاء من الله واختيار، فلا يُسأل اللهُ عما يفعل، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(14).
لماذا اختار الله (تعالى) عيسى، ولم يختر سواه؟ لماذا اختار سليمان وصيَّاً وخليفة لداوود ولم يختر رجلاً آخر؟ لا ندري. هل لأنَّه مّؤهَّل؟، لماذا لم يؤهَّل غيره؟! لا ندري.
لماذا اختار الله تعالى يحيى الصبيَّ الصغير (ع) ليكون نبياً وخليفةً لزكريا ولم يختر غيره من الرجال؟ لماذا اختار شيثاً وصيَّاً لآدم، ولم يختر غيره من الأبناء الكُثُر الذين كانوا لآدم، ولم يكن شيثٌ أكبرَ أبناءِ آدم؟! الجواب: إنَّه اصطفاء، واختيار، ولا يُسأل اللهُ عمَّا يفعل.
الإمامة اصطفاءٌ سابقٌ على الحياة الدنيا
يقول الرسولُ الكريم (ص) -كما ينقل الفريقان-: "كنتُ نبياً وآدمُ بين الماءِ والطين"(15)، ومعنى ذلك انَّ رسول الله (ص) لم يخضع لتأهيلٍ وامتحانٍ في الدنيا، لا، بل كان نبياً وآدمُ بين الطين والماء. وفي رواية أخرى: "كنتُ نبياً وآدم بين الروح والجسد"(16)، فقبل أنْ يخلق الله تعالى آدمَ كان محمدٌ (ص) نبيَّاً. فالمسألة مسألة اختيار واصطفاء واجتباء، وهذا لا يخضعُ لاختبارٍ ظاهريٍّ في الدنيا. ويُؤكِّدُ ذلك ما وقع لعيسى (ع)، فعيسى كان نبياًّ قبل أن يُخلق، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَّشِرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيْحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيْهاً فِيْ الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِين / وَيُكَلِّمُ النَّاسَ في المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَالِحِينَ﴾(17)، بعدُ لم يُخلق حتى يُمتحن .. وبعد لم يُخلق ولكنَّ الله اصطفاه. وحين وُلد لم يمضِ على ولادته سوى ساعات، حتى إذا سأل بنو إسرائيل مريم: مَن هذا؟! قال عيسى (ع): إني عبد الله -وهو في المهد!-، ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾(18) عجيب! عُلِّم الكتابَ وهو في المهد؟! إذن، هو اصطفاء، وهو اختيار.
ويُخاطب الله يحيى -وكان صبيّاً- ويقول: ﴿يَا يَحْيَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾(19)، أنت محيطٌ بالكتاب، فقد علمناك إيَّاه، وعرَّفناك بتفاصيله ودقائقه .. هذا هو معنى بقوة. ثم يقول تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمْ صَبِيّاً﴾(20). متى امتُحِن هذا الولد؟! ومتى مُحِّص؟! لم يكن ثمة امتحان بل هو اختيارٌ أيَّها الإخوة.
يقول الله لموسى: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوْحَى / إِنِّي أَنَا اللهُ لاَ إِلَه إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَلاَةَ لِذِكْرِي﴾(21)، ثم يخبره بعد ذلك ويقول له إنيِّ لم أخترك من الآن، فمنذ أن أَوْحَيْنَا إلى أُمِّكَ مَا يُوحَى، قلت لها ضعيه في التابوت، وألقيه في اليم، يلتقطه عدوٌ لي وعدو له، ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾(22)، ثم قال تعالى: ﴿وَلْتُصْنَعَ﴾ أنا صنعتك، وتحت رعايتي كنتَ منذ أن كنتَ في المهد، ﴿وَلْتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ منذ أن كنت في المهد صغيراً ﴿وَلْتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي / إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ﴾(23). فهي عنايةٌ خاصة يخصُّ الله بها أولياءه، وخالصته، ومن أراد لهم أن يكونوا أدَّلاءَ على دينِه.
نورٌ اصطفاه الله قبل أن يخلق آدم (ع)
يقول الرسول الكريم (ص) -كما ورد ذلك مستفيضاً بألسنةٍ مختلفة وورد من بعض طرق العامة أيضاً -(ص): "كنتُ أنا وعليٌّ نوراً بين يدي الله قبل أن يخلق آدم"(24) فالعناية الإلهية بعليٍّ (ع) بدأت قبل أن يخلق الله آدم
من خصائص عليّ (ع):
ومما يُعبِّر عن العناية الخاصة بهذه الشخصية المتألِّقة، أنه حين وُلد، وُلد في حرمِ الله، وفي بيت الله، لم يسبقه أحدٌ إلى هذا الشرف من قبل .. وما أنْ خرجت به أُمّهُ من جوفِ الكعبة حتى تلقَّته يدُ الرسول (ص)، فكان أوَّلُ حِجْرٍ يحتضنُه هو حِجْر رسول الله (ص)، وتولَّى رسولُ الله رعايته وتنشئته.
وقد تحدَّث عليٌّ (ع) عن علاقته برسول الله (ص) منذُ نعومةِ أظفاره، فيقول:
"وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (ص) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وأَنَا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إلى صَدْرِهِ، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، ويُمِسُّنِي جَسَدَهُ، ويُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ (ص) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ ونَهَارَهُ، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ ولَا يَرَاهُ غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (ص) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ"(25).
