في السیرة النبي الأعظم /
تمثل سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) مسألة هامة في حياة المسلمين، وتعتبر ثروة تاريخية مهمة من الناحية العلمية والأخلاقية بالنسبة للمسلمين.
إن وجود النبي (صلى الله عليه وآله) مصدر إشعاع ينبغي أن نستضئ به، ونستفيد منه، إذ لا يصح الاكتفاء بجمع أقواله وأحاديثه، فتكون حالنا حال رواة لا يدركون شيئاً، ولا يكفي أن نذكر تاريخ حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) ونقول: إنه فعل كذا في المكان الفلاني، وكذا في المكان الفلاني.. بل المهم تفسير ذلك العمل وتوجيهه.
إذن، مثلما أن هناك حاجة للتعمق في أقوال النبي (صلى الله عليه وآله) وتفسيرها، هناك ـ أيضاً ـ حاجة للتعمق في أفعال النبي (صلى الله عليه وآله) وتفسيرها.
وكما هي الحال مع أقواله (صلى الله عليه وآله)، فإن أفعاله من الدقة بحيث يمكن وضع القوانين على هدي تفاصيلها.
إن عملاً بسيطاً من أعماله (صلى الله عليه وآله) إنما هو مصباح، أو شعلة من نور كاشفٍ ينير الطريق أمام المرء لمسافات بعيدة.
فيجب علينا أن نقتدي بسيرته التي تهدف إلى تحرر الناس من ذواتهم، من الأنانية، من حب الذات وحب مصالحها، نحو حب الله وحب الحق.
أهمية دراسة سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)
يؤكد القرآن الكريم على أن لكم في رسول الله أسوة حسنة، الأسوة الصالحة والمثل الأمثل لحياة إنسان كامل في كل ما ينطوي عليه هذا المصطلح الصغير من معنى ضخم، هو الإنسان الكامل وحياته أسوة حسنة للبشرية في كل الأزمنة والأمكنة.
كما أن للسيرة النبوية دور كبير أيضاً من الناحية الروحية والمعنوية، وهي أيضاً مصدر من مصادر الفكر الإسلامي والمعتقدات التي لا بد أن يعتقد بها الإنسان المسلم سواء فيما يرجع إلى فهم الإنسان المسلم عن الحياة، والإنسان، والتاريخ والمبدأ والمصير والغيب… أو ما يرتبط بالجانب الاجتماعي..
لقد تميزت أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله) بعدة صفات يمكن أن نجملها بالعناوين التالية:
الأمي العالم
لقد تميّز خاتم النبيين بأنه لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلّم بشري (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)(العنكبوت: 48) ولم ينشأ في بيئة علم وإنما نشأ في مجتمع جاهلي، ولم يكذّب أحد هذه الحقيقة التي نادى بها القرآن الكريم. قال تعالى: (ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشرٌ لسان الّذي يلحدون إليه أعجميٌّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مبينٌ)(النحل: 103).
ونمى في قوم هم من أشد الأقوام جهلاً وأبعدهم عن العلوم والمعارف، ومع ذلك فقد سمّى هو ذلك العصر بالعصر الجاهلي ولا يمكن أن تصدر هذه التسمية إلا من عالم خبير بالعلم والجهل والعقل والحمق.
فهو أمي ولكنه يكافح الجهل والجاهلية وعبّاد الأصنام، وبعث بدين قيّم إلى البشرية وبشريعة عالمية تتحدّى البشرية على مدى التأريخ، فهو معجزة بنفسه في علمه ومعارفه وجوامع كلمه ورجاحة عقله وثقافته ومناهج تربيته.
لقد شرح الله له صدره وأعدّه لقبول الوحي والقيام بمهمة الإرشاد في مجتمع تسيطر عليه العصبية والأنانية والجاهلية فكان أسمى قائد عرفته البشرية في مجال الدعوة والتربية والتعليم.
إنها نقلة كبيرة أن يصبح الجاهلي في بضع سنين حارساً أميناً ومدافعاً صلداً لكتاب الهداية ومشعل العلم، ويقف أمام محاولات التشويه والتحريف. إنها معجزة هذا الكتاب الخالد والرسول الأمي الرائد والذي كان أبعد الناس في المجتمع الجاهلي ـ عن الخرافات والأساطير ـ إنه نور البصيرة الربّانية التي أحاطت به بكل جوانب وجوده.
أول المسلمين العابدين
إن الخضوع المطلق لله خالق الكون ومبدع الوجود، والتسليم التام لعظم قدرته ونفاذ حكمته، والعبودية الاختيارية الكاملة تجاه الإله الأحد الفرد الصمد هي العقبة الأولى التي لا بد لكل إنسان أن يجتازها كي يتهيأ للاجتباء والاصطفاء الإلهي.
وقد شهد القرآن الكريم لهذا النبي العظيم الذي فاق النبيين في كل شيء قائلاً عنه: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)( الإنعام: 161 ـ 163).
إنه وسام الكمال الذي حازه هذا العبد العابد وفاق فيه من سواه على الإطلاق.
لقد قال (صلى الله عليه وآله) (قرة عيني في الصلاة)(أمالي الطوسي:2:141) وأنها حُببت إليه كما حُبب إلى الضمآن الماء، فإذا شرب روى، ولكنه (صلى الله عليه وآله) لم يشبع من الصلاة، وكان ينتظر وقت الصلاة ويشتد شوقه للوقوف بين يدي الله ويقول لمؤذّنه بلال: (أرحنا يا بلال)(بحار الأنوار 83: 16).
