بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
عَلَى خَلْقِهِ العافِي بِهِ والمُعاقِبُ
وفي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ وُدُّكَ واجِبُ
تَنُوبُكَ مِنْ آلِ الطَّرِيدِ النَّوائِبُ
وَلِيدٌ فلا ساغَتْ لَدَيْهِ المشَارِبُ
تَداعَتْ لَهُ أَرْكانُهُ والجَوانِبُ
عَلَيْهِ المعَالِي فَهْيَ ثَكْلَى نَوادِبُ
ومِنْ أُفْقِهِ بَدْرُ الإِمامَةِ غارِبُ
كَواكِبُ مِنْ آلِ النَّبِيِّ غَوارِبُ
ونَالَتْ بِهِمْ ما لَمْ تَنَلْهُ الكَواكِبُ
تَطُوفُ مِنً الأَمْلاكِ فِيها كَتَائبُ1
أَلَا يـــا أَمـــــِينَ اللهِ وابـْــــنَ أَمـــيــنِــهِ
رِضَاكَ رِضَى البارِي وسُخْطُكَ سُخْطُهُ
فَـــيا لَيــْتَ لَا كَانَ الطَّـرِيدُ وِلَمْ تـَكُـنْ
ودَسَّ إِلَيْكَ السُّمَّ غَدْراً بِـمَشْرَبٍ
فَــيــا لَإِمـامٍ مُحــْكَـــمُ الذِّكْــرِ بَــعــْدَهُ
وَيــا لَــفــَقــِيدٍ قَــدْ أَقـــامَــتْ مــَآتــِمـاً
فَلا عَجَبٌ بَيْتُ النّـُبُـوَّةِ إِنْ دَجــا
وَلِلَّهِ أَفـْلاكُ البـَقِيـعِ فَكَــمْ بــِهـَا
حَوَتْ مِنْهُمُ ما لَيْسَ تَحْوِيـهِ بُقــْعَــةٌ
فــَبُـورِكْتِ أَرْضــاً كُــلَّ يَــوْمِ وَلَــيْلَــــةٍ
شعبي:
أيا مصايب أهل البيت البدور تصيح بصوت ســكنة بقلــب مفطــور
تجدّد نوحنا بخامس وعشرين اشكثر لوعات ضــقنا بشـــهر عاشور
في البحار: عن الصّادق عليه السلام، قال: البكّاؤون خمسة: آدم, ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, وعليّ بن الحسين، إلى أن قال عليه السلام، وأمّا عليّ بن الحسين، فبكى على الحسين عليها السلام عشرين سنة، أو أربعين سنة2 ، وما وضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله: إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنمّا أشكو بثّي وحزني إلى الله, وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني لذلك العبرة3.
وفي اللّهوف: روي عن الصّادق عليه السلام، أنّه قال: إنَّ زين العابدين بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره، قائماً ليله، فإذا حضر الإفطار، جاء غلامه بطعامه وشرابه، فيضعه بين يديه، فيقول: كل يا مولاي، فيقول عليه السلام: قتل
ابن رسول الله جائعاً، قتل ابن رسول الله عطشاناً، فلا يزال يكرّر ذلك ويبكي حتّى، يبتلّ طعامه من دموعه، ثمّ يمزج شرابه بدموعه، فلم يزل كذلك، حتّى لحق بالله عزَّ وجلَّ4.
وفي البحار: وقيل: إِنَّه بكى حتّى خيف على عينيه، وكان إذا أخذ إناء يشرب ماء، بكى، حتّى يَمْلَأَهُ دمعاً، فقيل له في ذلك: فقال: وكيف لا أبكي، وقد منع أبي من الماء الّذي كان مطلقاً للسّباع والوحوش؟ وقيل له: إنّك لتبكي دهرك، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا. فقال: نفسي قتلتها، وعليها أبكي5.
ولم يزل على هذا المنهاج، حتّى سمّه الوليد بن عبد الملك6.
وفي البحار، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: لمّا حضرت الوفاة أبي، ضمّني إلى صدره، وقال: يا بنيّ أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وممّا ذكر، أنّ أباه أوصاه به، أنّه قال: يا بنيّ، إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلّا الله.
