اجتهاد أصحاب الأئمة (عليهم السلام)
قد يُتصور أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) لم يكونوا إلا ناقلين للأحاديث، ولا يفتون الناس أصلا، بل إذا سألهم شخص أجابوه بنص الرواية التي سمعوها عن الإمام (عليه السلام) أو بنقل معناها، ولا يجتهدون في ذلك.
فهل هذا التصور صحيح؟ أم لا؟
هل كان عملهم (رضوان الله عليهم) هو -فقط- حفظ الحديث ونقله إلى الناس ليعملوا بمضمونه؟ أم كانوا يفتون الناس ويجتهدون ويستدلون على الفتوى من القرآن والروايات وغيرها كما يفعل الفقهاء في عصورنا هذه؟
الحق أنهم لم يكونوا مجرد رواة، بل كانوا يُعملون اجتهادهم ليستنبطوا الأحكام الشرعية من أدلتها المعتبرة.
ولكي نثبت ذلك لابد أن نرجع إلى النصوص التي تحكي فتاواهم واستدلالاتهم، وأنهم كيف كانوا بفتون بالاحكام الشرعية على وفق تلك الاستدلالات والاستنباطات.
ونكتفي هنا بنقل بعضٍ مما جاء في الكافي الشريف في ذلك:
النص الأول: عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ قَالَ قُلْتُ لِزُرَارَةَ[1]: «... حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ أَحَدِهِمَا ع فِي أَبَوَيْنِ وإِخْوَةٍ لأُمٍّ أَنَّهُمْ يَحْجُبُونَ ولَا يَرِثُونَ.
فَقَالَ: هَذَا واللَّه هُوَ الْبَاطِلُ. ولَكِنِّي سَأُخْبِرُكَ ولَا أَرْوِي لَكَ شَيْئاً والَّذِي أَقُولُ لَكَ هُوَ واللَّه الْحَقُّ:
إِنَ الرَّجُلَ إِذَا تَرَكَ أَبَوَيْهِ فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأَبِ الثُّلُثَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ -يَعْنِي لِلْمَيِّتِ يَعْنِي إِخْوَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ إِخْوَةً لِأَبٍ- فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وَلِلْأَبِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ. وَإِنَّمَا وُفِّرَ لِلْأَبِ مِنْ أَجْلِ عِيَالِهِ وَأَمَّا الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ لَيْسُوا لِأَبٍ فَإِنَّهُمْ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ وَلَا يَرِثُونَ.
وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ أُمَّهُ وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِأُمٍّ وَأَبٍ وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِأُمٍّ وَلَيْسَ الْأَبُ حَيّاً فَإِنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ وَلَا يَحْجُبُونَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُورَثْ كَلَالَةً».
فنجد أن زرارة (رحمه الله):
1- يصرح بأنه سوف يفتيه من دون أن يروي له شيئا. وكذلك فعل؛ حيث لم يأت بأي رواية عن أحد المعصومين (عليهم السلام).
2- أنه استنبط فتاواه من القرآن الكريم حيث قال: «فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، وذكر تعليلاتها بقوله: «وَإِنَّمَا وُفِّرَ لِلْأَبِ مِنْ أَجْلِ عِيَالِهِ)، و«لِأَنَّهُ لَمْ يُورَثْ كَلَالَةً»، نظير ما يفعله فقهاؤنا في استنباطاتهم الشرعية.
النص الثاني: قَالَ الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ[2] فِي هذِهِ الْمَسْأَلَةِ: «وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلى أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ خَالَفَنَا لَمْ يَقُولُوا فِي هذِهِ الْفَرِيضَةِ: لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَإِنَّمَا قَالُوا: لِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَثُلُثُ مَا بَقِيَ هُوَ السُّدُسُ، وَلكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَجِيزُوا أَنْ يُخَالِفُوا لَفْظَ الْكِتَابِ، فَأَثْبَتُوا لَفْظَ الْكِتَابِ وَخَالَفُوا حُكْمَهُ، وَذلِكَ خِلَافٌ عَلَى اللَّهِ وَعَلى كِتَابِهِ.
