بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
يقال: إنَّ هندًا زوجة يزيد كانت جاريةً أو خادمة في بيت أمير المؤمنين في المدينة، وكانت من المُحبِّين لأهل البيت هل صحَّ ذلك؟ وما هو موقفها ممَّا فعل يزيدٌ بالإمام الحسين وأهل بيته ؟
الجواب:
هند زوجة يزيد قرشية وليست جارية:
هند زوجة يزيد بن معاوية هي بنت عبد الله بن عامر بن كُريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس العبشمية القرشيَّة(1)، فجدُّها عامر بن كُريز كان من مسلمَةِ الفتح يعني كان من الطلقاء، وكان خالًا لعثمان(2)، وأبوها عبد الله بن عامر بن كُريز كان واليًا من قِبل عثمان على البصرة وخراسان، ولَّاه عليهما -نظرًا لقرابته كما صرَّح بذلك-(3) رغم حداثةِ سنِّه وذلك أحد أسباب النقمة على عثمان، فعبدُ الله بن عامر لم يكن يتجاوز سنُّه حين ولَّاه عثمان على البصرة وخراسان الخامسة والعشرين سنة، وبقي واليًا عليهما إلى أنْ قُتل عثمان(4).
وبعد مقتل عثمان حمل ما عنده من أموالِ بيتِ مال البصرة ونزل مكة، فكان هو من أبرز المُحرِّضين على حرب عليٍّ وهو الذي دفع طلحة والزبير وعائشة إلى المسير إلى البصرة ووعدهم بأربعة آلاف مقاتل، وخرج معهم إلى البصرة، وكان مِن أبرز الممولين لجيش البصرة(5)، وكان معهم إلى أنْ هَزمَ الإمام عليٌّ جيشَ البصرة في حرب الجمل، وقُتل في تلك المعركة ولدُه الذي كان يكنى به وهو عبد الرحمن(6)، وبعد الهزيمة هرب إلى الشام وجاورَ معاوية إلى أنْ استُشهد أميرُ المؤمنين (7).
وسيَّر معاويةُ جيشًا إلى حرب الإمام الحسن فكان عبدُ الله بن عامر بن كُريز على رأس الجيش الذي توجَّه لحرب الإمام الحسن قبل الصلح(8)، وبعد الصلح أعاد له معاويةُ الولاية على البصرة (9).
فهندٌ إذن قرشيَّة من بني عبد شمس، وأبوها وجدُّها من سادات قريش، ولهذا فهي ليست جاريةً -بمعنى أمة- في بيت أمير المؤمنين كما توهَّم البعض، وكذلك لا يُمكن لمثلها أنْ تكون خادمةً في بيت أمير المؤمنين .
هل كانت هند من المحبِّين لأهل البيت :
وأمَّا موقفها ممَّا فعله زوجُها يزيد فقد أورد الطبري في تاريخه عن هشام عن أبي مخنف قال حدَّثني أبو حمزة الثمالي عن عبد الله الثمالي عن القاسم بن بخيت قال: "لما أقبل وفد أهلُ الكوفة برأس الحسين دخلوا مسجد دمشق .. ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدَّثوه الحديث قال: فسمعت الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كُريز وكانت تحت يزيد بن معاوية فتقنَّعت بثوبها وخرجتْ وقالت: يا أمير المؤمنين أرأسُ الحسين بن فاطمة بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) قال: نعم، قال: فأعولِي عليه وحِدِّي على ابن بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وصريحة قريش عجَّلَ عليه ابنُ زياد فقتله، قتلَه اللهُ، قال: ثم أذِن للناس فدخلوا عليه والرأسُ بين يديه ومع يزيد قضيبٌ وهو ينكثُ به في ثغره ثم قال: إنَّ هذا وأنا كما قال الحُصين بن الحمام المري:
يُفلِّقنَ هامًا من رجالٍ أحبةٍ ** إلينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
قال: فقال رجلٌ من أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) يُقال له أبو برزة الأسلمي أتنكثُ بقضيبك في ثغر الحسين! أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذًا لربَّما رأيتُ رسولَ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) يرشفه، أما إنَّك يا يزيد تجيءُ يوم القيامة وابنُ زيادٍ شفيعك ويجيء هذا يوم القيامة ومحمَّدٌ شفيعه فقام وولَّى"(10).