المصيبة:
وعن أبي الحسن عليه السلام، قال: لمّا حضرت عليّ بن الحسين الوفاة، أغمي عليه ثلاث مرّات، فقال في المرّة الأخيرة: ﴿الحَمْدُ للهُ الّذي صَدَقّنَا وَعْدَهُ، وأَوْرثَنَا الأرْضَ، نَتَبَوَّأ مِنَ الجَنّة حيثُ نَشَاء، فَنِعْم أجْرُ العَاملينَ﴾.
ولمّا سرى السّمّ في بدنه الشّريف، وتيقّن حلول أمر الله تعالى به، وانقطاع أجله, أقبل على ولده، وخليفة الله من بعده، أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام، وقال له: يا بنيّ, إنّ الوقت الّذي وعدته قد قرب, فأوصيك يا بنيّ في نفسك خيراً, واصبر على الحقّ، وإن كان مرّاً, فإنّه لتحدّثني نفسي بسرعة الموت، لقوله تعالى:
﴿أَوَلَمْ يرَوْا أنّا نأتِي الأرض نَنقصها من أطرَافِهَا، والله يَحْكُمُ لا مُعَقِّب لِحكمِهِ، وهو سريعُ الحساب﴾وكان عليه السلام يقرأ القرآن، وهو في حالة الاحتضار، ثمّ أشرق من وجهه الشّريف نور ساطع، يكاد يخطف الأبصار, ثمّ نادى: يا أبا جعفر، عجّل, ففاضت نفسه الشّريفة, فلطم الباقر رأسه,
ورفع صوته بالبكاء, وضجّ أهله وعياله، وضجّت المدينة بالبكاء والعويل, وكان كيوم مات فيه رسول الله.
فأخذ ولده الباقر في تجهيزه، وأعانته على غسله أمّ ولد له, وبينما إمامنا زين العابدين على ساجة المغتسل، والإمام أبو جعفر يغسّله، إذ تنحّى أبو جعفر جانباً، وأخذ في البكاء, قيل له: لماذا تبكي؟ قال: رأيت آثار الجامعة والقيود على عنقه وجسده7.
گام أو غسله الباقر بيده اوشاف الجامعه امأثره ابجيده
اوشاف الساگ بيه اشعمل گيده گعد يبكي اوعلى حاله ايتهظم
وبعد الغسل والتّكفين، أخرجت جنازة الإمام للصّلاة عليها, فصلّى عليها الإمام الباقر عليه السلام، وصلّى النّاس: البرّ والفاجر, الصَّالح والطَّالح, وانهال النّاس يتبعون الجنازة، حتّى لم يبق أحد إلّا وشارك في تشييعه, ودفن في البقيع مع عمّه الحسن عليه السلام.
شــالـه لـلبـقــيع أو حـفـر گـبـره يم عمه الحسن وأمه الزّهره
ظل اعليه يجري الدّمع عبره لمن سمّه هشام أو مات بالسّم
عليه صاحت الوادم فرد صيحه او گام أو غسّله أو حطّه ابضريحه
بس جثة السّبط ظلّت طريحـه أو بالخـيل الصـّدر مـنه تهشم
لقد فارقت روحه بدنه الشّريف، ولكن الغصّة على أبيه الحسين، مرارتها لم تفارق حلقه, لقد قضى صلوات الله عليه، وذكرى كربلاء ماثلة أمام عينيه. يروي السّيّد ابن طاووس، عن أحد غلمانه عليه السلام: أنّه برز يوماً إلى الصّحراء, يقول: فتبعته، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة, فوقفت، وأنا أسمع شهيقه وبكاءَه, وأحصيت عليه ألف مرّة، يقول: (لا إله إلّا الله حقّاً حقّاً, لا إله إلّا الله تعبّداً ورقّاً, لا إله إلّا الله إيماناً وتصديقاً وصدقاً)، ثمّ رفع رأسه من سجوده, وقد غمر وجهه ولحيته بدموع عينيه، فقلت: يا سيّدي, أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقلّ؟ فقال لي: ويحك, إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، كان نبيّاً وابن نبيّ، له اثنا عشر ابناً، فغيّب الله واحداً منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ، وذهب بصره من البكاء، وابنه حيّ في دار الدّنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل
بيتي، صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني، ويقلّ بكائي؟
نعم، كيف ينقضي حزنه؟ ولا زال صوت أبيه الحسين يرنّ بمسمعه، وهو ينادي يوم عاشوراء: هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟ فارتفعت أصوات النّساء بالعويل، وسمع زين العابدين استغاثته، وكان مريضاً لا يقدر أن يسلّ سيفه.
