بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورَحَمُةّ اللهِ وَبَرَكآتُهْ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورَحَمُةّ اللهِ وَبَرَكآتُهْ
الحد يثُ عنْ أسلوبِ عملِ الإمامْ عليِّ بنِ الحُسينِ زينِ العابدينَ(عَلَيْهِ السَّلام) وجهاتِ جهادِهِ و نضالِهِ . . فإنَّنَا لَا نستطيعُ في هذهِ العُجالَةِ . . أنْ نَلُمَّ بِكُلِّ جوانبِهَا و مجالاتِهَا ، فضلاً عنْ دقائقِهَا و تفصيلاتِها و لذلكَ فنحنُ نكتفي بالإشارةِ إلَى الأمرين التَالييَنِ:
الأوَّلُ : إنَّهُ بالإضافةِ إلَى أنَّهُ كانَ يوجُهُ الأمَّةَ منْ خلالِ سلوكِهِ وتصرفاتِهِ ومواقفِهِ . . فإنَّهُ كانَ أيضاً يوجهُ الأُمَّةَ منْ خلالِ أدعيتِهِ ، الّتي كانَ يضمنُهَا مختلفُ المَعارفُ الإسلاميَّةِ : عقائدياً ـ وهو الأهمُ ـ و سياسياً وأخلاقياً و غيرَ ذلكَ . . ولمْ يَكنْ بإمكانِ أحدٍ أنْ يعترضَ عليهِ ويقولُ لَهُ : لَا تَدعُ ربَّكَ . . فإنَّ ذلكَ سوفَ يكونُ مُستهجناً ومرفوضاً منْ كُلِّ أحدٍ . . حيثُ يرونَهُ ـ بحسبِ الظَّاهرِ ـ لَا يتعرضُ لِدُنيَا هؤلاءِ الحُكامِ ، وإنَّمَا شغَلَ نفسَهُ بعبادةِ ربِّهِ ، وتصفيةِ و تزكيَّةِ نفسِهِ..
و يظهرُ أنَّ الحُكامَ أنفسَهُم أيضاً قدْ اطمأنوا إلَى أنَّهُ (عَلَيْهِ السَّلام) ليسَ في صَدَّدِ التَّخطيطِ و العملِ ضَدَهُم ، ولَا يفكرُ في الخُروجِ عليْهِم ، فَراقَ لَهُم إنصرافِهِ عنْ دُنياهُم بلْ لقدْ أصبحَ لهُ عندَهُم مكانةً عظيمةً و احتراماً خاصاً لم يكنْ لأحدٍ منْ أهلِ البيتِ قبلَهُ ، و لَا كانَ لأحدٍ منهم بعدَهُ . . ولذلكَ تجدُ الثناءَ العاطرَ ينهالُ عليْهِ منْ كُلِّ جانبٍ و مكانٍ من قِبَلِ منْ تَرضَى عنْهُم الهيئةُ الحاكمَةُ ، وتعتبرَهُم منْ أعوانِهَا .
و لقدْ فاتَهُم : أنَّهُ كانَ في الظَّاهرِ يدعو اللهَ ، و لَكنَّهُ كانَ في واقعِ الأمرِ يدعو إلَى اللهِ ، و يوجِهَ نحوَهُ ، ويعرِّفَ النَّاسَ سبيلَهُ ، ويُضَمِّنَ كلامَهُ الكثيرَ منَ التَّعاليمِ الألهيَّةِ ، و المعارفِ الدِّينيَّةِ الّتي تَهمَهُم في أمرِ دينِهِم ودنيَاهم . . كمَا إتضَحَ ذلكَ جَليَّاً فيمَا بَعدُ . و أنَّهُ كانَ يقودُ عمليَّةَ التغيِّيرِ الشَّاملِ في بُنيَّةِ العَقيدَةِ للأُمَّةِ الإسلاميَّةِ بأسرِهَا .
