بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مجرى الحكمة الالهية في المخلوقات
وهكذا تألفّ جزيء ضئيل دقيق من جزيئات السديم الذي كان يملأ هذا الفضاء الواسع العظيم ، جزيء دقيق يحمل شحنة كهربائية موجبة تألّف مع جزيء آخر او جزيئين أو أكثر يحمل مجموعها شحنة كهربية سالبة .
وتعادلت القوة بين الشحنتين ، شد الجزيء الموجب على الجزيئات السالبة يجذبها إليه جذباً ، وحاولت هذه الإفلات من قبضته فلم تقو ، وكان من نتائج هذا التعادل أن يأخذ كل واحد من الجزيئات السالبة مداره حول الجزيء الموجب يطوف فيه ، ولا يحيد عنه ، ولا يتباطأ في حركته حوله ولا يختلف .
وقام كيان الذرّة من هذه المجموعة ، ودأب كل جزيء من جزيئاتها على عمله لا يلوي ولا يقف ، ووجّهة الحكمة ، ووجّهته اليد القديرة المدبّرة يُسهم في بناء الكون ، وفي بناء الحياة ، وفي بناء الإنسان . ويُسهم في تحقيق الغاية الكبرى التي من أجلها بني الكون وفُطِرت الحياة وخُلق الإنسان . .
وتنوّعت الذرّات ، وتعدّدت أنواعها بحب تعدد الجزيئات التي يشتمل عليه كيانها ، وكثُرت العناصر التي يتألف منها بناء الكون .
وتألفت ذرة صغيرة لا يدركها الطرف ، بل ولا يدركها المجهر من هذه الذرات التي تحمل تلك الطاقة ، وتحوي ذلك النظام وتلك القوة الكهربية المتعادلة ، تألفت إلى ذرّة مثلها أو إلى ذرتين أو كثر من عنصر واحد ، أو من عناصر متعدّدة ، وتفاعلت معها في التركيب ، واتّحدت وإياها في الخاصّة ، وقامت من هذا التركيب خليّة حياة ، أو خلية جسمٍ حي ، أو وحدة أخرى يتقوّم منها كيان موجود .
ودأبت كل ذرّة دخلت في التركيب توفيّ عملها الذي أنبط بها ، لاتني ، ولا تحيد ، ووجّهتها الفطرة كذلك ، ووجّهتها الحكمة ، ووجهتها اليد القديرة المدبّرة تُسهم في البناء وتسهم في الغاية .
تُسهم في بناء الكون والحياة والإنسان ، وتسهم في الغاية التي من اجلها خلق كل أولئك .
واجتمعت وحدة إلى وحدة أو أكثر ، من نوعها أو من نوع آخر ، وتضامّت الأجزاء ، وتضامّت الوَحَدات ، وتفاعلت إذا كان الأمر يدعو إلى التفاعل ، وتطوّرت إذا كان يستدعي التطوّر ، وقام من المجموع كيان كامل مستقل لشيء من أشياء هذا الوجود ، وساهم في البناء وساهم في الإعداد للغاية ، وساهمت كل وحدة من وحداته في تلك ، ووجّهته الفطرة ، ووجّهت كل جزء منه أن يدأب في عمله ، وفي وجهته .
وقام الكون ، بناميه و جامده ، وحيّه و ميته ، وسماواته وأرضه ، وحركاته ومداراته ، وعناصره التي تقوّمه ، وقوانينه التي تنظّمه ، ووجّهته الفطرة ، ووجّهته الحكمة ، ووجّهته اليد القديرة المدبرة ، ووجهت كل شيء فيه ، وكل جزء من أجزائه أن يسهم في البناء ، ويسهم في الغاية ، وأعدّت الحكمة كلّ ما في الكون لقيام الحياة . . ولقيام الإنسان أعلى نماذج الحياة .
