اللهم صل على محمد وآل محمد
وبعد ما قتل الإمام الحسين (عليه السلام) بمدة قصيرة . . هجم جيش الأعداء بكل وحشية على خيام الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهم على خيولهم ! ! حتى سحق سبعة من الأطفال تحت حوافر الخيل . . ساعة الهجوم (1) وقد سجل التاريخ أسماء خمسة منهم ، وهم :
بنتان للإمام الحسن المجتبى عليه السلام. (2)
طفلان لعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب ، وإسمهما :
سعد وعقيل . (3)
عاتكة بنت مسلم بن عقيل ، وكان عمرها سبع سنوات . (4)
محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب وكان له من العمر سبع سنوات . (5)
نعم ، لقد كان الهجوم على العائلة ـ المفجوعة لتوها ـ بعيداً عن الرحمة والإنسانية ، وقد وصف التاريخ ذلك الهجوم بقوله :
وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول ، وقرة عين الزهراء البتول ، حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها ! ! (6).
وكانت المرأة تجاذب على إزارها وحجابها . . حتى تغلب على ذلك . (7)
وخرجن بنات آل الرسول وحريمه يتساعدن على البكاء ، ويندبن لفراق الحماة والأحباء . (8)
قال حميد بن مسلم : رأيت امرأة من بني بكر بن وائل ـ كانت مع زوجها في عسكر عمر بن سعد ـ فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الإمام الحسين في خيامهن ، وهم يسلبونهن ، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الخيام وقالت :
«يا آل بكر بن وائل
اتسلب بنات رسول الله ؟ !
لا حكم إلا لله ! !
يا لثارات رسول الله ! !»
فأخذها زوجها ، وردها إلى رحله . (9)
قالت فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام :
«كنت واقفة بباب الخيمة ، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه
كانت المرأة تمسك عباءتها وحجابها بقوة ، وكان الأعداء يسحبون ويجذبون عنها ذلك ، ويضربونهن على أيديهن بالعصي والسياط لكي يستطيعوا سلب ما عليهن من أزر ومقانع ! !
مجزرين كالأضاحي على الرمال ، والخيول على أجسادهم تجول ! !
وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي . . من بني أمية !
أيقتلوننا أم يأسروننا ؟
فإذا برجل على ظهر جواده ، يسوق النساء بكعب رمحه ، وهن يلذن بعضهن ببعض ، وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة (10) وهن يصحن : «وا جداه ! وا أبتاه ! وا علياه ! وا قلة ناصراه ! واحسيناه !
أما من مجير يجيرنا ؟
أما من ذائد يذود عنا ؟»
قالت : فطار فؤادي ، وارتعدت فرائصي ، فجعلت أجيل بطرفي (11) يميناً وشمالاً على عمتي أم كلثوم خشيةً منه أن يأتيني .
فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني ، ففررت منهزمة ، وأنا أظن أني أسلم منه ! ! وإذا به قد تبعني ، فذهلت خشيةً منه ، وإذا بكعب الرمح بين كتفي ، فسقطت على وجهي
فخرم أذني ، وأخذ قرطي ومقنعتي ، وترك الدماء تسيل على خدي ، ورأسي تصهره الشمس ، وولى راجعاً إلى المخيم وأنا مغشي علي ! !
وإذا بعمتي عندي تبكي ، وهي تقول :
قومي نمضي ، ما أعلم ما جرى على البنات ، وعلى أخيك العليل ؟
فما رجعنا إلى الخيمة إلا وهي قد نهبت وما فيها .
وأخي : علي بن الحسين مكبوب على وجهه ، لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام ، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا ! ! (12)
وروي عن السيدة زينب (عليها السلام) أنها قالت : كنت ـ في ذلك الوقت ـ واقفة في الخيمة إذ دخل رجل أزرق العينين (13) فأخذ ما كان في الخيمة ، ونظر إلى علي بن الحسين وهو على نطع من الأديم (14) وكان مريضاً فجذب النطع من تحته ، ورماه إلى الأرض ! !