وَكَذلِكَ مِيرَاثُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ، لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَامِلًا، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ- جَلَّ ذِكْرُهُ- قَدْ سَمّى فِي هذِهِ الْفَرِيضَةِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَلَمْ يُسَمِّ لِلْأَبِ شَيْئاً، وَإِنَّمَا قَالَ: «وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» فَكَانَ مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَهَابِ السِّهَامِ لِلْأَبِ، فَإِنَّمَا يَرِثُ الْأَبُ مَا بَقِيَ».
فترى بوضوح أن هذا العالم الجليل، استدل على الحكم الشرعي بدليل معتمد على ما جاء في القرآن الكريم، ولم يأت بأي رواية أو نص عن المعصومين (عليه السلام).
وترى أيضا أن الاستدلال لم يكن بنقل نص القرآن الكريم؛ لأن الحكم لم يأت به نص صريح، بل قد استفاده باجتهاده واستنبطه من الآيات الكريمة؛ حيث إن القرآن بين مقدار حصة غير الأب، ولم يبين مقدار حصته، مع تصريحه بأنه من الورثة بقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}؛ فمن خلال هذا استنبط الفضل (رحمه الله) أن الباقي من الإرث هو حصة الأب.
النص الثالث: عَنْ زُرَارَةَ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: «أَمْرَانِ أَيُّهُمَا سَبَقَ بَانَتْ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ الْمُسْتَرَابَةُ تَسْتَرِيبُ الْحَيْضَ: إِنْ مَرَّتْ بِهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا دَمٌ بَانَتْ بِهِ، وَإِنْ مَرَّتْ بِهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ لَيْسَ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْحَيْضِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَيْرٍ[3]: قَالَ جَمِيلٌ[4]: وَتَفْسِيرُ ذلِكَ: إِنْ مَرَّتْ بِهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إِلَّا يَوْماً فَحَاضَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ بِهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إِلَّا يَوْماً فَحَاضَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ بِهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إِلَّا يَوْماً فَحَاضَتْ، فَهذِهِ تَعْتَدُّ بِالْحَيْضِ عَلى هذَا الْوَجْهِ، وَلَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ، وَإِنْ مَرَّتْ بِهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِيضٍ لَمْ تَحِضْ فِيهَا، فَقَدْ بَانَتْ».
النص الرابع: قَالَ الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ: «الْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ يَرِثُ حَيْثُ يَرِثُ الْأَخُ، وَيَسْقُطُ حَيْثُ يَسْقُطُ الْأَخُ، وَذلِكَ أَنَّ الْأَخَ يَتَقَرَّبُ إِلَى الْمَيِّتِ بِأَبِي الْمَيِّتِ، وَكَذلِكَ الْجَدُّ يَتَقَرَّبُ إِلَى الْمَيِّتِ بِأَبِي الْمَيِّتِ، فَلَمَّا أَنِ اسْتَوَيَا فِي الْقَرَابَةِ، وَتَقَرَّبَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَ فَرْضُهُمَا وَحُكْمُهُمَا وَاحِداً.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلِمَ لَاتُحْجَبُ الْأُمُّ بِالْجَدِّ وَالْأَخِ أَوْ بِالْجَدَّيْنِ، كَمَا تُحْجَبُ بِالْأَخَوَيْنِ؟
