التقيته في أكثر من قاطع وميدان، مشكلته أنه لا يجيد التحدث عن نفسه، ولا عن بلدته ومدينته يلخصها بقوله:ـ انا ابن البلاد، خلال الجلسات التي كان الظرف يسمح بها، يحدثني عن أشياء تعلمت منها الكثير، نعيش حياتنا في الجبهات دون أن نشعر يوماً بالملل وتهدل الوقت، كل ساعات اليوم فيها انشغالات جسدية أو لنقل ذهنية ممتعة.
هل تعرف ما معنى أن تعيش الجبهة ولا تدري متى ستصيبك اطلاقة النهاية لترحل الى عالم آخر..؟ أنا لا أتحدث عن الموت، اتحدث عن المصير، كيف لهذه البهجة أن تعتمر الروح وسط هذه الظروف، لذلك هو علمني أن القادم أجمل، كان يرددها بين جملة وأخرى، كان يقولها وهو يبتسم، انتظر مقاتلاً سيأتي بعد حين، سيلد وعطر الجبهة فيه.
سألته: لماذا دائماً تحاول أن تلخص نفسك ببعض كلمات، وانت عدنان البديري المقاتل الشجاع، يجيبني: تبقى المهمة أكبر، أرى البعض من الناس يربط المهمة بنداء الفتوى، وهذا شرف كبير، لكني أرى الفتوى نفسها استمدت عنوانها من عنوان اكبر، ثورة الحسين (عليه السلام)، هذا العنوان يحتاج الى ايمان اكبر وعزيمة اقوى ونحن نستمد منها قيم الموقف.
رجل علمته الحرب كيف يسيطر على عواطفه، حنين كبير يزفه للقادم الجديد الذي ننتظره بشغف المقاتلين، كل حنين العالم اجده في هذه الكلمة؛ كوني ادرك معنى ان تنتظر انساناً، سيحمل كل ما فيك، كل معناك، قلت له:ـ سيكبر بجالك ان شاء الله، يقول:ـ أحتاج الى بخت... وأراه على الساتر امامي، قلت له:ـ قل يا الله، أتريدنا ان نقاتل الى حين يولد ابنك ويكبر ويتطوع في الحشد ويقاتل هنا..؟
قال:ـ لا ربما في طف آخر، ضحكت حينها قلت: ليأتي أولاً.. والله كريم، رمش صديقي جفونه وحدق بي مرتعشاً، لقد فهمت انه منفعل جداً، ربما حسبة في الرأس تؤذيه، قلت لأشاغله:ـ بعد كم سيأتي القادم الجديد ان شاء الله، قال:ـ في نهاية هذا الشهر، وقف عن الكلام وهو يقول:ـ هل ندرك معنى أن يموت الانسان، انا منذ زمن بعيد كنت أقول: كيف يكون الموت مؤلما وهو يعني الذهاب الى الله، الى رحمته..؟ فالمسألة اتصورها هي ليست اكثر من مخاوف وضعها الانسان لنفسه، سألته:ـ هل غيّرت قناعاتك الحرب..؟ قال بحرقة:ـ لا أبداً أبداً.. ليس هذا بيت القصيد، فالحرب علمتني ان فكرة الموت لا علاقة لها بالواقع الذي نعيش.. الموت انتقالة من موضع لموضع آخر لا يدركه الا الله، وواقع بهذا العمق الفكري اتركه لرب العالمين.
قلت:ـ انا لا أؤمن بقراءة الأفكار لكني قد استطيع ان أرى هذا القلق الذي يعتريك، او استطيع ان ادرك ممن تخاف انت، بقي صديقي عدنان البديري ساكتاً تماماً لا ينطق بشيء، قال: ممن أخاف؟ تخاف أن يأتي القادم الجديد دون أن يراك، فقال:ـ الانسان عظيم عندما يعيش مع الموت رفقة طوال السنين ولا يجزع، لكن مجرد فكرة صغيرة تشغل كل كيانه، عقل الانسان أيضاً بحاجة الى شيء من الحرية؛ كي يعرف ماذا تعني له الحياة، تقول: إنك لا تجيد قراءة الأفكار، وقد قرأت عمق افكاري دون أن تجهد نفسك في معرفتي، أما أنا فاختلف عنك، قلت:ـ كيف؟
أجابني: أنا لا اجيد قراءة الأفكار، لكني اجيد قراءة الغيب، قلت مستغرباً:ـ هل تعلم الغيب؟ قال: أنا لا أعلم الغيب والغيب لا يعلمه الا الله والراسخون بالعلم، أنا قلت: اني اقرأ الغيب أجيد قراءة ملامحه، اعرف قراءة بعض دلالاته، سألته:ـ على سبيل المثال مثل ماذا؟ قال بعد برهة صمت:ـ لقد ورطت نفسك، قلت:ـ كيف؟ قال: ماذا ستفعل انت حين اعجز أن أراه؟ قلت: لا افهم ما تقول؟ قال صديقي: انا اعرف تماماً اني سأستشهد بعد أيام، أعرف تماما هذا المصير واعتز به، دون أن أجهد نفسي لمعرفة ماذا يعني الموت، اعرف اني سأرحل شهيداً، وسألتحق بركب الحسين (عليه السلام)، وهل هناك اكبر من هذا، كل انسان حر بحياته وانا أرى حياتي معه مع ركب الشهادة، وانا على يقين ان هذا ليس مفاتيح الغيب، بل هي من مصاديق الرؤى.
قل ماذا ستفعل حين تحملني بيديك الى شهادتي، الى دليل مرتقاي، وما الذي يمكن ان افعله؟ قال مبتسماً: أن تقبل لي القادم الجديد بطل الحشد يوم يكون هو ابني ابن الشهيد عدنان، ولا يكون إلا عدنان مشروع شهادة لحشد يطل بمسعاه الى الطفوف.