قال حميد بن مسلم : انتهيت إلى علي بن الحسين ، وهو مريض ومنبسط على فراش ، إذ أقبل شمر بن ذي الجوشن ومعه جماعة من الرجالة ، وهم يقولون [له] : ألا تقتل هذا العليل ؟
فهم اللعين بقتله ، فقلت : سبحان الله ! أتقتل الصبيان ؟ ! إنما هو صبي .
فلم يمتنع اللعين وسل سيفه ليقتله ، فألقت زينب (عليها السلام) بنفسها عليه وقالت : والله لا يقتل حتى أقتل .
فأخذ عمر بن سعد بيده وقال : أما تستحي من الله ، تريد أن تقتل هذا الغلام المريض ؟ !
فقال شمر : قد صدر أمر الأمير عبيد الله بن زياد أن أقتل جميع أولاد الحسين .
فبالغ عمر في منعه ، فكف عنه . (15)
إحراق خيام الإمام الحسين عليه السلام
ولما فرغ القوم من النهب والسلب ، أمر عمر بن سعد بحرق الخيام .
فأضرموا الخيم ناراً ، ففررن بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء . .
وذكر في بعض كتب المقاتل : أن زينب الكبرى (عليها السلام) أقبلت إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت :
يا بقية الماضين وثمال الباقين ! (16) قد أضرموا النار في مضاربنا (17) فما رأيك فينا ؟
فقال (عليه السلام) : عليكن بالفرار .
ففررن بنات رسول الله صائحات باكيات .
قال بعض من شهد ذلك :
رأيت امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة ، والنار تشتعل من جوانبها ، وهي تارةً تنظر يمنة ويسرة ، وتارةً أخرى تنظر إلى السماء ، وتصفق بيديها ، وتارةً تدخل في تلك الخيمة وتخرج .
فأسرعت إليها وقلت : يا هذي ! ما وقوفك ها هنا والنار تشتعل من جوانبك ؟ ! وهؤلاء النسوة قد فررن وتفرقن ، ولم لم تلحقي بهن ؟ ! وما شأنك ؟ !
فبكت وقالت : يا شيخ إن لنا عليلاً في الخيمة ، وهو لا يتمكن من الجلوس والنهوض ، فكيف أفارقه وقد أحاطت النار به ؟ (18)
وعن حميد بن مسلم قال : رأيت زينب ـ حين إحراق الخيام ـ قد دخلت في وسط النار ، وخرجت وهي تسحب إنساناً من وسط لهيب النار ، فظننت أنها تسحب ميتاً قد احترق ، فاقتربت لأنظر إليه ، فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين . (19)
أيها القارئ الكريم : أنظر إلى هذه العملية الفدائية ، وهذه التضحية بالحياة ! !
كيف تقتحم هذه السيدة الجليلة المكان المشحون بلهيب النار ، لتنقذ ابن أخيها ـ، وإن شئت فقل : إمام زمانها ـ من بين أنياب الموت ؟ !
فهل تعرف نظيراً لهذه السيدة فيما قامت به من الخطوات والأعمال ؟ !
إنها مغامرة بالحياة من أجل الدين .
إنها إبنة ذلك البطل العظيم الذي كان يخوض غمار الموت ـ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ للدفاع عن الإسلام والمحافظة على حياة نبي الإسلام .
إنها إبنة أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام) .
السيدة زينب تجمع العيال والأطفال
لقد أوصى الإمام الحسين أخته السيدة زينب بالمحافظة على العيال والأطفال بعد استشهاده (عليه السلام) ، ويعلم الله كم كان تنفيذ هذه الوصية أمراً صعباً ، وخاصةً بعد الهجوم الوحشي على مخيمات الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد إحراق الخيام وتبعثر النساء والأطفال في الصحراء !
ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تلجأ إلى السيدة زينب ، وتخفي أنفسهن خلفها ، وكان الأطفال ـ أيضاً ـ يفزعون إليها ويتسترون وراءها خوفاً من الضرب بالسياط والعصي ، فكانت السيدة زينب (عليها السلام) تحافظ عليهم ـ كما يحافظ الطير على فراخه حين هجوم الصقور على عشه ـ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال ، وقد إسود ظهرها ـ في مدة زمنية قصيرة ـ بسبب الضرب المتوالي على جسمها !
وبعد الهجوم والإحراق بدأت السيدة زينب تتفقد النساء والأطفال ، وتنادي كل واحدة منهن باسمها ، وتعدهم واحدةً واحدة ، وتبحث عمن لا تجده مع النساء والأطفال !