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَايَكُونُ فِي الْأَجْدَادِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ- أَبَا الْأُمِّ- بِمَنْزِلَةِ أَخٍ لِأُمٍ، وَالْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ لَايَحْجُبُونَ، وَالْجَدُّ وَإِنْ قَامَ مَقَامَ الْأَخِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَخٍ، وَإِنَّمَا حَجَبَ اللَّهُ بِالْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّ كَلَّهُمْ عَلَى الْأَبِ، فَوَفَّرَ عَلَى الْأَبِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مَؤُونَتِهِمْ، وَلَيْسَ كَلُّ الْجَدِّ عَلَى الْأَبِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ، وَلَمَّا أَنْ ذَكَرَ اللَّهُ الْإِمَاءَ فَقَالَ: «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَدَّ عَلَى الْعَبِيدِ، وَكَانَ الْعَبِيدُ فِي مَعْنَاهُنَّ فِي الرِّقِّ، فَلَزِمَ الْعَبِيدَ مِنْ ذلِكَ مَا لَزِمَ الْإِمَاءَ إِذَا كَانَتْ عِلَّتُهُمَا وَمَعْنَاهُمَا وَاحِداً، وَاسْتَغْنى بِذِكْرِ الْإِمَاءِ فِي هذَا الْمَوْضِعِ عَنْ ذِكْرِ الْعَبِيدِ، وَكَذلِكَ الْجَدُّ لَمَّا أَنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْأَخِ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ وَجِهَةِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَى الْمَيِّتِ، كَانَ فِي ذِكْرِ الْأَخِ غِنًى عَنْ ذِكْرِ الْجَدِّ، وَدَلَالَةٌ عَلَى فَرْضِهِ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْأَخِ، كَمَا كَانَ فِي ذِكْرِ الْإِمَاءِ غِنًى عَنْ ذِكْرِ الْعَبِيدِ فِي الْحُدُودِ؛ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ».
فهذه العبارة فيها عدة استدلالات على الحكم الشرعي، من دون ذكر لأي رواية.
ومع صراحة العبارة في الاستدلال، لا نحتاج لشرح المسألة؛ تجنبا للتطويل.
النص الخامس: عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: «قُلْتُ لَهُ فِي مَسْحِ الْخُفَّيْنِ تَقِيَّةٌ؟
فَقَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا أَتَّقِي فِيهِنَّ أَحَداً شُرْبُ الْمُسْكِرِ وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ وَمُتْعَةُ الْحَجِّ.
قَالَ زُرَارَةُ: وَلَمْ يَقُلْ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَّقُوا فِيهِنَّ أَحَداً».
فالإمام (عليه السلام) هنا لم يصرح بعدم وجوب ترك التقية، لكن زرارة (رحمه الله) قد استفاد من عبارته (عليه السلام) أنه لا يوجب تركها؛ لأنه (عليه السلام) بين أنه لا يتقي، وهذا لا يقتضي وجوب ترك التقية؛ لأن مجرد ترك الإمام (عليه السلام) لفعل شيء لا يدل على وجوبه، كما لا يخفى.
النص السادس: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ص الزَّكَاةَ عَلَى تِسْعَةِ أَشْيَاءَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَعَفَا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ.
قَالَ يُونُسُ[5]: مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي تِسْعَةِ أَشْيَاءَ وَعَفَا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ النُّبُوَّةِ كَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زَادَ رَسُولُ اللَّهِ ص فِيهَا سَبْعَ رَكَعَاتٍ وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَضَعَهَا وَسَنَّهَا فِي أَوَّلِ نُبُوَّتِهِ عَلَى تِسْعَةِ أَشْيَاءَ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى جَمِيعِ الْحُبُوبِ».
فترى: أن الإمام الصادق (عليه السلام) نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه لا تجب الزكاة في غير الأمور التسعة المذكورة؛ لأنه قال: «وَعَفَا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ»، لكن يونس (رحمه الله) لاحظ الرواية الأخرى التي تدل على وجوب الزكاة في كل الحبوب، فكانت الفتوى المتحصلة هي وجوب الزكاة في جميع الحبوب -الحنطة والشعير وغيرها- وفي «التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ». وليس هذا الا الاجتهاد الذي يقوم به الفقهاء.