هكذا كانت مراحل حياة أمير المؤمنين (ع)، تميُّزٌ في كلِّ فصول حياته .. منذ كان نوراً، ثم وليداً، ثم رضيعاً في كنف رسول الله (ص) ثم يافعاً.
وحين أراد أن يتزوَّج زوَّجهُ الله (تبارك وتعالى)، ففي ليلة -أكَّدت الروايات الواردة من طرقنا، وطرق العامة. والكتب ببابكم، ابحثوا وستجدون صدق ما أقول- ورد أنَّ علياً تميَّز عن سائر الناس بأنَّ زواجه كان في السماء .. لماذا عليٌّ دون سواه؟! هذه الأسئلة لن تجدوا لها جواباً .. لماذا عليٌّ دون سواه يُولد في جوف الكعبة؟! ولماذا يختصُّ به رسول الله دون غيره؟! ولماذا يُزوِّجه الله (تعالى) في السماء ليلة أسري برسول الله عند سدرة المنتهى، ويخطب له، ويزوِّجه؟! ثم حين حان وقتُ زواجه هبط جبرئيلُ يخبر رسول الله (ص) بأنَّ الجليل يُقرؤك السلام، ويأمرك أن تزوِّج علياً من فاطمة، فقد زوَّج الله علياً من فاطمة في السماء.
حتى أنَّ أناسا من قريش قالوا: يا رسول الله، زوَّجت ابنتك من أفقر أصحابك؟! فغضب رسول الله (ص)، وقال: والله، ما زوَّجته أنا، ولكنَّ الله زوجه في السماء(26).
وكان لزواج عليٍّ خصوصيَّة أخرى لم تتفق لغيره -لا نريد أن نذكر أسماءهم، أنَّه حينما زُفَّت فاطمة (ع) إلى بيت عليٍّ مشياً، بينا رسول الله يسير، نزل جبرئيل في سبعين ألفاً من الملائكة ملك، ونزل ميكائيل في سبعين ألفاً من الملائكة فقال رسول الله (ص) عن ذلك، فقالوا: جئنا نزفُّ فاطمة إلى زوجها علي بن أبي طالب فكبَّر جبرئيلُ وميكائيل، وكبَّرت الملائكة، وكبر رسول الله (ص).
هذه الخصوصيات لم تتَّفق لغير عليٍّ (عليه أفضل الصلاة وأتم السلام).
خلاصة الغدير:
ما نريد أن نخلُص إليه وهو أنَّ (الولاية) التي هي غاية رسالة الغدير يتلخَّص معناها ومقصودها فيما ورد عن أهل البيت (ع)، فحينما سُئِل الإمام السجاد، وسُئل الإمام الباقر(عليهما السلام): ما معنى (من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه)؟ قال: أراد رسول (ص) الله أن يُخبرهم أنَّ من كنت أنا وليُّ أمره، فعليٌّ وليٌّ أمره .. ومن كنتُ أنا نذيره، فعليٌّ نذيره .. ومن كنتُ أنا هاديه، فعلي هاديه .. ومن كنتُ أنا إمامَه، فعليٌّ إمامَه(27).
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(28)
- الشيخ محمد صنقور-بتصرف
1- سورة آل عمران / 33-34.
2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 97 ص 342.
3-سورة المائدة / 67.
4-سورة المائدة / 67.
5- سورة المائدة / 67.
6- "ألست أولى بكم من أنفسكم ثلاثا وهم يجيبونه صلى الله عليه وسلم بالتصديق والاعتراف ورفع صلى الله عليه وسلم يد علي كرم الله وجهه وقال من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وابغض من أبغضه وانصر من نصره وأعن من أعانه واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار" السيرة الحلبية -الحلبي- ج 3 ص 336.
7- سورة المائدة / 3.
8- سورة البقرة / 124.
9- سورة البقرة / 124.
10- سورة البقرة / 124.
11- سورة البقرة / 124.
12- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 175.
13- سورة آل عمران / 33-34.
14- سورة الأنبياء / 23.
15- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 98 ص 155. تفسير الرازي -فخر الدين الرازي- ج 6 ص 213.
16- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 18 ص 278.
17- سورة آل عمران / 45-46.
18- سورة مريم / 30.
19- سورة مريم / 12.
20- سورة مريم / 12.
21- سورة طه / 13-14.
22- سورة طه / 39.
23- سورة طه / 39-40.
24- الخصال -الشيخ الصدوق- ص 640. تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج 42 ص 67.
25- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 2 ص 158.
26- "ما أنا زوجت عليا ولكن الله زوجه ليلة أسري بي عند سدرة المنتهى". بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 100 ص 266.
27- "قلت لعلي بن الحسين (ع): ما معنى قول النبي (ص): من كنت مولاه فعلي مولاه؟ قال: أخبرهم أنه الامام بعده" الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 185. "عن أبان بن تغلب، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عليهم السلام عن قول النبي صلى الله عليه وآله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فقال: يا أبا سعيد تسأل عن مثل هذا؟ علمهم أنه يقوم فيهم مقامه" معاني الأخبار -الشيخ الصدوق- ص 66.
28- سورة العصر.