ونقرأ في بعض الكتب : أن السيدة زينب (عليها السلام) لما بدأت بجمع العيال والأطفال ، لم تجد طفلين منهم ، فذهبت تبحث عنهما هنا وهناك ، وأخيراً . . وجدتهما معتنقين نائمين ، فلما حركتهما فإذا هما قد ماتا من الخوف والعطش ! !
ولما سمع العسكر بذلك قالوا لا بن سعد : رخص لنا في سقي العيال . . . . (20)
وذكر في بعض الكتب أن طفلين لعبد الرحمن بن عقيل كانا مع الحسين ، إسمهما : سعد وعقيل ، وأنهما ماتا من شدة العطش ومن الدهشة والذعر ، بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وهجوم الأعداء على المخيم للسلب . وأمهما : خديجة بنت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام . (21)
ليلة الوحشة
باتت العائلة المفجوعة ليلة الحادية عشرة من المحرم بحالة لا يستطيع أي قلم شرحها ووصفها ، ولا يستطيع اي مصور أن يصور جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة .
قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرمة وهي تملك كل شيء ، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك شيئاً .
رجالها صرعى مرملون بدمائهم ، وأطفالها مذبحون ، والأموال قد نهبت ، والأزر والمقانع سلبت ، والظهور والمتون قد سودتها السياط وكعاب الرماح .
ليس لهم طعام حتى يقدموه إلى من تبقى من الأطفال ، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جف اللبن في صدورهن جوعاً وعطشاً .
واستولت على العائلة ـ وخاصةً الأطفال ـ حالة الفواق ، وهي حالة تشنج تحصل للإنسان حينما يبكي كثيراً ، فتتشنج الرئة ، ويخرج النفس متقطعاً .
يا للفاجعة ، يا للمأساة ، يا للمصائب .
لا غطاء ، ولا فراش ، ولا ضياء ، ولا أثاث ، ولا طعام .
قد أحدقت السيدات بالإمام زين العابدين (عليه السلام) وهو بقية الماضين ، وثمال الباقين ، وهن يتفكرن بما خبأ لهن الغد من أولئك السفاكين .
فالفاجعة لم تنته بعد ، والظلم ـ بجميع أنواعه ـ بالنتظار آل رسول الله الطيبين الطاهرين ، والحوادث المؤلمة سوف تمتد إلى غد وما بعد غد ، وإلى أيام وشهور ، مما لا بالبال ولا بالخاطر .
وسوف تبدأ رحلة طويلة مليئة بالآلام والأهات والدموع .
وحكي أن السيدة زينب (عليها السلام) تفقدت العائلة في ساعة من ساعات تلك الليلة ، وإذا بالسيدة الرباب لا توجد مع النساء ، فخرجت السيدة زينب ومعها أم كلثوم ، وهما تناديان : يا رباب . . يا رباب .
فسمعها رجل كان موكلاً بحراسة العائلة ، فسألها ماذا تريدين ؟ !
فقالت السيدة زينب : إن إمرأةً منا مفقودة ولا توجد مع النساء .
فقال الرجل : نعم ، قبل ساعة رأيت امرأة منكم إنحدرت نحو المعركة !
فأقبلت السيدة زينب حتى وصلت إلى المعركة ، وإذا بها ترى الرباب جالسة عند جسد زوجها الإمام الحسين (عليه السلام) وهي تبكي عليه بكاءً شديداً وتنوح ، وتقول في نياحتها :
وا حسيناه وأين مني حسين أقصـدته أسنة الأدعيـاء
غادروه فـي كربلاء قتيلاً لا سقى الله جانبي كربلاء
فأخذت السيدة زينب (عليها السلام) بيدها وأرجعتها معها إلى حيث النساء والأطفال .
وفي هذا الجو المتوتر ، والوضع المقرح للفؤاد ، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «فتحت عيني ليلة الحادية عشر من المحرم ، وإذا أنا أرى عمتي زينب تصلي نافلة الليل وهي جالسة ، فقلت لها : يا عمة أتصلين وأنت جالسة» ؟
قالت : نعم يابن أخي ، والله إن رجلي لا تحملني ! ! (22)
ترحيل العائلة من كربلاء
لقد جاءوا بالنياق المهزولة لترحيل آل رسول الله ، فلا غطاء ولا وطاء ! !