النص السابع: قَالَ يُونُسُ بن عبد الرحمن: «إِنَّ الْجَدَّ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْأَخِ بِتَقَرُّبِهِ بِالْقَرَابَةِ الَّتِي رَأى بِمِثْلِهَا يَتَقَرَّبُ الْأَخُ، وَبِمُسَاوَاتِهِ إِيَّاهُ فِي مَوْضِعِ قَرَابَتِهِ مِنَ الْمَيِّتِ، وَلِذلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلى تَسْمِيَةِ سَهْمِهِ حَاجَةٌ مَعَ الْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، يُنَزَّلُ بِمَنْزِلَةِ الذَّكَرِ مِنْهُمْ مَا بَلَغُوا كَمَا سَمَّى اللَّهُ سَهْمَ الْأَبَوَيْنِ، فَسَمّى سَهْمَ الْأُمِّ، فَقَالَ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَكَنّى عَنْ تَسْمِيَةِ سَهْمِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ سَهْمٌ مَفْرُوضٌ، فَكَذلِكَ سَمَّى اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- مِيرَاثَ الْأَخِ، وَكَنّى عَنْ مِيرَاثِ الْجَدِّ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَاهُ وَهُوَ نَظِيرُهُ، وَمِثْلُهُ فِي وَجْهِ الْقَرَابَةِ مِنَ الْمَيِّتِ سَوَاءً، هذَا قَرَابَتُهُ إِلَى الْمَيِّتِ بِالْأَبِ، وَهذَا قَرَابَتُهُ إِلَى الْمَيِّتِ بِالْأَبِ، فَصَارَتْ قَرَابَتُهُمَا إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلِذلِكَ اسْتَوَيَا فِي الْمِيرَاثِ، وَأَمَّا اسْتِوَاءُ ابْنِ الْأَخِ وَالْجَدِّ فِي الْمِيرَاثِ سَوَاءً، إِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمَا صَارَا شَرِيكَيْنِ فِي اسْتِوَاءِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي اسْتِوَاءِ ابْنِ الْأَخِ وَالْجَدِّ فِي الْمِيرَاثِ غَيْرُ عِلَّةِ اسْتِوَاءِ الْأَخِ وَالْجَدِّ فِي الْمِيرَاثِ، فَاسْتِوَاءُ الْجَدِّ وَالْأَخِ فِي الْمِيرَاثِ سَوَاءً مِنْ جِهَةِ قَرَابَتِهِمَا سَوَاءً، وَاسْتِوَاءُ الْجَدِّ وَابْنِ الْأَخِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ مِيرَاثَ مَنْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْماً، فَالْجَدُّ يَرِثُ مِيرَاثَ الْأَبِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالى سَمّى لِلْأَبِ سَهْماً مُسَمًّى، وَوَرِثَ ابْنُ الْأَخِ مِيرَاثَ الْأَخِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَمّى لِلْأَخِ سَهْماً مُسَمًّى، فَوَرِثَ الْجَدُّ مَعَ الْأَخِ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ، وَوَرِثَ ابْنُ الْأَخِ مَعَ الْجَدِّ مِنْ جِهَةِ تَسْمِيَةِ سَهْمِ الْأَخِ، وَالْجَدُّ أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ مِنِ ابْنِ الْأَخِ مِنْ وَجْهِ الْقَرَابَةِ، وَلَيْسَ هُوَ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلى مَنْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْماً، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوِيَا مِنْ وَجْهِ الْقَرَابَةِ، فَقَدِ اسْتَوَيَا مِنْ جِهَةِ قَرَابَةِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْماً».
فهذه النصوص -أو بعضها على الأقل- صريحة في اجتهاد أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، بل هناك عدة روايات تدل على اجتهادهم وكونهم مفتين، سيأتي بعضها في أدلة جواز التقليد إن شاء الله تعالى.
وفي الحقيقة إن من الظلم الكبير لهؤلاء الأعلام من أصحاب أهل البيت (عليهم السلام) أن يقال في حقهم أنهم كانوا مجرد رواة للأحاديث! فإن مجرد نقل النصوص الشرعية لا تجعل من الراوي عالما فقيها.
جاء في الكافي الشريف: «عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) خَطَبَ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَقَالَ:
نَضَّرَ اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ».
