بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
قَالَ الباري عَزَّ و جَلَّ : ﴿ خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَـٰهِلِینَ ﴾، سُورَةُ الأعرافِ ، الآية 199.
الأخذُ بالشئِ هو لُزومُهُ أو عدمُ تَركِهِ فأخذُ العفوَ مُلازمَةُ السَّترِ علَى إساءَةِ مَنْ أساءَ إليهِ، والإغماضُ عَنْ حَقِّ الإنتقامِ الّذي يُعطيهِ العَقلُ الإجتماعي لِبَعضِهِم علَى بعضٍ . هذا بالنَّسبَةِ إلَى إساءَةِ الغَيرِ بالنَّسبَةِ إلَى نَفسِهِ والتَّضييعِ لِحَقِّ شَخْصِهِ ، وأمَّا مَا أُضيعَ فيهِ حَقُّ الغيرِ بالإساءَةِ إليهِ فليسَ مِمَّا يُسُّوغُ العَفوَ فيهِ لأنَّهُ إغراءٌ بالإثمِ وتَضييعٌ لِحَقِّ الغَيرِ بنحوٍ أَشَدٍّ، وإبطالٌ للنَّواميسِ الحَافظةَ للإجتماعِ، ويمنعُ عنْهُ جميعَ الآياتِ النَّاهيَّةِ عنِ الظُّلمِ والإفسادِ وإعانَةِ الظَّالمينَ والرُّكونِ إليْهِم بَلْ جميعَ الآياتِ المُعطيَةِ لأصولِ الشَّرائعِ والقوانينَ، وهو ظَاهرٌ .
فالمُرادُ بقولِهِ: ﴿ خُذِ ٱلۡعَفۡوَ ﴾ هو السَّترُ بالعَفوِ فيمَا يرجِعُ إلَى شَخصِهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وعلَى ذلكَ كانَ يسيرُ فقدْ تقدَمَ في بعضِ الرِّواياتِ المُتقدمَةِ في أدبِهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أنَّهُ لمْ ينتقمُ مِنْ أحدٍ لنفسِهِ قَطُّ
هذا علَى مَا ذكرَهُ القَومُ أنَّ المُرادَ بالعفوِ مَا يُساوقُ المَغفرَةَ، وفي بعضِ الرَّواياتِ الآتيةِ عنْ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّ المُرادَ بهِ الوَسطَ وهو أنسبُ بالآيةِ وأجمعُ لِلمعنَى مِنْ غيرِ شَائبَةِ التَّكرارِ الّذي يَلزِمُ مِنْ قَولِهِ عَزَّ و جَلَّ: ﴿ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَـٰهِلِینَ ﴾ على التَّفسيرِ الأوَّلِ . تفسير الميزان ، السيد الطباطبائي ، ج 8 ، ص 379.
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه): ( فِي خُطْبَتِهِ أَ لا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ خَلائِقِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ الْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ وَالإحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ وَإِعْطَاءُ مَنْ حَرَمَكَ )، الكافي - الشيخ الكليني ، ج 2 ، ص 107.
والمقصودُ بالخَلائقِ جمعُ الخليقةِ وهي الطَّبيعَةُ ، والمُرادُ هُنَا المَلكاتُ النَّفسانيَّةُ الرَّاسخَةُ أي خيرُ الصِّفاتِ النَّافعَةُ في الدُّنيا والآخرةِ .
يقولُ أميرُ المؤمنينَ (عَلَيهِ السَّلام) في وصفِ المُتقينَ وحالِ منْ كانَ منْ شيعتِهِ مِنْ المؤمنينَ : (يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِيداً فُحْشُهُ)، نهجُ البَلاغَةِ ، ج1، ص303 ، فَذكرَ (عَلَيهِ السَّلام) أربعَ صفاتٍ للمؤمنينَ ترتبطُ بتعاملِهِم الإجتماعي معَ الآخرينَ، خصوصاً النَّاسُ الّذينَ يختلفونَ معَهُم ويعادونَهُم مذهبياً وطائفياً ودينياً، ولَا يحتاجُ المَرءُ إلَى بُرهانٍ ودليلٍ علَى نفعِ وثمرةِ هذهِ المَفاهيمِ في حياةِ الإنسانِ مَا دامتْ قدْ طُرحَتْ في القُرآنِ الكريمِ بشكلٍ وآخرٍ فالحديثُ عنْهَا منْ بابِ الشَّرحِ والتَّوضيحِ والتَّأكيدِ لَا غيرَ.