وكان يحدّثهم ويحدّثونه فإذا دخل وقت الصلاة فكأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه (أخلاق النبي وآدابه: 251).
وكان إذا صّلى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل)(م. ن: 201). ويبكي حتى يبلّ مصلاّة خشية من الله عزّ وجلّ، وكان يصلّي حتى تنتفخ قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً)(أخلاق النبي: 99).
وكان يصوم شعبان ورمضان وثلاثة أيام من كل شهر، وكان إذا دخل شهر رمضان يتغير لونه وتكثر صلاته ويبتهل في الدعاء.
وإذا دخلن العشر الأواخر منه شدّ المئزر واجتنب النساء وأحيا الليل وتفرّغ للعبادة. وقد كان دائم الاتصال بالله، دائم الانشداد إليه بالضراعة والدعاء في كل أمر وعمل. ولم يستيقظ من نوم قطّ إلا خرّ لله ساجداً.
ونزل عليه جبرائيل مخففاً بقوله تعالى: (طه، ما أنزلنا عليكم القرآن لتشقى)(طه: 1 ـ2).
شجاعة فائقة
جاء عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي طأطأ له فرسان العرب قوله: كنا إذا إحمر البأس ولقي القومُ القومَ اتّقينا برسول الله (صلى الله عليه وآله) فما يكون أحد أدنى من القوم منه)(فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 1: 138).
وصف المقداد ثبات رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بعد أن تفرّق الناس وتركوا رسول الله وحده قائلاً: والذي بعثه بالحق ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) زال شبراً واحداً. إنه لفي وجه العدوّ، تثوب إليه طائفة من أصحابه مرّة وتتفرق عنه مرّة، فربّما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجروا (مغازي الواقدي: 1: 239 ، 240).
زهد منقطع النظير
قال تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى)(طه: 131).
وعن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله): أنه قال: عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا ياربّ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً.. فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعتُ شكرتك وحمدتك)(سنن الترمذي: 4: 518، الحديث 2377).
ونام على حصير وقد أثّر في جنبه، فقيل له: يا رسول الله لو أتخذنا لك وطاءً؟ قال: مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلّ تحت الشجرة ثم راح وتركها( م. ن).
وقال ابن عباس: كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم الشعير(م. ن: 501، الحديث).
وعن أنس بن مالك أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص خبز، فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام(الطبقات لأبن سعد 1: 400).
جود وحلم عظيمان
روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتى صاحب بزّ فاشترى منه قميصاً بأربعة دارهم فخرج وهو عليه، فإذا رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله أكسني قميصاً كساك الله من ثياب الجنة، فنزع القميص فكساه إياه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصاً بأربعة دارهم وبقي معه درهمان فإذا هو بجارية في الطريق تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت يا رسول الله دفع إليّ أهلي درهمان اشتري بهما دقيقاً فهلكا، فأودع النبي (صلى الله عليه وآله) إليها الدرهمين فقالت: أخاف أن يضربوني فمشى معها إلى أهلها فسلّم فعرفوا صوته، ثم عاد فسلّم، ثم عاد فثلّث، فردّوا، فقال: أسمعتم…. أول السلام؟ فقالوا: نعم ولكن أحببنا أن تزيدنا السلام.
فما أشخصك بأبينا وأمنا؟ قال: أشفقت هذه الجارية أن تضربوها، قال صاحبها: هي حرة لوجه الله لممشاك معها.
فبشّرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخير وبالجنة، وقال: لقد بارك الله في العشرة كسا الله نبيه قميصاً ورجلاً من الأنصار قميصاً وأعتق منها رقبة، وأحمد الله، هو الذي رزقنا هذه بقدرته)(المعجم الكبير للطبراني 12:337، الحديث 7، 136).
وكان إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل.
لقد عرف (صلى الله عليه وآله) بالعفو والسماحة طيلة حياته.. فقد عفا عن وحشي قاتل عمه حمزة.. كما عفا عن المرأة اليهودية التي قدمت له شاة مسمومة، وعفا عن أبي سفيان وجعل الدخول إلى داره أماناً من القتل.
كما عفا عن قريش التي عتت عن أمر ربها وحاربته بكل ما لديها.. وهو في أوج القدرة والعزّة قائلاً لهم: اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.
لقد أفصح القرآن الكريم عن عظمة الرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم)(آل عمران: 159).
حياؤه وتواضعه
عن علي بن أبي طالب (عليه السلام): كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا سُئل شيئاً فأراد أن يفعله قال: نعم وإذا أراد أن لا يفعله سكت وكان لا يقول لشيء لا.
وكان يسلّم على الصبيان، وشارك أصحابه في بناء المسجد وحفر الخندق وكان يكثر من مشاورة أصحابه بالرغم من أنه كان أرجح الناس عقلاً.
وكان يقول : اللهم أحييني مسكيناً وتوفني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين، وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة.
هذه صورة موجزة جداً عن بعض ملامح شخصية النبي (صلى الله عليه وآله) وبعض جوانب سلوكه الفردي والاجتماعي.
وهناك صور رائعة وكثيرة عن سلوكه وسيرته الإدارية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والأسرية والتي تستحق الدراسة المعمقة للتأسي بها والاستلهام منها.