ولهذا أرجعته زينب عليها السلام إلى فراشه, وكانت عليها السلام تفديه بنفسها، حتّى عندما أحرقوا الخيام هامت النّساء بأجمعها، ما عدا زينب العقيلة, بقيت واقفة على باب الخيمة. يقول حميد بن مسلم: رأيت امرأة واقفة على باب خيمةٍ، والنّار تستعر بأطناب الخيمة, قلت في نفسي: هذه المرأة مدهوشة لا ترى النّار! فدنوت منها، وقلت: أمة الله، النّارَ النّارَ، ما وقوفك ها هنا؟ فالتفتت إليّ، وقالت: إنّي أرى النّار، ولكن لنا عليل في هذه الخيمة- تعني الإمام زين العابدين عليه السلام- دخلوا على ذلك العليل، سحبوه من فراشه، وألقوه على الأرض..
جَرُّوهُ وَانْتَهَبُوا النَّطْعَ المُعَدَّ لَهُ وَأَوْطَأُوا جِسْمَهُ السَّعْدانَ والحَسَكَا
أرادوا قتله فرمت عمّته زينب بنفسها عليه، وهي تقول: إن أردتم قتله فاقتلوني معه.
ويلي..
داروا بيه هذا ايگول اذبـحوه وهذا ايگول رحموا اهله وخلّوه
وهذا ايگول بالراحوا دلحگـوه اولا تبـگون مــن عـدهم امـخـبّر
وتتالت المصائب والأحزان على قلب الإمام عليه السلام, ولمّا رجع - بأبي هو وأمّي - بعد واقعة الطّفّ إلى المدينة، كان كلمّا نظر إلى دور آل عقيل خنقته العبرة, لأنّهم قتلوا بأجمعهم, ولم يبق منهم سوى عبد الله بن محمّد بن عقيل.
ولهذا أيضاً، كان الإمام زين العابدين، بعد واقعة الطفّ، يؤثر آل عقيل، ويبرّهم أكثر من غيرهم، قال الفاضل المجلسيّ: كان عليّ بن الحسين يميل إلى ولد عقيل، فقيل له: ما بالك تميل إلى ولد عمّك هؤلاء دون ولد جعفر؟ فقال عليه السلام: إنّي لأذكر يومهم مع أبي عبد الله الحسين بن عليّ عليه السلام، فأرقّ لهم8. يعنــي إذا التفتَ يميــناً يــرى
حوله الأيامى من آل عقيل، قابعات قد أكل الأسى قلوبهن، هذه باكية، وتلك لاطمة؛ وإذا نظر شمالاً يرى زنوداً أضرّ بها الحديد، أطفالاً منكسرة بذلّ اليتم.
ومُثْقــَلٌ بِالقَيْــدِ أَوْدَى بِــهِ فَقْدُ أَبِيهِ بَعْدَ أَصْحابِهِ
لِضُرِّهِ أَوْ فُرُطٍ أَوْصـَى بـِهِ رَقَّ لَــهُ الشـــَّامِتُ مِمـَّا بِهِ
أَللهُ مَنْ رَقَّ لَهُ الشَّامِتُ
---------------------
هوامش
1- القصيدة للسيّد صالح القزوينيّ.
2- الظّاهر أنّ التّرديد من الرّاوي.
3- البحار: 43/155.
4- اللّهوف لابن طاووس، ص87.
5- البحار: 46/108.
6- كما عن الصّدوق، وابن طاووس البحار: 46/13 ـ وإقبال الأعمال لابن طاووس، ص97.
7- كتاب وفاة الإمام السّجّاد، للمرحوم سليمان البلاديّ.