الحكمة في الخلق الانساني
وانذمّت خليّة إلى خلية ، خليّة حياة إلى خلية حياة ، وتلقّحت إحداهما بالأخرى ، وتطوّرت الخلية الموحّدة الملقّحة ، وانشطرت وتكاثرت ، وتدرّجت في النشوء ، وانضمّت إليها من أغذيتها وحدات واستحالت خلايا ، وتصنفت الخلايا وتساندت على بناء الهيكل ، وتوزّعت العمل ، وتوجّه كل صنف منها إلى إقامة جهازٍ ، أو إقامة عضو أو إقامة نسيج ، وانصرف إلى أداء مهمّة ، ووجّهت الفطرة ، واليد القديرة الحكيمة كّلاً منها وجهته ، وتعبّدته بالمسير إلى غايته .
وقام الموجود الحيّ العاقل السميع البصير الذي أعِدّله الكون وسخرَت له الطبيعة ، ووجّهته الفطرة ، ووجهته الحكمة أن يعمر الأرض ويحقّق الغاية .
واهتدى كل شيء بفطرته إلى مبدئه وغايته ، وخضع لقانونه ، وتعبّد بخضوعه هذا لبارئه ، لا يحيد ولا يني .
واهتدى الإنسان بالفطرة كذلك وخضع وتعبّد كسائر أشياء الكون .
ولكن الإنسان عاقل مريد ، وهذه هي أسمى ناحية فيه ، فلابدّ وأن يهتدي ، ويخضع بعقله وإرادته ، ولابدّ وان يصل إلى الغاية من هذه الناحية .
وللعقل فطرة كما لسائر الاشياء ، وفطرته كفيلةٌ بهدايته لو انفرد إليها ، ولكن الصوارف التي تزاحم هذه الفطرة بخصوصها تربو على العدّ ، ولابد وأن يُحسب لها حساب .
فلابدّ من الهداية التي تساند الفطرة ، ولابدّ من الشريعة التي تعيّن لها طريقها ، وتصونها عن المزاحمات .
الهدى الالهي و الانسان
وانضمّ إلى الإنسان إنسان ، وأضيفت إلى الأسرة أسرة ، وتشعبت عن القبيلة قبيلة ، وتألّفت مع الأمة أمة ، وارتقت معرفة الإنسان ، وامتدّت نظرته ، وتطوّرت حياته الاجتماعية ، والسماء تمدّه بالهداة التي تعضد الفطرة ، وبالشرائع التي تحدّد له الطريق ، وتعرّفه بالمعالم والغاية .
وارتقى الإنسان وتطور ، وارتقت معه أساليب الهداية ، وتطورت معه رسالات السماء ، تشقّ له الطريق وتؤهّله للغاية . .للغاية الكبرى التي من أجلها خُلق ، ومن أجلها أعد الكون ، وأعِدّت الحياة .
وتناقلته الهدايات والرسالات حتى وقفت به على الأبواب .
نعم ، وقفت الإنسانية على الأبواب ، فقد أعدّ الفرد ، وأعدّ المجتمع ، وأعدّ التاريخ .
أعدّ الفرد حتى في أدقّ ذراته ، وأبطن غرائزه ، وأمكن أشواقه .
واعدّ المجتمع بالتمهيد للصلة العامة المقدسة ، التي تنطمس فيها الحدود وتنسق السدود .
وأعدّ التاريخ بالحروب الطويلة الدامية التي أتعبت الإنسان وسحقت كبرياءه وطامنت غروره .
وتطلّع الفرد ، وتطلّع المجتمع ، وتطلّع التاريخ للنقلة الحاسمة ، والشريعة الخاتمة .
وبُعث محمد ( صلى الله عليه و آله ) ليحقّق الأمنية لكل أولئك للفرد ، وللمجتمع ، والتأريخ .
وبُعث محمد ( صلى الله عليه و آله ) ليحقق الغاية الكبرى التي أرادها الله من إحداث الكون وإيجاد الحياة ، وإنشاء الإنسان .
