توافد الناس نحو بيت الله المعظم وانتظمت الطوابير تحث الخطى نحو مدينة الرسول (ص) ومهبط الوحي المبين، وترك الناس ديارهم متوجهين لإتمام مناسك الحج المقدسة.
وفي يوم عرفة وهو يوم التاسع من شهر ذي الحجة، الذي هو من أفضل الأيام عند المسلمين، يقف الحُجّاج على جبل عرفة الواقع شرق مكة على الطريق الرابط بينها وبين الطائف بحوالي 22 كم، ليرتلوا جميعا نداء التلبية ولتخفق القلوب في ارجاء ذلك البيت المعمور رهبة وخوفا وطمعا .
" لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" ، نداء تردده اصوات الوافدين وهم يرتقون الجبل، وثم يتفرغون للدعاء ويتوجهون إلى القبلة، يتضرعون ويتوسلون ويلبون حتى تغيب شمس نهارهم المبارك بإحياء هذه الطقوس الشريفة.
انه مسير نحو الافاق الإلهية ورحلة سمو النفس الإنسانية، وتطهير الذات من الدنس والذنوب، ليعود الحاج بعد تلك الرحلة متزودا بخير الزاد، مبتدأً رحلته الجديدة على متن سفينة الحياة، معتمرا بروح نقية وضمير راضٍ ومطمئن .
ان يوم عرفة يوم عظيم له قدسيته عند الباري عزوجل، ومن لم يستطع ذلك فعليه زيارة الله في عرشه، اما كيفية ذلك فهذا ما سنتعرف اليه عبر هذا الحديث الوارد في كتاب كامل الزيارات :
عن بشير الدَّهّان قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول ـ وهو نازل بالحِيرة وعنده جماعة من الشّيعة ـ فأقبل إليَّ بوجهه فقال : يا بشير أحَجَجت العامّ؟ قلت : جُعِلتُ فِداكَ لا ؛ ولكن عَرّفت بالقبر، قبر الحسين عليه السلام ـ
فقال : يا بَشير والله ما فاتك شيءٌ ممّا كان لأصحاب مَكّة بمكّة ، قلت : جُعِلتُ فِداكَ فيه عرفات؟ فَسِّره لي ، فقال : با بشير إنَّ الرَّجل منكم ليغتسل على شاطِىء الفرات ، ثمَّ يأتي قبر الحسين عليه السلام عارفاً بحقِّه فيعطيه اللهُ بكلِّ قدم يرفعها ويضعها مائة حَجَّة مقبولة ومائة عُمرة مَبرورة ، ومائة غَزوَة مع نبيٍّ مرسل إلى أعداء الله وأعداء رَسوله، يا بشيرُ اسْمعْ وأبلغ مَن احتمل قلبُه : مَن زارَ الحسين عليه السلام يومَ عَرَفة كان كمن زارَ الله في عرشه .
روي أن بشرا وبشيرا ولدا غالب الأسدي قالا: لما كان عصر عرفة في عرفات، وكنا عند أبي عبد الله الحسين عليه السلام، خرج عليه السلام من خيمته مع جماعة من أهل بيته وأولاده وشيعته بحال التذلل والخشوع والاستكانة، فوقف في الجانب الأيسر من الجبل، وتوجه إلى الكعبة، ورفع يديه قبالة وجهه كمسكين يطلب طعاما، وقرأ هذا الدعاء:
(اَلْحَمْدُ للهِ الَّذى لَيْسَ لِقَضآئِهِ دافِعٌ، وَلا لِعَطائِهِ مانِعٌ، وَلا كَصُنْعِهِ صُنْعُ صانِع، وَهُوَ الْجَوادُ الْواسِعُ، فَطَرَ اَجْناسَ الْبَدائِعِ، واَتْقَنَ بِحِكْمَتِهِ الصَّنائِعَ، لا تَخْفى عَلَيْهِ الطَّلائِعُ، وَلا تَضيعُ عِنْدَهُ الْوَدائِعُ، جازى كُلِّ صانِع، وَراحِمُ كُلِّ ضارِع، وَمُنْزِلُ الْمَنافِعِ وَالْكِتابِ الْجامِعِ، بِالنُّورِ السّاطِعِ، وَهُوَ لِلدَّعَواتِ سامِعٌ، وَلِلْكُرُباتِ دافِعٌ، وَلِلدَّرَجاتِ رافِعٌ، وَلِلْجَبابِرَةِ قامِعٌ،.......)
ثمّ اندفع في المسألة واجتهد في الدّعاء، وقال وعيناه سالتا دموعاً :
(اَللّهُمَّ اجْعَلْنى اَخْشاكَ كَاُنّى اَراكَ، وَاَسْعِدْنى بِتَقوايكَ، وَلا تُشْقِنى بِمَعْصِيَتِكَ، وَخِرْ لى فى قَضآئِكَ، وَبارِكْ لى فى قَدَرِكَ، حَتّى لا أُحِبَّ تَعْجيلَ ما اَخَّرْتَ وَلا تَأخيرَ ما عَجَّلْتَ، اَللّهُمَّ اجْعَلْ غِناىَ فى نَفْسى، وَالْيَقينَ فى قَلْبى، وَالاْخْلاصَ فى عَمَلى، وَالنُّورَ فى بَصَرى، وَالْبَصيرَةَ فى دينى، وَمَتِّعْنى بِجَوارِحى، وَاجْعَلْ سَمْعى وَبَصَرىَ الْوارِثَيْنِ مِنّى، وَانْصُرْنى عَلى مَنْ ظَلَمَنى، وَاَرِنى فيهِ ثَاْرى وَمَآرِبى، وَاَقِرَّ بِذلِكَ عَيْنى،........)
ثمّ رفع رأسه وبصره الى السّماء وعيناه ماطرتان كأنّهما مزادتان وقال بصوت عال:
(يا اَسْمَعَ السّامِعينَ، يا اَبْصَرَ النّاظِرينَ، وَيا اَسْرَعَ الْحاسِبينَ، وَيا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد السّادَةِ الْمَيامينَ، وَاَسْأَلُكَ اَللَّهُمَّ حاجَتِى اَّلتى اِنْ اَعْطَيْتَنيها لَمْ يَضُرَّنى ما مَنَعْتَنى، وَاِنْ مَنَعْتَنيها لَمْ يَنْفَعْنى ما اَعْطَيْتَنى، اَسْأَلُكَ فَكاكَ رَقَبَتى مِنَ النّارِ، لا اِلهَ اِلاّ اَنْتَ، وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ، لَكَ الْمُلْكُ، وَلَكَ الْحَمْدُ، وَاَنْتَ عَلى كُلِّ شَىء قَديرٌ، يا رَبُّ يا رَبُّ ......)
وكان يكرّر قوله يا رَبُّ وشغل من حضر ممّن كان حوله عن الدّعاء لأنفسهم واقبلوا على الاستماع له والتّأمين على دعائه، ثمّ علت أصواتهم بالبكاء معه وغربت الشّمس وأفاض النّاس معه .
وبهذا المقاطع المنتخبة من دعاء سيد الشهداء (ع) نؤطر الكلمات ونحن ندعو على نفس النسق المقدس : يا رب لم شعثنا يا رب، ووحد كلمتنا يا رب، وانصرنا على من ظلمنا ومن اراد بأمة سيد المرسلين سوء يا رب، واغفر لنا وارحمنا ووفقنا لما تحب وترضى بحق يوم عرفة، وبشفاعة المحرر المغوار ورحلته التي ابتدأها في مثل هذا اليوم المجيد عندك .. ،يا رب .. يا رب ..يا رب .