8- البحار، ج46، ص110، نقلاً عن كامل الزيارة، لابن قولويه، ص107.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
عَلَى خَلْقِهِ العافِي بِهِ والمُعاقِبُ
وفي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ وُدُّكَ واجِبُ
تَنُوبُكَ مِنْ آلِ الطَّرِيدِ النَّوائِبُ
وَلِيدٌ فلا ساغَتْ لَدَيْهِ المشَارِبُ
تَداعَتْ لَهُ أَرْكانُهُ والجَوانِبُ
عَلَيْهِ المعَالِي فَهْيَ ثَكْلَى نَوادِبُ
ومِنْ أُفْقِهِ بَدْرُ الإِمامَةِ غارِبُ
كَواكِبُ مِنْ آلِ النَّبِيِّ غَوارِبُ
ونَالَتْ بِهِمْ ما لَمْ تَنَلْهُ الكَواكِبُ
تَطُوفُ مِنً الأَمْلاكِ فِيها كَتَائبُ1
أَلَا يـــا أَمـــــِينَ اللهِ وابـْــــنَ أَمـــيــنِــهِ
رِضَاكَ رِضَى البارِي وسُخْطُكَ سُخْطُهُ
فَـــيا لَيــْتَ لَا كَانَ الطَّـرِيدُ وِلَمْ تـَكُـنْ
ودَسَّ إِلَيْكَ السُّمَّ غَدْراً بِـمَشْرَبٍ
فَــيــا لَإِمـامٍ مُحــْكَـــمُ الذِّكْــرِ بَــعــْدَهُ
وَيــا لَــفــَقــِيدٍ قَــدْ أَقـــامَــتْ مــَآتــِمـاً
فَلا عَجَبٌ بَيْتُ النّـُبُـوَّةِ إِنْ دَجــا
وَلِلَّهِ أَفـْلاكُ البـَقِيـعِ فَكَــمْ بــِهـَا
حَوَتْ مِنْهُمُ ما لَيْسَ تَحْوِيـهِ بُقــْعَــةٌ
فــَبُـورِكْتِ أَرْضــاً كُــلَّ يَــوْمِ وَلَــيْلَــــةٍ
شعبي:
أيا مصايب أهل البيت البدور تصيح بصوت ســكنة بقلــب مفطــور
تجدّد نوحنا بخامس وعشرين اشكثر لوعات ضــقنا بشـــهر عاشور
في البحار: عن الصّادق عليه السلام، قال: البكّاؤون خمسة: آدم, ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, وعليّ بن الحسين، إلى أن قال عليه السلام، وأمّا عليّ بن الحسين، فبكى على الحسين عليها السلام عشرين سنة، أو أربعين سنة2 ، وما وضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله: إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنمّا أشكو بثّي وحزني إلى الله, وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني لذلك العبرة3.
وفي اللّهوف: روي عن الصّادق عليه السلام، أنّه قال: إنَّ زين العابدين بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره، قائماً ليله، فإذا حضر الإفطار، جاء غلامه بطعامه وشرابه، فيضعه بين يديه، فيقول: كل يا مولاي، فيقول عليه السلام: قتل
ابن رسول الله جائعاً، قتل ابن رسول الله عطشاناً، فلا يزال يكرّر ذلك ويبكي حتّى، يبتلّ طعامه من دموعه، ثمّ يمزج شرابه بدموعه، فلم يزل كذلك، حتّى لحق بالله عزَّ وجلَّ4.
وفي البحار: وقيل: إِنَّه بكى حتّى خيف على عينيه، وكان إذا أخذ إناء يشرب ماء، بكى، حتّى يَمْلَأَهُ دمعاً، فقيل له في ذلك: فقال: وكيف لا أبكي، وقد منع أبي من الماء الّذي كان مطلقاً للسّباع والوحوش؟ وقيل له: إنّك لتبكي دهرك، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا. فقال: نفسي قتلتها، وعليها أبكي5.
ولم يزل على هذا المنهاج، حتّى سمّه الوليد بن عبد الملك6.
وفي البحار، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: لمّا حضرت الوفاة أبي، ضمّني إلى صدره، وقال: يا بنيّ أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وممّا ذكر، أنّ أباه أوصاه به، أنّه قال: يا بنيّ، إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلّا الله.