آل رسول الله ، أشرف أسرة وأطهرها وأتقاها على وجه الأرض ، وكأنهن سبايا الكفار والمشركين ! !
لقد كان تعامل الأعداء معهن في منتهى القساوة والفظاظة وكأنهم يحاولون الإنتقام منهن ، ويطلبون بثارات بدر وحنين !
وهل أستطيع أن أكتب ـ هنا ـ شيئاً من مواقف بني أمية تجاه آل رسول الله ؟ !
والله . . إنها وصمة خزي وعار لا تمحى ولا تزول بمرور القرون .
لقد وصموا بها جبهة التاريخ الإسلامي النزيه المشرق الوضاء .
عن كتاب (أسرار الشهادة) للدربندي : ثم أمر عمر بن سعد بأن تحمل النساء على الأقتاب (23) ، بلا وطاء ولا حجاب ، فقدمت النياق إلى حرم رسول الله (صلى الله علهي وآله وسلم) وقد أحاط القوم بهن ، وقيل لهن : تعالين واركبن ، فقد أمر إبن سعد بالرحيل . (24)
فلما نظرت زينب (عليها السلام) إلى ذلك نادت وقالت : سود الله وجهك يا بن سعد في الدنيا والآخرة ! تأمر هؤلاء القوم بأن يركبونا ونحن ودائع رسول الله ؟ !
فقل لهم : يتباعدوا عنا ، يركب بعضنا بعضاً .
فتنحوا عنهن ، فتقدمت السيدة زينب ، ومعها السيدة أم كلثوم ، وجعلت تنادي كل واحدة من النساء باسمها وتركبها على المحمل ، حتى لم يبق أحد سوى زينب (عليها السلام) !
فنظرت يميناً وشمالاً ، فلم تر أحداً سوى الإمام زين العابدين وهو مريض ، فأتت إليه وقالت :
قم يابن أخي واركب الناقة .
قال : يا عمتاه ! إركبي أنت ، ودعيني أنا وهؤلاء القوم .
فالتفتت يميناً وشمالاً ، فلم تر إلا أجساداً على الرمال ، ورؤوساً على الأسنة بأيدي الرجال (25) ، فصرخت وقالت :
واغربتاه ! وا أخاه ! وا حسيناه ! وا عباساه ! وا رجالاه ! وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله . . .
فأقبلت فضة وأركبتها . . (26)
نياحة السيدة زينب على سيد الشهداء
وفي يوم الحادي عشر من المحرم . . لما أراد الأعداء أن يرحلوا بقافلة نساء آل رسول الله من كربلاء إلى الكوفة ، مروا بهن على مصارع القتلى ـ وهم جثث مرملة ومطروحة على التراب ـ فلما نظرت النسوة إلى تلك الجثث صحن وبكين ولطمن خدودهن . وأما السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) فقد كانت تلك الساعة من أصعب الساعات على قلبها ، وخاصةً حينما نظرت إلى جثة أخيها العزيز الإمام الحسين وهو مطروح على الأرض بلا دفن ، وبتلك الكيفية المقرحة للقلب ! !
يعلم الله تعالى مدى الحزن الشديد والألم النفسي الذي خيم على قلب السيدة زينب وهي ترى أعز أهل العالم ، وأشرف من على وجه الأرض بحالة يعجز القلم واللسان عن وصفها .
فقد مد أولئك الذئاب المفترسة (الذين لا يستحقون إطلاق إسم
البشر عليهم ، فكيف باسم الإنسان ، وكيف باسم المسلم) أيديهم الخبيثة إلى جسد أطهر إنسان على وجه الكرة الأرضية آنذاك . وأرقوا دماءً كانت جزءاً من دم الرسول الأقدس ، وقطعوا نحراً قبله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مئات المرات ، وعفروا خداً طالما إلتصق بخد الرسول الأطهر ، ورضوا وسحقوا جسداً كان يحمل على أكتاف الرسول الأعظم ، وكان محله في حجر الرسول ، وعلى صدره وظهره .