وبعث محمد ( صلى الله عليه و آله ) ليكون أعظم رسول بأعظم رسالة ، وأكبر داعٍ إلى اكبر دعوة .
وبعث محمد ( صلى الله عليه و آله ) ليَصل الأرض بالسماء ، وليتوّج إماماً للأنبياء .
وبعث الإنسان الأعلى لتتفيأ الإنسانية ظلاله ، وتترسم مثاله .
وأنزل القرآن دستوراً للدولة ، وقانوناً للحكم ، ونظاماً للإجتماع ومنهجاً للاقتصاد ، وقاعدة للتربية ، وسَنناً للأخلاق ، وشريعة للعمل ، وحدّاً للحقوق ، ولساناً للهداية ، وبرهاناً للدعوة .
الإنسان وهدى محمد ( صلى الله عليه و آله ) .
ونظرت الفطرة فلم تشكّ ، وفكّر العقل فلم يمتر ، وشهد البرهان فلم يرتب ، وأبصر العلم فلم يتردد ، وآمنت الفطرة ، وآمن العقل ، وآمن البرهان ، وآمن العلم .
ووقفت الأهواء فلم تُبصر ، وتبلّدت الغباوات فلم تهتد .
ورفع محمد ( صلى الله عليه و آله ) قَبَاً بعد قبس من أشعة القرآن لِيُنير هذي النفوس التي طُبعت عليها الأهواء ، ويحيي هذي الأذهان التي أماتها الغباء .
وكافح بالحجّة ، وكافح بالموعظة ، وكافح بالنصيحة ، وكافح بالخلق الكريم والقلب الرّحيم .
وطمِعت بعض هذه النفوس في غير مَطمع ، وجهدت أن توصِد الأبواب في وجه الدعوة ، وأن تقطع السبل ، ولم يجد معها البرهان شيئاً ، ولم تنفع الذكرى فتيلا .
واضطر محمد ( صلى الله عليه و آله ) أن يحتكم مع هذه الفئة إلى القوة لِفتح الأبواب وتخلي السبيل ، فناضل بالسيف وناضل بالعزيمة ، وهي أمضى حدّاً من السيف ، وناضل بمدد الله ونصره ، وهي القوة التي تمدّ السيف والعزيمة والجند بالمضاء والصرامة .
ولم يزايل البرهنة في مواقفه تلك ، ولم يترك النصيحة ، ولم يفارق الحخلق الكريم والقلب الرّحيم ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، وعلت كلمة الله وهم راغمون .
ودار الزمان ، ودارت القرون . .
وتراكمت الأهواء ، وتكدّس الغباء . .
واتخذت الأهواء في دورتها هذه صبغة الحضارة ، وألبِس الغباء لباس المدنية .
ودعوة محمد ( صلى الله عليه و آله ) لا تزال هي دعوته ، وبيّناته هي بيناته .
هي تلك التي آمنت بها الفطرة ، وآمن بها العقل ، وآمن البرهان ، وآمن العلم .
ووقفت الأهواء فلم تُبصر ، وتبلّد الغباء فلم يَهتد .
ومُدّت الأيدي لتوصد الأبواب والسبل في وجه الدعوة . .لتصدّ الأذهان عن إدراكها ، بل ولتوقر الآذان عن سماعها ، ولتكمّ الأفواه عن الجهر بها .
فهل لنا أن نرفع القبس الذي رفعه محمد ( صلى الله عليه و آله ) لنضيء للسادرين طرقهم وننقذ هالكهم ؟ .
وهل هي أمنية أو تساؤل ، أو هي فريضة محتومة سريعة لا مجال فيها للاماني ، ولا وقت معها للإبطاء ؟! .
المصدر */ كتاب من أشعة القرآن القسم الثالث العنوان رقم (20) للشيخ محمد أمين زين الدين .