المصيبة:
وعن أبي الحسن عليه السلام، قال: لمّا حضرت عليّ بن الحسين الوفاة، أغمي عليه ثلاث مرّات، فقال في المرّة الأخيرة: ﴿الحَمْدُ للهُ الّذي صَدَقّنَا وَعْدَهُ، وأَوْرثَنَا الأرْضَ، نَتَبَوَّأ مِنَ الجَنّة حيثُ نَشَاء، فَنِعْم أجْرُ العَاملينَ﴾.
ولمّا سرى السّمّ في بدنه الشّريف، وتيقّن حلول أمر الله تعالى به، وانقطاع أجله, أقبل على ولده، وخليفة الله من بعده، أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام، وقال له: يا بنيّ, إنّ الوقت الّذي وعدته قد قرب, فأوصيك يا بنيّ في نفسك خيراً, واصبر على الحقّ، وإن كان مرّاً, فإنّه لتحدّثني نفسي بسرعة الموت، لقوله تعالى:
﴿أَوَلَمْ يرَوْا أنّا نأتِي الأرض نَنقصها من أطرَافِهَا، والله يَحْكُمُ لا مُعَقِّب لِحكمِهِ، وهو سريعُ الحساب﴾وكان عليه السلام يقرأ القرآن، وهو في حالة الاحتضار، ثمّ أشرق من وجهه الشّريف نور ساطع، يكاد يخطف الأبصار, ثمّ نادى: يا أبا جعفر، عجّل, ففاضت نفسه الشّريفة, فلطم الباقر رأسه,
ورفع صوته بالبكاء, وضجّ أهله وعياله، وضجّت المدينة بالبكاء والعويل, وكان كيوم مات فيه رسول الله.
فأخذ ولده الباقر في تجهيزه، وأعانته على غسله أمّ ولد له, وبينما إمامنا زين العابدين على ساجة المغتسل، والإمام أبو جعفر يغسّله، إذ تنحّى أبو جعفر جانباً، وأخذ في البكاء, قيل له: لماذا تبكي؟ قال: رأيت آثار الجامعة والقيود على عنقه وجسده7.
گام أو غسله الباقر بيده اوشاف الجامعه امأثره ابجيده
اوشاف الساگ بيه اشعمل گيده گعد يبكي اوعلى حاله ايتهظم
وبعد الغسل والتّكفين، أخرجت جنازة الإمام للصّلاة عليها, فصلّى عليها الإمام الباقر عليه السلام، وصلّى النّاس: البرّ والفاجر, الصَّالح والطَّالح, وانهال النّاس يتبعون الجنازة، حتّى لم يبق أحد إلّا وشارك في تشييعه, ودفن في البقيع مع عمّه الحسن عليه السلام.
شــالـه لـلبـقــيع أو حـفـر گـبـره يم عمه الحسن وأمه الزّهره
ظل اعليه يجري الدّمع عبره لمن سمّه هشام أو مات بالسّم
عليه صاحت الوادم فرد صيحه او گام أو غسّله أو حطّه ابضريحه
بس جثة السّبط ظلّت طريحـه أو بالخـيل الصـّدر مـنه تهشم
لقد فارقت روحه بدنه الشّريف، ولكن الغصّة على أبيه الحسين، مرارتها لم تفارق حلقه, لقد قضى صلوات الله عليه، وذكرى كربلاء ماثلة أمام عينيه. يروي السّيّد ابن طاووس، عن أحد غلمانه عليه السلام: أنّه برز يوماً إلى الصّحراء, يقول: فتبعته، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة, فوقفت، وأنا أسمع شهيقه وبكاءَه, وأحصيت عليه ألف مرّة، يقول: (لا إله إلّا الله حقّاً حقّاً, لا إله إلّا الله تعبّداً ورقّاً, لا إله إلّا الله إيماناً وتصديقاً وصدقاً)، ثمّ رفع رأسه من سجوده, وقد غمر وجهه ولحيته بدموع عينيه، فقلت: يا سيّدي, أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقلّ؟ فقال لي: ويحك, إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، كان نبيّاً وابن نبيّ، له اثنا عشر ابناً، فغيّب الله واحداً منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ، وذهب بصره من البكاء، وابنه حيّ في دار الدّنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل
بيتي، صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني، ويقلّ بكائي؟
نعم، كيف ينقضي حزنه؟ ولا زال صوت أبيه الحسين يرنّ بمسمعه، وهو ينادي يوم عاشوراء: هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟ فارتفعت أصوات النّساء بالعويل، وسمع زين العابدين استغاثته، وكان مريضاً لا يقدر أن يسلّ سيفه.