وفي كتاب الغيبة للنعماني (رحمه الله): «عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): خَبَرٌ تَدْرِيهِ خَيْرٌ مِنْ عَشْرٍ تَرْوِيهِ إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وَلِكُلِّ صَوَابٍ نُوراً.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَعُدُّ الرَّجُلَ مِنْ شِيعَتِنَا فَقِيهاً حَتَّى يُلْحَنَ لَهُ فَيَعْرِفَ اللَّحْنَ»[6].
ويأتي ما يؤكد ذلك في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.
بل إن هذا من الأمور البديهية الواضحة بين الناس؛ فإن من ينقل فتاوى العلماء ويشرحها ويحفظها مهما علا شأنه لا يعدونه فقيها، وكذلك من ينقل كلام أهل البيت (عليهم السلام) ويشرحها للناس ويعضهم بها، لا يعد فقيها لمجرد النقل.
رابط الحلقة على اليوتيوب: https: //www. youtube. com/watch?v=tQOaSxv3NKg&t=10s (ما في الفيديو لا يطابق المكتوب تماما، بل قد يكون أوسع وقد يكون المكتوب أوسع).
قائمة البحوث على التلجرام: https: //t. me/muortaja/453
[1] من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام). جاء في رجال الكشي: «عن ابن أبي عمير، قال: قلت لجميل بن دراج، ما أحسن محضرك وأزين مجلسك؟ فقال: أي والله ما كنا حول زرارة بن أعين الا بمنزلة الصبيان في الكتاب حول المعلم»، و«عن أبي العباس الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أحب الناس إلي أحياء وأمواتا أربعة: بريد بن معاوية العجلي، وزرارة، ومحمد بن مسلم، والأحول وهم أحب الناس إلي أحياء وأمواتا»، و«عن إبراهيم بن عبد الحميد وغيره قال أبو عبد الله عليه السلام: رحم الله زرارة بن أعين، لولا زرارة بن أعين، لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي عليه السلام».
[2] من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام). رجال الكشي عن أبي محمد (عليه السلام) قال: «أغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم». وقال النجاشي: «كان ثقة، أحد أصحابنا الفقهاء والمتكلمين. وله جلالة في هذه الطائفة، وهو في قدره أشهر من أن
نصفه. وذكر الكنجي أنه صنف مائة وثمانين كتابا».
[3] من أصحاب الإمام الكاظم والرضا (عليهما السلام). قال النجاشي (رحمه الله): «جليل القدر عظيم المنزلة فينا وعند المخالفين...
وروي أنه حبسه المأمون حتى ولاه قضاء بعض البلاد، وقيل: إن أخته دفنت كتبه في حال استتارها وكونه في الحبس أربع سنين فهلكت الكتب، وقيل: بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت، فحدث من حفظه. ومما كان سلف له في أيدي الناس، فلهذا أصحابنا يسكنون إلى مراسيله وقد صنف كتبا كثيرة».
[4] قال النجاشي (رحمه الله): «قال ابن فضال: أبو محمد شيخنا ووجه الطائفة، ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام... وعمى في أخر عمره، ومات في أيام الرضا عليه السلام».
[5] رجال الكشي: «حدثني علي بن محمد القتيبي، قال: حدثني الفضل بن شاذان، قال: سمعت الثقة يقول: سمعت الرضا عليه السلام يقول: يونس بن عبد الرحمن في زمانه كسلمان الفارسي في زمانه. قال الفضل: ولقد حج يونس إحدى وخمسين حجة آخرها عن الرضا عليه السلام»، و«أن أبا جعفر الجعفري قال: أدخلت كتاب يوم وليله الذي ألفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري عليه السلام فنظر فيه وتصفحه كله، ثم قال: هذا ديني ودين آبائي وهو الحق كله».
[6] أي يتكلّم معه بالرمز والايماء والتعريض على جهة التقية مثلا فيفهم المراد. قال الجزريّ: يقال لحنت لفلان إذا قلت له قولا يفهمه ويخفى على غيره، لأنك تميله بالتورية عن الواضح المفهوم، منه قالوا: لحن الرجل فهو لحن إذا فهم وفطن لما لا يفطن له غيره.