إنَّ مِنْ غرائزِ النَّفسِ الإنسانيَّةِ أنَّها تَرِدُّ بالمِثلِ علَى مَا يواجِهُهُ مِنْ إساءاتٍ منَ الآخرينَ ، وهي حالَةٌ مِنْ حالاتِ حفظِ الكَرامَةِ والعزّةِ، لكنَّهَا يَحصِلُ بِهَا إفراطٌ غالباً فتتحوّلُ إلَى حالةِ الثأرِ والانتقامِ؛ ولكنَّ الدَّينَ الإسلاميَّ يَحِثُّ علَى السَّيطرَةِ علَى غرائزِ النَّفسِ، خَصوصاً تلكَ الّتي تَقبَلُ الإنفلاتَ والتَّمرُّدَ، فجعلَ الإيمانَ لِجاماً ومَقوداً بهِ تسيرُ النَّفسُ بطريقٍ سليمٍ وآمنٍ، فلَا مانِعَ منْ كَفِّ النَّفسِ عنْ غريزةِ الرَدِّ علَى الإساءةِ، إذا كانَ في ذلكَ صَلاحَ الفَردِ والمُجتمَعِ، بلْ تلكَ طريقَةُ وسيرَةُ الأولياءِ المُخلصينَ، فَهُمْ يَترفعونَ عنِ الانقيادِ لِلرِّوحِ الإنتقاميَّةِ، ويتجاوزونَ ويعفونَ عنْ ظُلمِ الظّلَمَةِ في الوقتِ الّذي يتمكنونَ فيهِ مِنَ الإنتقامِ والرَدِّ بالمِثلِ، فإنَّ هذا بَحدِّ ذاتِهِ شجاعةٌ ؛ لأنّهُ ينبَعُ مِنْ موقعِ القوّةِ وليسَ منْ قبيلِ الضَّعفِ والاستسلامِ تجاهَ الظُّلمِ، بلْ ذلكَ دليلٌ علَى جُودِ وكَرَمِ المؤمنِ فضلاً عنِ المَنزلَةِ عنْدَ اللهِ يومَ القيامَةِ ،
فقدْ جاءَ في الخَبرِ المَرويِّ عنِ الإمامِ زينِ العابدينَ (عَلَيهِ السَّلام) أنّهُ قالَ :
( إِذا كَانَ يَومَ القِيامَةِ نادى مُنادٍ أَينَ أَهلُ الفَضلَ؟ فَيَخرُجُ عُنقٌ مِنَ النّاسِ. فَتَسأَلُهُم المَلائِكَةُ: وَما كَانَ فَضلُكُم؟ فَيَقُولُونَ: كُنّا نَصِلُ مَنْ قَطَعَنا ونُعْطى مَنْ حَرَمَنا ونَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَنا فَيقَولُونَ لَهُم: صَدَقْتُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ )، الكافي، الكليني: ج 3، ص149.
وَنَذكُرُ قِصَةً يَتَجَلَى العَفو فِيهَا بِأروَعِ مَعَانيهِ مِنْ سِيرَةِ العبدِ الصالحِ صَاحِبِ أميرِ المؤمنينَ(عَلَيهِ السَّلام) وقائدِ جيوشهِ مالكِ بنِ الحَارثِ النَّخعيِّ المَشهورِ بالأشتَّرِ ،
ﻛﺎﻥَ ﻣﺎﻟﻚُ ﺍﻟﺄﺷﺘَّﺮِ ﺭَﺣِﻤَﻪُ ﺍﻟﻠّﻪُ ﻣﺎﺭّﺍً ﻓﻲ ﺳﻮﻕِ ﺍﻟﻜُﻮﻓَﺔِ ﻭ ﻋﻠﻴْﻪِ ﻗﻤﻴﺺُ ﺧَﺎﻡٍ ﻭ ﻋﻤﺎﻣَﺔٍ ﻣِﻦْ ﺧﺎﻡٍ ﺃﻳﻀﺎً.. فرآهُ شخصٌ يغلِبُ عليْهِ الطَّيشُ فاحتقرَهُ لثيابِهِ العَاديَةِ هذهِ.. ورمَاهُ ببندقَةِ طِينٍ فلَمْ يلتفتُ إليهِ الأشتَّرُ ومَضَى.
فقيلَ لَهُ: هلْ تعرِفُ منْ رميتَ؟
قالَ: لَا.. قيلَ: هذا مالكٌ الأشتَّرِ صَاحبُ أميرِ المؤمنينَ (عَلَيهِ السَّلام)
وقدْ كانَ حديثُ مالكٍ بينَ النَّاسِ علَى كُلِّ شِفَّةٍ ولسانٍ.
فارتَعَدَ الرَجلُ، وتَبِعَ الأشتَّرَ ليعتذِرَ إليْهِ، فوجدَهُ قدْ دخلَ مَسجداً، وهو قائِمٌ يُصلي.
فلَمَّا فرغَ منْ صلاتِهِ وقعَ الرَجلُ علَى قدميهِ يقبلُهُمَا قائلاً للأشتَّرِ: أعتذرُ إليكَ مِمَّا صَنَعتُ.
قالَ الأشتَّرُ: ( واللهِ مادخلتُ المَسجِدَ إلَّا لأستغفرَ لكَ )، بحار الأنوار ، ج 42 ، ص 157.