فظاهر هذا النصِّ أنَّ هندًا استفظعتْ قتل الحسين ابن رسول الله فتظاهر يزيدٌ أمامها بالبراءة من دم الحسين وأنَّ ذلك مِنْ فِعْل ابن زياد، فلم يكن ما ذكره -من الثناء على الإمام والتأسُّف على قتله والإذن لزوجته بالحِداد عليه- يعدو المجاراة لِما وجده من استفظاع زوجته لمقتل الحسين ولذلك حين عاد لمجلسه أخذ ينكثُ ثنايا الحسين بقضيبٍ عنده، ويتفاخرُ بأنَّه المُفلِّق لهامِ رجالٍ وصَفَهم بالعقوق والظلم يعني الحسين سيِّد شباب أهل الجنَّة.
هذا وقد ذكر ابنُ سعد في الطبقات الكبرى أنَّ أمُّ كُلثومٍ (هند) بِنتُ عَبدِ اللهِ بنِ عامِرِ بنِ كُرَيزٍ بكت عَلى حُسَينٍ ، وهِيَ يَومَئِذٍ عِندَ يَزيدَ بنِ مُعاوِيَةَ، فَقالَ يَزيدُ: حُقَّ لَها أن تُعوِلَ عَلى كَبيرِ قُرَيشٍ وسَيِّدِها.
وذكر أنَّ يزيد بن معاوية "أمر بالنساء فأُدخلن على نسائه، وأمر نساء آل أبي سفيان فأقمْنَ المأتم على الحسين ثلاثة أيام، فما بقيَتْ منهنَّ امرأةٌ إلا تلقتنا تبكي وتنتحب، ونِحنَ على حسينٍ ثلاثًا"(11)، ونقل ذلك غيرُه من المؤرخين(12).
دوافع البكاء والعزاء لو كان قد وقع:
ووقوعُ ذلك من هندٍ ومِن نساءِ البيت الأموي غير مُستبعَد ولكنَّه لا يُعبِّر عن حبِّهنَّ للحسين بل هو الاستفظاعُ للحدَث والدهشةُ من وقوعه والتعاطفُ والرقَّةُ التي تقتضيها طبيعةُ المرأة، والشعورُ بالخشية من تبعاتِ ما وقع، والإكبار والتعظيم للبيت العلويِّ المخبوء في كوامن النفوس، والأجواءُ المشحونةُ بالأسى وجلال الموت والدماء، والمنظرُ الكئيبُ للنساء الهاشميَّات اللاتي يُضارعنهنَّ بحسب الثقافة القبليَّة في الشرف والسُؤدد.
فمجموعُ هذه المشاعر المختلطة والمرتبِكة هو ما نشأ عنه -ظاهرًا- بكاءُ الأميرة هند ونساءُ البيت الأموي مضافًا إلى اعتبار ذلك من المروءة المناسبة لكونهنَّ في بيت الخلافة والزعامة، والمقتضية للحرص على عدم الظهور في مظهر الشامتين -والتي هي من شأن ذوي الخسَّة والدناءة- والمقتضية للتظاهر بالمواساة، والمقتضية كذلك لإسداء التفضُّل بحُسن الضيافة.
ولعلَّ جميع ما كان قد صدر عنهنَّ من عزاءٍ وبكاءٍ ومواساة كان نفاقًا تماشيًا مع ما اقتضاه رأي سيِّدِهم -بعد التروِّي- من التظاهر بالبراءة من دم الحسين وإلصاق هذه الموبِقة بعامله ابنِ زياد، فما زال هذا البيتُ معروفًا بالنفاق والفجورِ في الكذب منذُ أنْ سرَّحهم النبيُّ الكريم يوم الفتح بقوله لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"(13).