لقد كان الرسول الكريم يحافظ على ذلك الجسم العزيز ، حتى من النسيم والمطر . . فكيف من غيره ؟
نعم ، إن المجرمين الجناة كانوا في سكرة موت الضمير ، وفقدان الوعي والإدراك للمفاهيم ، فانقلبوا إلى سباع ضارية ، وذئاب مفترسة ، ووحوش كاسرة ، لا تفهم معنى العاطفة والشرف والفضيلة ، ولا تدرك إلا هواها الشيطاني .
فصنعت ما صنعت بذلك الإمام ، المتكامل شرفاً وعظمة ، وجعلت جسمه هدفاً لسيوفها ورماحها وسهامها ، وميداناً لخيولها ، وهم يحاولون أن لا يتركوا منه أثراً يرى ، ولا أعضاء فتوارى .
كان هذا المنظر والمظهر المشجي ، المقرح للقلب ، الموجع للروح بمرأى من السيدة زينب الكبرى .
فهي ترى نفسها بجوار جثمان إمامها ، وإمام العالم كله ، وسيد شباب أهل الجنة ، فلا عجب إذا اختضنته تارةً وألقت نفسها عليه تارةً أخرى .
تبكي عليه بدموع منهمرة متواصلة ، وتندبه من أعماق نفسها ، ندبةً تكاد روحها تخرج مع زفراتها وآهاتها !
تندبه بكلمات منبعثة من أطهر قلب ، خالية عن كل رياء وتصنع ، وكل كلمة منها تعتبر إعلاناً عن حدوث أكبر فاجعة ، وأوجع مصيبة .
إنها سجلت تلك الكلمات على صفحات التاريخ لتكون خالدةً بخلود الأبد ، تقرؤها الأجيال قرناً بعد قرن ، وأمةً بعد أمة ، كي تستلهم منها الدروس والعبر . . . ولكي تبقى المدرسة الزينبية خالدةً بخلود كل المفاهيم العالية والأصول الإنسانية .
نعم ، كلمات تقرع الأسماع اليقظة كصوت الرعد ، فتضطرب منها القلوب وتتوتر منها الأعصاب ، وتسخن الغدد الدمعية المنصوبة على قمة العينين ، فلا تستطيع الغدد حبس الدموع ومنعها عن الخروج والهطول .
وتضيق الصدور فلا تستطيع كبت الآهات ، والنحيب والزفير .
أجل . . إنها معجزة وأية معجزة ، صدرت من سيدة قبل أربعة عشر قرناً ، أراد الله تعالى لها البقاء ، لتكون تلك المعجزة غضة ، وكأنها حادثة اليوم وحدث الساعة .
أجل . . .
كان المفروض أن تفقد السيدة زينب الكبرى وعيها ، وتنهار أعصابها ، وتنسى كل شيء حتى نفسها ، وتتعطل ذاكرتها أمام جبال المصائب والفجائع ، والهموم والأحزان .
نعم ، هكذا كان المفروض ، ولكن إيمانها الراسخ العجيب بالله تعالى ، وقلبها المطمئن بذكر الله (عزوجل) كان هو الحاجز عن صدور كل ما ينافي الوقار والإتزان ، والخروج عن الحالة الطبيعية .
وليس معنى ذلك السكوت الذي يساوي عدم الإهتمام بتلك الفاجعة أو عدم المبالاة بما جرى ، بل لا بد من إيقاظ الشعور العام بتلك الجناية العظمى ، التي صدرت من أرجس عصابة على وجه الأرض .
فلا عجب إذا هاجت أحزانها هيجان البحار المتلاطمة الأمواج ، وتفايض قلبها الكبير . . بالعواطف والمحبة ، وجعلت تندب أخاها بكلمات في ذروة الفصاحة والبلاغة ، وتعتبر أبلغ كلمات سجلها التاريخ في الرثاء والتأبين ، وفي مقام التوجع والتفجع . (27)
قال الراوي : فوالله لا أنسى زينب بنت علي وهي تندب أخاها الحسين بصوت حزين وقلب كئيب :
«يا محمداه ، صلى عليك مليك السماء ، هذا حسين مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، مسلوب العمامة والرداء ، محزوز الرأس من القفا . ونحن بناتك سبايا .