ولهذا أرجعته زينب عليها السلام إلى فراشه, وكانت عليها السلام تفديه بنفسها، حتّى عندما أحرقوا الخيام هامت النّساء بأجمعها، ما عدا زينب العقيلة, بقيت واقفة على باب الخيمة. يقول حميد بن مسلم: رأيت امرأة واقفة على باب خيمةٍ، والنّار تستعر بأطناب الخيمة, قلت في نفسي: هذه المرأة مدهوشة لا ترى النّار! فدنوت منها، وقلت: أمة الله، النّارَ النّارَ، ما وقوفك ها هنا؟ فالتفتت إليّ، وقالت: إنّي أرى النّار، ولكن لنا عليل في هذه الخيمة- تعني الإمام زين العابدين عليه السلام- دخلوا على ذلك العليل، سحبوه من فراشه، وألقوه على الأرض..
جَرُّوهُ وَانْتَهَبُوا النَّطْعَ المُعَدَّ لَهُ وَأَوْطَأُوا جِسْمَهُ السَّعْدانَ والحَسَكَا
أرادوا قتله فرمت عمّته زينب بنفسها عليه، وهي تقول: إن أردتم قتله فاقتلوني معه.
ويلي..
داروا بيه هذا ايگول اذبـحوه وهذا ايگول رحموا اهله وخلّوه
وهذا ايگول بالراحوا دلحگـوه اولا تبـگون مــن عـدهم امـخـبّر
وتتالت المصائب والأحزان على قلب الإمام عليه السلام, ولمّا رجع - بأبي هو وأمّي - بعد واقعة الطّفّ إلى المدينة، كان كلمّا نظر إلى دور آل عقيل خنقته العبرة, لأنّهم قتلوا بأجمعهم, ولم يبق منهم سوى عبد الله بن محمّد بن عقيل.
ولهذا أيضاً، كان الإمام زين العابدين، بعد واقعة الطفّ، يؤثر آل عقيل، ويبرّهم أكثر من غيرهم، قال الفاضل المجلسيّ: كان عليّ بن الحسين يميل إلى ولد عقيل، فقيل له: ما بالك تميل إلى ولد عمّك هؤلاء دون ولد جعفر؟ فقال عليه السلام: إنّي لأذكر يومهم مع أبي عبد الله الحسين بن عليّ عليه السلام، فأرقّ لهم8. يعنــي إذا التفتَ يميــناً يــرى
حوله الأيامى من آل عقيل، قابعات قد أكل الأسى قلوبهن، هذه باكية، وتلك لاطمة؛ وإذا نظر شمالاً يرى زنوداً أضرّ بها الحديد، أطفالاً منكسرة بذلّ اليتم.
ومُثْقــَلٌ بِالقَيْــدِ أَوْدَى بِــهِ فَقْدُ أَبِيهِ بَعْدَ أَصْحابِهِ
لِضُرِّهِ أَوْ فُرُطٍ أَوْصـَى بـِهِ رَقَّ لَــهُ الشـــَّامِتُ مِمـَّا بِهِ
أَللهُ مَنْ رَقَّ لَهُ الشَّامِتُ
---------------------
هوامش
1- القصيدة للسيّد صالح القزوينيّ.
2- الظّاهر أنّ التّرديد من الرّاوي.
3- البحار: 43/155.
4- اللّهوف لابن طاووس، ص87.
5- البحار: 46/108.
6- كما عن الصّدوق، وابن طاووس البحار: 46/13 ـ وإقبال الأعمال لابن طاووس، ص97.
7- كتاب وفاة الإمام السّجّاد، للمرحوم سليمان البلاديّ.
8- البحار، ج46، ص110، نقلاً عن كامل الزيارة، لابن قولويه، ص107.