مناشئ التشكيك في أخبار إقامة المأتم في دار يزيد:
ولعلَّ شيئًا من ذلك لم يقع فلم تبكِ نساءُ البيت الأموي ولم يُقمنَ على الحسين مأتمًا في قصر الخضراء ولم يُخصِّص يزيدٌ دارًا للنُدبة والحداد، ولم يتلطَّف بأطفال ونساء البيت النبويِّ ويعوّضهن أضعاف ما سلَبه رجالُه منهنَّ، ولم يحرص كما زعموا على عدم تناول الغداء والعشاء إلا مع زين العابدين فلعلَّ كلَّ ذلك لم يقع وإنمَّا هي أخبارٌ نسجتها بعد ذلك أقلام أصحاب الهوي الأموي والذين هم أحرص على تحسين صورة رموز النظام الأموي من النظام الأمويِّ نفسه، إنْ لم يكن حبًّا فيهم فنكايةً بخصومهم وانتصارًا لمذهبهم الذي لا يستقيم دون التبرير والاعتذار بأنَّ ما كان قد وقع من عظائم الأمور لم يكن عن أمرهم ولم يحظَ بإقرارهم وقبولهم، ولذلك حرصوا بعدما عملوا على تدارك ما وسعهم تداركه إلا أنَّه يكفي لتفنيد هذه الدعاوى الالتفات إلى أنَّ يزيد أقرَّ ابنَ زياد بعد مقتل الحسين على ولايته إلى أنْ مات بل وكان قد جمع له الولاية على كلٍّ من البصرة والكوفة(14) والتي يمتدُّ نفوذها ليستوعب الري وبلاد فارس، كما يُفنِّد هذه الدعاوى ما فعله جيشُ الشام بعد سنتين من مقتل الحسين في مدينة الرسول من القتل الذريع للصحابة وأبناء المهاجرين والأنصار والاستباحة للمدينة ثلاثة أيام(15) فارتكبت فيها العظائم وهُتكت الأعراض حتى حبِلتْ ألفُ عذراء دون أزواج(16) ثم زحف جُند الشام إلى مكَّة وحاصروها فضربوا الكعبة بالمنجنيق حتى احترقتْ أستارها وتصدَّع بنيانها، ولم يتم فكُّ الحصار عن مكَّة الشريفة إلا بعد أن بلغ جُندَ الشام موتُ يزيد(17).
فاستمرار يزيد في سياسته إلى أنْ مات يمنع من الوثوق بالأخبار التي زعمت أنَّ يزيد قد تلطَّف بعائلة الحسين وأنزلهم في داره الخاصَّة وأمر بعقد المأتم في بعض دوره وأمر نساءه بالحِداد والنُدبة على الحسين .
أنزلهم في دارٍ لا تكنُّهم من حرٍّ ولا برد حتى تقشَّرت وجوههم:
ويعزِّز في الارتياب من هذه الأخبار ما ورد من أنَّ يزيد أنزل عائلة الحسين في خربة لا تكنُّهم من حرٍّ ولا برد حتى تقشَّرت وجوههم كما أورد ذلك الشيخ الصدوق في الأمالي بسنده عن فاطمة بنت علي (صلوات الله عليهما) قالت: ثم إنَّ يزيد أمرَ بنساء الحسين فحُبسنَ مع عليِّ بن الحسين في محبسٍ لا يكنُّهم من حرٍّ ولا قَرٍّ حتى تقشَّرت وجوههم .."(18).
يشرب الخمر ويلعب بالشطرنج في محضر الرأس الشريف:
وكذلك يمنع من الوثوق بأخبار الإذن لنسائه بالحداد وإقامة المأتم في داره والتلطُّف بعائلة الحسين ما أورد الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه وكتاب عيون أخبار الرضا بسندٍ مُعتبرٍ عن الفضل بن شاذان قال: سمعتُ الرضا يقول: "لمَّا حُمل رأس الحسين إلى الشام أمرَ يزيد فوُضِع ونُصِب عليه مائدة، فأقبل هو وأصحابُه يأكلون ويشربون الفقَّاع، فلمَّا فرغوا أمرَ بالرأس فوُضع في طستٍ تحت سريره وبسط عليه رقعة الشطرنج وجلس يزيد يلعب بالشطرنج، ويذكر الحسين بن علي وأباه وجدَّه ويستهزئ بذكرهم، فمتى قامرَ صاحبَه تناول الفقَّاع فشربه ثلاث مرَّات ثم صبَّ فضلته على ما يلي الطست من الأرض .."(19).
وما أورد كذلك في كتابه عيون أخبار الرضا بسندٍ عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعتُ أبا الحسن عليَّ بن موسى الرضا يقول: أوَّل مَن اتُّخذ له الفقَّاع في الإسلام بالشام يزيد بن معاوية فأُحضر وهو على المائدة وقد نصَبها على رأس الحسين فجعل يشربُه ويسقى أصحابه ويقول: اشربوا فهذا شرابٌ مبارك ولو لم يكن بركتُه إلا أنا أوَّل ما تناولناه ورأسُ عدوِّنا بين أيدينا، ومائدتُنا منصوبةٌ عليه، ونحن نأكلُ ونفوسنا ساكنة وقلوبُنا مطمئنة .."(20).
كما أنَّ ما فعله بالرأس الشريف -من النكث له بقضيبه والتفاخر في محضره بالظفر(21) ومِن صلبه في دمشق ثلاثة أيام والتطواف به في مدائن الشام(22) ثم الأمر بحمله -كما تظافرت بذلك الأخبار- إلى مدينة الرسول (23) إمعانًا في التنكيل والإساءة- يمنع كذلك من الوثوق بالأخبار التي زعمت أنَّه أذِن لنسائه بالحداد وإقامة المأتم على الحسين في داره.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
يقال: إنَّ هندًا زوجة يزيد كانت جاريةً أو خادمة في بيت أمير المؤمنين في المدينة، وكانت من المُحبِّين لأهل البيت هل صحَّ ذلك؟ وما هو موقفها ممَّا فعل يزيدٌ بالإمام الحسين وأهل بيته ؟
الجواب:
هند زوجة يزيد قرشية وليست جارية:
هند زوجة يزيد بن معاوية هي بنت عبد الله بن عامر بن كُريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس العبشمية القرشيَّة(1)، فجدُّها عامر بن كُريز كان من مسلمَةِ الفتح يعني كان من الطلقاء، وكان خالًا لعثمان(2)، وأبوها عبد الله بن عامر بن كُريز كان واليًا من قِبل عثمان على البصرة وخراسان، ولَّاه عليهما -نظرًا لقرابته كما صرَّح بذلك-(3) رغم حداثةِ سنِّه وذلك أحد أسباب النقمة على عثمان، فعبدُ الله بن عامر لم يكن يتجاوز سنُّه حين ولَّاه عثمان على البصرة وخراسان الخامسة والعشرين سنة، وبقي واليًا عليهما إلى أنْ قُتل عثمان(4).
وبعد مقتل عثمان حمل ما عنده من أموالِ بيتِ مال البصرة ونزل مكة، فكان هو من أبرز المُحرِّضين على حرب عليٍّ وهو الذي دفع طلحة والزبير وعائشة إلى المسير إلى البصرة ووعدهم بأربعة آلاف مقاتل، وخرج معهم إلى البصرة، وكان مِن أبرز الممولين لجيش البصرة(5)، وكان معهم إلى أنْ هَزمَ الإمام عليٌّ جيشَ البصرة في حرب الجمل، وقُتل في تلك المعركة ولدُه الذي كان يكنى به وهو عبد الرحمن(6)، وبعد الهزيمة هرب إلى الشام وجاورَ معاوية إلى أنْ استُشهد أميرُ المؤمنين (7).
وسيَّر معاويةُ جيشًا إلى حرب الإمام الحسن فكان عبدُ الله بن عامر بن كُريز على رأس الجيش الذي توجَّه لحرب الإمام الحسن قبل الصلح(8)، وبعد الصلح أعاد له معاويةُ الولاية على البصرة (9).
فهندٌ إذن قرشيَّة من بني عبد شمس، وأبوها وجدُّها من سادات قريش، ولهذا فهي ليست جاريةً -بمعنى أمة- في بيت أمير المؤمنين كما توهَّم البعض، وكذلك لا يُمكن لمثلها أنْ تكون خادمةً في بيت أمير المؤمنين .
هل كانت هند من المحبِّين لأهل البيت :
وأمَّا موقفها ممَّا فعله زوجُها يزيد فقد أورد الطبري في تاريخه عن هشام عن أبي مخنف قال حدَّثني أبو حمزة الثمالي عن عبد الله الثمالي عن القاسم بن بخيت قال: "لما أقبل وفد أهلُ الكوفة برأس الحسين دخلوا مسجد دمشق .. ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدَّثوه الحديث قال: فسمعت الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كُريز وكانت تحت يزيد بن معاوية فتقنَّعت بثوبها وخرجتْ وقالت: يا أمير المؤمنين أرأسُ الحسين بن فاطمة بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) قال: نعم، قال: فأعولِي عليه وحِدِّي على ابن بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وصريحة قريش عجَّلَ عليه ابنُ زياد فقتله، قتلَه اللهُ، قال: ثم أذِن للناس فدخلوا عليه والرأسُ بين يديه ومع يزيد قضيبٌ وهو ينكثُ به في ثغره ثم قال: إنَّ هذا وأنا كما قال الحُصين بن الحمام المري:
يُفلِّقنَ هامًا من رجالٍ أحبةٍ ** إلينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
قال: فقال رجلٌ من أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) يُقال له أبو برزة الأسلمي أتنكثُ بقضيبك في ثغر الحسين! أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذًا لربَّما رأيتُ رسولَ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) يرشفه، أما إنَّك يا يزيد تجيءُ يوم القيامة وابنُ زيادٍ شفيعك ويجيء هذا يوم القيامة ومحمَّدٌ شفيعه فقام وولَّى"(10).
فظاهر هذا النصِّ أنَّ هندًا استفظعتْ قتل الحسين ابن رسول الله فتظاهر يزيدٌ أمامها بالبراءة من دم الحسين وأنَّ ذلك مِنْ فِعْل ابن زياد، فلم يكن ما ذكره -من الثناء على الإمام والتأسُّف على قتله والإذن لزوجته بالحِداد عليه- يعدو المجاراة لِما وجده من استفظاع زوجته لمقتل الحسين ولذلك حين عاد لمجلسه أخذ ينكثُ ثنايا الحسين بقضيبٍ عنده، ويتفاخرُ بأنَّه المُفلِّق لهامِ رجالٍ وصَفَهم بالعقوق والظلم يعني الحسين سيِّد شباب أهل الجنَّة.
هذا وقد ذكر ابنُ سعد في الطبقات الكبرى أنَّ أمُّ كُلثومٍ (هند) بِنتُ عَبدِ اللهِ بنِ عامِرِ بنِ كُرَيزٍ بكت عَلى حُسَينٍ ، وهِيَ يَومَئِذٍ عِندَ يَزيدَ بنِ مُعاوِيَةَ، فَقالَ يَزيدُ: حُقَّ لَها أن تُعوِلَ عَلى كَبيرِ قُرَيشٍ وسَيِّدِها.
وذكر أنَّ يزيد بن معاوية "أمر بالنساء فأُدخلن على نسائه، وأمر نساء آل أبي سفيان فأقمْنَ المأتم على الحسين ثلاثة أيام، فما بقيَتْ منهنَّ امرأةٌ إلا تلقتنا تبكي وتنتحب، ونِحنَ على حسينٍ ثلاثًا"(11)، ونقل ذلك غيرُه من المؤرخين(12).
دوافع البكاء والعزاء لو كان قد وقع:
ووقوعُ ذلك من هندٍ ومِن نساءِ البيت الأموي غير مُستبعَد ولكنَّه لا يُعبِّر عن حبِّهنَّ للحسين بل هو الاستفظاعُ للحدَث والدهشةُ من وقوعه والتعاطفُ والرقَّةُ التي تقتضيها طبيعةُ المرأة، والشعورُ بالخشية من تبعاتِ ما وقع، والإكبار والتعظيم للبيت العلويِّ المخبوء في كوامن النفوس، والأجواءُ المشحونةُ بالأسى وجلال الموت والدماء، والمنظرُ الكئيبُ للنساء الهاشميَّات اللاتي يُضارعنهنَّ بحسب الثقافة القبليَّة في الشرف والسُؤدد.
فمجموعُ هذه المشاعر المختلطة والمرتبِكة هو ما نشأ عنه -ظاهرًا- بكاءُ الأميرة هند ونساءُ البيت الأموي مضافًا إلى اعتبار ذلك من المروءة المناسبة لكونهنَّ في بيت الخلافة والزعامة، والمقتضية للحرص على عدم الظهور في مظهر الشامتين -والتي هي من شأن ذوي الخسَّة والدناءة- والمقتضية للتظاهر بالمواساة، والمقتضية كذلك لإسداء التفضُّل بحُسن الضيافة.
ولعلَّ جميع ما كان قد صدر عنهنَّ من عزاءٍ وبكاءٍ ومواساة كان نفاقًا تماشيًا مع ما اقتضاه رأي سيِّدِهم -بعد التروِّي- من التظاهر بالبراءة من دم الحسين وإلصاق هذه الموبِقة بعامله ابنِ زياد، فما زال هذا البيتُ معروفًا بالنفاق والفجورِ في الكذب منذُ أنْ سرَّحهم النبيُّ الكريم يوم الفتح بقوله لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"(13).
مناشئ التشكيك في أخبار إقامة المأتم في دار يزيد:
ولعلَّ شيئًا من ذلك لم يقع فلم تبكِ نساءُ البيت الأموي ولم يُقمنَ على الحسين مأتمًا في قصر الخضراء ولم يُخصِّص يزيدٌ دارًا للنُدبة والحداد، ولم يتلطَّف بأطفال ونساء البيت النبويِّ ويعوّضهن أضعاف ما سلَبه رجالُه منهنَّ، ولم يحرص كما زعموا على عدم تناول الغداء والعشاء إلا مع زين العابدين فلعلَّ كلَّ ذلك لم يقع وإنمَّا هي أخبارٌ نسجتها بعد ذلك أقلام أصحاب الهوي الأموي والذين هم أحرص على تحسين صورة رموز النظام الأموي من النظام الأمويِّ نفسه، إنْ لم يكن حبًّا فيهم فنكايةً بخصومهم وانتصارًا لمذهبهم الذي لا يستقيم دون التبرير والاعتذار بأنَّ ما كان قد وقع من عظائم الأمور لم يكن عن أمرهم ولم يحظَ بإقرارهم وقبولهم، ولذلك حرصوا بعدما عملوا على تدارك ما وسعهم تداركه إلا أنَّه يكفي لتفنيد هذه الدعاوى الالتفات إلى أنَّ يزيد أقرَّ ابنَ زياد بعد مقتل الحسين على ولايته إلى أنْ مات بل وكان قد جمع له الولاية على كلٍّ من البصرة والكوفة(14) والتي يمتدُّ نفوذها ليستوعب الري وبلاد فارس، كما يُفنِّد هذه الدعاوى ما فعله جيشُ الشام بعد سنتين من مقتل الحسين في مدينة الرسول من القتل الذريع للصحابة وأبناء المهاجرين والأنصار والاستباحة للمدينة ثلاثة أيام(15) فارتكبت فيها العظائم وهُتكت الأعراض حتى حبِلتْ ألفُ عذراء دون أزواج(16) ثم زحف جُند الشام إلى مكَّة وحاصروها فضربوا الكعبة بالمنجنيق حتى احترقتْ أستارها وتصدَّع بنيانها، ولم يتم فكُّ الحصار عن مكَّة الشريفة إلا بعد أن بلغ جُندَ الشام موتُ يزيد(17).
فاستمرار يزيد في سياسته إلى أنْ مات يمنع من الوثوق بالأخبار التي زعمت أنَّ يزيد قد تلطَّف بعائلة الحسين وأنزلهم في داره الخاصَّة وأمر بعقد المأتم في بعض دوره وأمر نساءه بالحِداد والنُدبة على الحسين .
أنزلهم في دارٍ لا تكنُّهم من حرٍّ ولا برد حتى تقشَّرت وجوههم:
ويعزِّز في الارتياب من هذه الأخبار ما ورد من أنَّ يزيد أنزل عائلة الحسين في خربة لا تكنُّهم من حرٍّ ولا برد حتى تقشَّرت وجوههم كما أورد ذلك الشيخ الصدوق في الأمالي بسنده عن فاطمة بنت علي (صلوات الله عليهما) قالت: ثم إنَّ يزيد أمرَ بنساء الحسين فحُبسنَ مع عليِّ بن الحسين في محبسٍ لا يكنُّهم من حرٍّ ولا قَرٍّ حتى تقشَّرت وجوههم .."(18).
يشرب الخمر ويلعب بالشطرنج في محضر الرأس الشريف:
وكذلك يمنع من الوثوق بأخبار الإذن لنسائه بالحداد وإقامة المأتم في داره والتلطُّف بعائلة الحسين ما أورد الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه وكتاب عيون أخبار الرضا بسندٍ مُعتبرٍ عن الفضل بن شاذان قال: سمعتُ الرضا يقول: "لمَّا حُمل رأس الحسين إلى الشام أمرَ يزيد فوُضِع ونُصِب عليه مائدة، فأقبل هو وأصحابُه يأكلون ويشربون الفقَّاع، فلمَّا فرغوا أمرَ بالرأس فوُضع في طستٍ تحت سريره وبسط عليه رقعة الشطرنج وجلس يزيد يلعب بالشطرنج، ويذكر الحسين بن علي وأباه وجدَّه ويستهزئ بذكرهم، فمتى قامرَ صاحبَه تناول الفقَّاع فشربه ثلاث مرَّات ثم صبَّ فضلته على ما يلي الطست من الأرض .."(19).
وما أورد كذلك في كتابه عيون أخبار الرضا بسندٍ عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعتُ أبا الحسن عليَّ بن موسى الرضا يقول: أوَّل مَن اتُّخذ له الفقَّاع في الإسلام بالشام يزيد بن معاوية فأُحضر وهو على المائدة وقد نصَبها على رأس الحسين فجعل يشربُه ويسقى أصحابه ويقول: اشربوا فهذا شرابٌ مبارك ولو لم يكن بركتُه إلا أنا أوَّل ما تناولناه ورأسُ عدوِّنا بين أيدينا، ومائدتُنا منصوبةٌ عليه، ونحن نأكلُ ونفوسنا ساكنة وقلوبُنا مطمئنة .."(20).
كما أنَّ ما فعله بالرأس الشريف -من النكث له بقضيبه والتفاخر في محضره بالظفر(21) ومِن صلبه في دمشق ثلاثة أيام والتطواف به في مدائن الشام(22) ثم الأمر بحمله -كما تظافرت بذلك الأخبار- إلى مدينة الرسول (23) إمعانًا في التنكيل والإساءة- يمنع كذلك من الوثوق بالأخبار التي زعمت أنَّه أذِن لنسائه بالحداد وإقامة المأتم على الحسين في داره.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور