اتكأت على الجدارِ لتمسح قطرات الماء، التي رشحت على جبينها مِنْ أثر حرارة التنور، وحرارة الصيف اللاهب، وعادت مسرعة إلى التنور لتخرجَ ما بهِ مِنْ خُبز؛ لكي لا يحترق، فلا بدَ أنّ تعتني بكلِ الأرغفة، وإلا فلا أحد يشتري منها الخبز؛ لكونه مصدر رزقها الوحيد بعدَ إعدامِ زوجها على يدِ جلاوزة النظام البائد لا لشيء إلا لكونه إنسان متديناً وملتزماً بحضور المجالسِ الحسينية وبالخصوص سيره إلى كربلاء يوم أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) فقد رحلَ وبرحيله ارتاح من همّ الدنيا، وبقيت أرملته تواجه المتاعب بتربية بنتين وولد صغير لم تشكُ إلى أحد ما تعانيه من الحاجة إلى المال لسد احتياجاتهم بما يليق بهم سوى إلى الله تعالى، فهو وحده أعلم بالحالِ، كانت تجلس أمام صورة زوجها المعلقة على الجدار، وهي تخاطبهُ: أبا امجد إنّ شاء الله لن أخيبَ ظنك بتربية أولادك، سوف اجعلهم كما كنت تتمنى أنّ يكونوا مثلاً بالأخلاق والأدب .
وبينما هي تحدثُ الصورة، وإذا بأمجد يناديها: أمي، أنّا ذاهب مع صديقي هل تريدينَ شيئاً؟ فأجابتهُ والدموع تملأ عينيها: لا يا ولدي ولكن لا تتأخر.
أمجد: شكراً أمي، مع السلامة، قبّلها وذهب مسرعاً وبعدما أغلق الباب رفعت يدها نحو السماء وهي تردد دعاء: (الهي احفظ ولدي من كلِ سوء وارجعه بسلامة بحق محمد واله الأطهار)، هكذا كانت كلما خرج امجد من البيتِ تتوجه إلى الدعاء ولا تطمئن إلا بعودته .
وعندما بلغ أمجد اثنتي عشرة سنة تفاجأت بتركه المدرسة والعمل بمحل تصليح السيارات فتألمت كثيرا عندما اتى بنقود وهو يقول: خذي هذه النقود واشتري ما تشتهينه من الطعامِ أو الثياب أنتِ وأخواتي، فمنذُ شهر وأنّا أجمعها مِنْ أجلكم، لكنّ أمه لم تأخذها، وهي تبكي قائلة: لماذا تركتَ المدرسة؟ هل طلبت منك ذلك؟ هل قصرتُ معك بشيء؟.
حاول أنّ يهدئ من روعها بكلماتٍ وقبلاتٍ قائلاً: أمي يؤلمني وقوفك الطويل على التنور وجلوسك مِن الفجرِ لعجنِ الطحين ونحُن نيام، أمي من اليوم أريدُ أنّ تتركي بيع الخبز والاعتماد عليّ في مصروفِ البيت.
تقبلت الأم الأمر الواقع بمرارة فقلبها الحنون لا يرضى انّ تقسوا على ولدها الحبيب بالعتابِ واللوم ثّم أنّها فعلت ما يريد، فقد تركت بيع الخبز لما قام أمجد بتلبية احتياجات البيت من عمله، وشيئاً فشيئاً تحسن وضعهم المعيشي، وراحت الأيام مسرعة تتبعها السنين وإذا بنداء المرجعية الدينية العليا يملأ سمع أمجد، ويحثه على الدفاع عن ترابِ الوطن.
وبالفعلِ سجلَ في أحدِ مراكز التطوع وتمَ قبوله رغم معارضة أمه بالذهابِ وخوفها الشديد عليه، ولم يتراجع أمجد عن قراره بالذهاب إلى جبهة القتال، وأتى ذلك اليوم الذي يغادر به أمجد البيت ليلتحق برفاقه، وما كانَ مِنْ أمه إلا أنّ تودعه بحسرة وبكاء، قبّلته وقبلها وضمّته إلى صدرها، بعدما همّ بالمغادرة وقفَ قرب الباب ببدلته العسكرية ليلتقط مع أخواته وأمه صورة تذكارية، وإذا بصديقه يناديه من خلفِ الباب: أمج، سوف نتأخر، فأجابه بصوتٍ مخنوق بعبرته: نعم، انّا قادم، وحملَ حقيبته وقبلَ أنّ يغلق الباب التفت إلى أمه قائلاً: أمي سامحيني، وداعاً .
ركب مع صديقه السيارة وغاب عن أنظار أمه التي أخذ قلبها يخفقُ بسرعة بعدما سمعت غراباً ينعق، تعوذت بالله مِنْ الشيطان وراحت تقرأ القرآن الكريم ولم تتصل بأمجد إلى أن حل الغروب؛ لأنه يكون بهذا الوقت قَدْ وصل إلى مكانه، وما أن سمعت صوته اطمأنّ قلبها، وبعدَ طول الكلام معه أوصتهُ بعدة وصايا ثمّ ودعتهُ وأغلقت الهاتف.
مرت خمسة أيام بعد ذلك الاتصال، ولم تعرفْ شيئاً عن ابنها فكلما اتصلت بهِ وجدت جهازهُ مغلقاً، وفي اليومِ السادس طُرقت الباب، ففتحت أم أمجد البابَ، وإذ بهِ رجل يرتدي الزي العسكري وبيده حقيبة فبادرها بالسؤالِ: هذا بيت أمجد؟.
فأجابتهُ على الفورِ: نعم، هذا بيته وأنا أمه، أخبرني هل أصاب ولدي مكروه، مسحَ دموعه وهو يقول: سقطَ أمجد شهيداً بانفجارِ عند أداء الواجب، ولم يبقَ منّه إلا هذه الحقيبة وجهاز الهاتف.
نزلَ الخبرُ كالصاعقة على قلبِ الوالدة المدهوشة بماَ حَصلَ، فحاولت أنّ تتماسك وتأخذ الحقيبة مَنْ يده، وإذ بها تسقطُ على عتبة الباب قبلَ أنّ تمسك بها .
ثمّ حاولت النهوض وهي تردد: إنّا لله وإنا إليه راجعونَ، وما أن رآها صديقُ أمجد انحنى إلى الأرضِ ليساعدها على القيامِ مواسياً إياها قائلاً: أعظم الله لكِ الأجر وألهمك الصبر خالتي، لا تجزعي وارفعي رأسك عالياً، فأمجد ذهبَ إلى الجنة ليكونَ شهيداً وابن شهيد، وهذا فخر لنا ولكِ.