إلى الله المشتكى ، وإلى محمد المصطفى ، وإلى علي المرتضى ، وإلى فاطمة الزهراء ، وإلى حمزة سيد الشهداء .
يا محمداه ! هذا حسين بالعراء (28) ، تسفي عليه ريح الصباء ، قتيل أولاد البغايا .
واحزناه ! واكرباه عليك يا أبا عبد الله .
بأبي من لا هو غائب فيرتجي ، ولا جريح فيداوى .
بأبي المهموم حتى قضى .
بأبي العطشان حتى مضى . . . .»
فأبكت ـ والله ـ كل عدو وصديق . (29)
واعتنقت زينب جثمان أخيها ، ووضعت فمها على نحره وهي تقبله وتقول :
«أخي لو خيرت بين المقام عندك أو الرحيل لاخترت
المقام عندك ، ولو أن السباع تأكل من لحمي .
يابن أمي ! لقد كللت عن المدافعة لهؤلاء النساء والأطفال ، وهذا متني قد أسود من الضرب ! ! (30).
-----------------------------------------------------------------------
(1) كتاب «معالي السبطين» ج 2 ص 135 ، الفصل الخامس عشر ، المجلس الثاني عشر .
(2) معالي السبطين ، ج 2 ص 140 .
(3) معالم السبطين ، ج 2 ، ص 135 .
(4) نفس المصدر ، ص 135 .
(5) نفس المصدر .
(6) الملحفة : الملاءة التي تلتحف بها المرأة ، كما في «أقرب الموارد» . ويعبر عنها ـ حالياً ـ بالعباءة والإزار .
(7) كتاب معالي السبطين ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثاني . أي :
(8) كتاب (الملهوف) لابن طاووس ، ص 181 .
(9) نفس المصدر .
(10) أخمرة ـ جمع خمار ـ : ما تغطي به المرأة رأسها .
أسورة ـ جمع سوار ـ : حلية ـ كالطوق ـ تلبسها المرأة في زندها أو معصمها ، ويعبر عنها ـ أيضاً ـ : بالمعاضد .
(11) أجيل بطرفي : أدبر بعيني وبصري .
(12) بحار الأنوار للمجلسي ج 45 ص 61 .
(13) وهو خولى بن يزيد الأصبحي . كما في كتاب (اسرار الشهادة) للدربندي الطبعة الحديثة ، ج 3 ص 129 .
(14) النطع : بساط من الجلد يفرش تحت الإنسان . الأديم : الجلد المذبوغ .
(15) كتاب معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثاني . وكتاب أسرار الشهادة ج 3 ص 129 .
(16) الثمال ـ على وزن كتاب ـ : الغياث الذي يقوم بأمر قومه ، يقال : فلان ثمال قومه : أي غياث لهم . كتاب «مجمع البحرين» للطريحي .
(17) المضارب : الخيام .
(18) معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثالث .
(19) كتاب «الطراز المذهب في أحوال سيدتنا زينب» .
(20) كتاب «الإيقاد» للسيد محمد علي الشاه عبد العظيمي ، الطبعة الحديثة ، ص 139 .
(21) معالي السبطين ج 2 ، الفصل 12 ، المجلس الرابع .
(22) كتاب «زينب الكبرى» للشيخ جعفر النقدي ، ص 58 .
(23) أقتاب ـ جمع قتب ـ : وهو وشيء يصنع من خشب ، يشد على ظهر البعير ، ويغطى بقماش سميك ، لراحة الراكب ، وحفظه من السقوط . قال في «المعجم الوسيط» : القتب : الرحل الصغير على قدر سنام البعير .
(24) لقد ذكر السيد ابن طاووس في كتاب «الملهوف» ص 189 : أن ترحيل العائلة كان بعد الزوال من اليوم الحادي عشر من المحرم .
(25) الأسنة ـ جمع سنان ـ : الرمح .
(26) كتاب (أسرار الشهادة) للعالم الجليل الشيخ الدربندي .
(27) وكان ذلك حينما مروا بقافلة الأسارى على مصرع الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الحادي عشر من المحرم .
(28) العراء : الأرض المنبسطة التي لا يستر فضاءها شيء .
(29) كتاب (الملهوف) لابن طاووس ، ص 181 ، وكتاب الإيقاد ، ص 140 .
(30) معالي السبطين ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر .