بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد لاحظت أن المجال التداولي لمفهوم الكراهية في الدراسات النفسية والفكرية والسياسية والتاريخية بصورة عامة، يعد حديثاً، ويرجع الاهتمام الواسع به على الأغلب إلى العقد الأخير من القرن العشرين، وقبل ذلك كان تداوله يكاد يتحدد وينحصر في نطاق الحياة الزوجية والعلاقة بين الزوجين.
وحين حاولت البحث عن تعريف علمي واصطلاحي لهذا المفهوم في كتب المعاجم، كالمعجم الفلسفي لعضو مجمع اللغة العربية بدمشق الدكتور جميل صليبا لم أجد ذكراً له، وهو ما نعده اليوم نقصاً فيه بحاجة إلى استدراك.
وبالعودة إلى بعض الدراسات النفسية، بوصف أن هذا المفهوم ينتمي في الأساس إلى حقل علم النفس، لم أجد أيضاً التعريف الذي أبحث عنه، حيث لم تدرج الكراهية كمفهوم مستقل ضمن قائمة التعريفات المتصلة بهذا الحقل، والقريبة منه، كالعدائية والعدوانية والغضب والعنف وتأكيد الذات وغيرها، وجاء البعض على ذكره وبشكل عابر في إطار الحديث عن مفهوم العدائية.
وحين حاولت البحث عن تعريف لغوي لهذا المفهوم، وجدت أن معاجم اللغة القديمة على ثرائها وغناها اللغوي والاشتقاقي، كـ(لسان العرب) لابن منظور، و(معجم مقاييس اللغة) لأحمد بن زكريا، و(أساس البلاغة) للزمخشري، و(التعريفات) للشريف الجرجاني، وجدت أنها لا تسعفنا بشيء، ولا تقدم لنا إضافة مهمة، حيث عرفت المصدر (كره) باشتقاقات عديدة، لا تكاد تقترب من مفهوم الكراهية إلا بقدر بسيط للغاية، كالقول بأنه يدل على خلاف الرضا والمحبة.
وأمام المعاجم الحديثة، كـ(المعجم الوسيط) لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، فهو أفضل حالاً من المعاجم القديمة نسبياً بشأن هذه المفردة، لكنه هو الآخر لا يضيف شيئاً مهماً يضيء في تعريف الكلمة، وما ورد فيه من تعريف هو (كَرِهَ الشيء كُرهاً وكَرَاهة وكَرَاهية: خلاف أحبه، فهو كريه ومكروه. وكرُه الأمر والمنظر كراهة وكراهية: قبح فهو كريه).
أما المفاجئة المدهشة فكانت في النقص الفادح أو الغياب الفادح، للدراسات والمؤلفات التي تناولت فكرة الكراهية في المجال العربي، والكتاب الذي وجدته يبحث حول هذه الفكرة بهذا المسمى هو كتاب (فلسفة الكراهية) للدكتور راشد المبارك الصادر سنة 2001م، ولا أدري إن كان هو الكتاب الوحيد في هذا الشأن باللغة العربية أم لا! فالدكتور عز الدين موسى في تقديمه لهذا الكتاب اعتبره الفريد في بابه، وأشار الدكتور المبارك إلى ذلك أيضاً حين تساءل هل الكراهية خلل طبع؟ ورأى أن ما يحمل على الدهشة أن يفاجأ الباحث حسب قوله بتلك الحقيقة المتمثلة في أن هذا الجانب من طبيعة النفس الإنسانية لم يول ما يتناسب مع مكانته وخطره من عناية، ويضيف أن الباحث يضنيه البحث في العثور على كتب وأبحاث أفردت لدراسة هذا الجانب بحثاً عن جذوره، وشرحاً لطبيعته، وتعريفاً بمعالجته.
وتتأكد ملاحظة الدكتور المبارك حيث لم يأت على ذكر أي كتاب عربي آخر تحدث عن هذه القضية، وهذا ما حاولت تقصيه في كتابه، لكنه أشار إلى كتابين صدرا باللغة الإنجليزية، رجع إليهما واستفاد منهما، وهما كتاب (سجناء الكراهية) الصادر سنة 2000م لمؤلفه آرونت بيك، وكتاب (مولد الكراهية) الذي يحتوي حسب وصف الدكتور المبارك على أحدث دراسات صدرت في هذا الشأن، قام بها فريق من علماء النفس البارزين والمشتغلين بالطب النفسي، وقدمت على شكل أوراق بحثية لندوة مؤسسة مارغريت.إس مالر للأبحاث النفسية، بمدينة فيلادلفيا بولاية نيوجرسي، وعقدت سنة 1994م، وصدرت لاحقاً في كتاب بالعنوان المذكور.
ومن النتائج المهمة التي وردت في هذين الكتابين، والمضيئة لمعنى ومفهوم الكراهية، ما أشار إليه آرونت بيك في كتابه (سجناء الكراهية)، حيث اعتبر أن الكراهية تعمل بقانون واحد سواء كانت بين ألصق الأقارب مثل الزوج وزوجته، أو بين المتواجهين في ساحة الحرب، أو المتنافرين في معتقد.
ومن هذه النتائج كذلك ما جاء في كتاب (مولد الكراهية)، حيث أشارت إحدى الدراسات إلى أن الكراهية لا ترجع إلى عامل واحد بل هي حالة معقدة، وتشتد باشتداد الشعور بالأنانية، أو الشعور بالخوف، أو بالاضطراب النفسي.
وما ننتهي إليه أن الكراهية هي امتزاج موقف فكري مع حالة نفسية، وبعبارة أخرى هي موقف فكري يتلبس بحالة نفسية وتتجلى بهذا المظهر النفسي، الذي يغلب عليه التوتر والانفعال، وبشكل يحدث تنافراً بين طرفي العلاقة.
والنتيجة أن الكراهية في كل صورها وتجلياتها لا تعبر عن موقف يرتضيه العقل والعقلاء، أو تقبل به الحكمة والحكماء.