الثَّاني : شِراؤهُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) لِلْعَبِيدِ وَمِنْ ثَمَّ عِتقُهُم بَعْدَ إِبْقَائِهم عِنْدَهُ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ يُشْرِفُ فِيهَا عَلَى تَعْلِيمِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ وِفقَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَتَزْوِيدِهِمْ بِالثَّقَافَةِ الرُّوحِيَّةِ اللَّازِمَةِ، حَيْثُ كَانَ (عَلَيْهِ السَّلامُ) يَغْرِزُ فِي نُفُوسِهِمُ الْأخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ وَالْقِيَمَ الْعَالِيَةَ الَّتِي كَادَ الْمُجْتَمَعُ الْإِسْلَامِيُّ أَنْ يَفْقِدَهَا آنَذاكَ لِما أَشَاعَهُ بَنو أُمَيَّةٍ مِنَ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ- أي: شِرَاءُ الْعَبِيدِ وَتَعْلِيمُهُمْ ثُمَّ عِتْقُهُمْ- مِنْهُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) تُمَثِّلُ فِي وَاقِعِهَا جَامِعَةً إِسْلَامِيَّةً عِلْمِيَّةً حَقِيقِيَّةً لَمْ تَقدِرِ السُّلْطَاتُ آنَذاكَ عَلَى مَنْعِهَا أَوِ الحَدِّ مِنْ نَشَاطِهَا وَتَأْثِيرِهَا، وَقَدْ كَانَ (عَلَيْهِ السَّلامُ) يُعْطِي لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ يَعْتقُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ يُعينُهُمْ عَلَى بَدْءِ حَيَاةٍ اِجْتِمَاعِيَّةٍ فَاعِلَةٍ وَهُمْ قَدْ تَخَرَّجُوا مِنْ مَدْرَسَةِ إمَامٍ مِنْ أئِمَّةِ أهْلِ الْبَيْتِ (عَلَيْهِمُ السَّلامُ)، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَدَدَ هَؤُلَاءِ قَدْ بَلَغَ خَمْسينَ أَلفاً، وَقِيلَ: مائَة أَلْفٍ. اُنْظُرْ: بِحارَ الْأَنْوَارِ، ج46،ص 104، 105.
و روى عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: ( أَنَّهُ دَعَا مَمْلُوكَهُ مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ أَجَابَهُ فِي اَلثَّالِثَةِ، فَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ، أ مَا سَمِعْتَ صَوْتِي؟». قال: بلى. قَالَ: «فَمَا بَالُكَ لَمْ تُجِبْنِي؟». قال: أمنتك. قَالَ: «اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي جَعَلَ مَمْلُوكِي يَأْمَنُنِي» ). كشف الغمة ج2 ص87.
و كان (عَلَيْهِ السَّلامُ) لا يضرب مملوكاً ، بل يكتب ذنبه عنده ، حتى إذا كان آخر شهر رمضان جمعهم و قررهم بذنوبهم ، و طلب منهم أن يستغفروا له الله كما غفر لهم ، ثم يعتقهم ، و يجيزهم بجوائز ، و ما استخدم خادماً فوق حول..
و قال السيد الأمين : " . وَ لَقَدْ كَانَ يَشْتَرِي السُّودَانَ وَ مَا بِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ حَاجَةٍ يَأْتِي بِهِمْ إِلَى عَرَفَاتٍ فَيَسُدُّ بِهِمْ تِلْكَ الْفُرَجَ وَ الْخِلَالَ فَإِذَا أَفَاضَ أَمَرَ بِعِتْقِ رِقَابِهِمْ وَ جَوَائِزَ لَهُمْ مِنَ الْمَالِ . " أعيان الشيعة ،ج 4 ،ص 468 .
و نحن نلاحظ هنا الأمور التالية:
أولاً : إنه يخاطب مماليكه بـ ( يا بني ) ، و كان يهدف إلى إعطاء النظرة الصحيحة للإسلام تجاه المماليك ، و أنه يعتبرهم بمنزلة الأخوة و الأبناء . . و إن الإسلام الذي يفرض على الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلامُ) أن يعامل مماليكه معاملة يأمنوه معها يختلف عن ذلك الإسلام الذي يدعيه الآخرون الذين يعتبرون الموالي أحقر و أذل من الحيوان.
و ثانياً : إن كتابة إساءاتهم ، ثم محاسبتهم عليها ، و عتقهم حينه إنما يهدف إلى تنبيههم إلى أخطائهم ، و ترسيخ ذلك في نفوسهم ، و لاسيما حينما تطرح كقضية حاسمة في أسعد لحظات حياتهم : اللحظات التي ينالون فيها حريتهم ، التي هي في الحقيقة هوية وجودهم ..
فهم إذن قد نالوا أعز ما في الوجود من غير استحقاق . . و في هذا ضغط نفسي من نوع معين ، ليحاولوا الارتفاع بأنفسهم إلى درجة الاستحقاق و الجدارة ، و يبعث في نفوسهم روح العمل الجاد في سبيل التكامل في الفضائل الإنسانية ، و الالتزام بالتعاليم الأخلاقية الإسلامية .
و ثالثاً : إن ذلك يجعل له ـ بشكل طبيعي ـ مكانة خاصة في نفوسهم و النظر إليه نظرة خاصة فيها كل الاحترام و التقدير ، و اعتباره نوعية أخرى ، تختلف عما يعرفون و يعهدون ، و هذا يؤهلهم في المستقبل إلى الاستماع إلى تعاليمه ، و احترام آرائه التي هي تعاليم و آراء الإسلام ، ثم السير على منهاجه و إتباع سلوكه..
و رابعاً : و أما إعطاؤهم المال في هذا الظرف بالذات . . فبالإضافة إلى أنهم يكونون عادة في أمس الحاجة إليه في هذا الظرف بالذات ، حيث لا يملكون فيه من حطام الدنيا شيئاً . . و يمنعهم بذلك من إتباع الأساليب الملتوية من أجل الحصول علي لقمة العيش فبالإضافة إلى ذلك هو يؤكد على إنسانية تعاليم الإسلام ، و إنه يعيش قضية الإنسان ، و يتفاعل معها ، و يهتم اهتماماً حقيقياً بحلها . . و لا يتاجر بآمال الناس و آلامهم و بكراماتهم كما هو شأن غيره ممن لم يعد أمرهم خافياً على أحد .
و خامساً : لقد كان من نتيجة هذه السياسة التي لا نجدها بهذا الشمول و السعة لدى غيره من الأئمة حتى علي (عَلَيْهِ السَّلامُ). . لقد كان من نتيجة ذلك أن صار الموالي يعتبرون أهل البيت عليهم السلام هم المثل الأعلى للإنسان و للإسلام ، و كانوا مستعدين للوقوف إلى جانبهم في مختلف الظروف ، و لا نعدم بعض الشواهد التي تظهر أن الموالي كانوا ينتصرون للعلويين إذا رأوهم تعرضوا لظلم أو لبغي من قبل السلطات . كما يظهر لمن راجع كتاب عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبة ، و غيره ..
و سادساً : و أخيراً : إن ذلك كان إدانة لمنطق الأمويين القائم على أساس تفضيل العربي و إعطائه كل الامتيازات ، و حرمان غيره منها بكل صورة ، و اعتباره أذل و أحقر من الحيوان حتى كان يقال : لا يقطع الصلاة إلا كلب أو حمار أو مولى ، و منعوهم من الإرث كما في موطأ مالك ، و من العطاء و من القضاء ، و من الولاية و إمامة الجماعة ، و من الوقوف في الصف الأول منها ، و اعتبر غير العربي ليس كفؤاً للعربية ، و أباحوا استرقاقهم ، و لا يسترق غيرهم . . إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه و استقصائه .
و إذا لاحظنا أن العرب قبل الإسلام لم يكن لهم شأن يذكر ، و لا كان لهم حكم و لا سلطان ، و إنما كان الحكام هم غيرهم . . فإن من الطبيعي أن ترضي هذه السياسة غرور العربي ، الذي أصبح يرى نفسه حاكماً على ملك الأكاسرة و غيرهم ، و ذلك ربما كان يزيده عنفاً و غلواً في معاملته القاسية لغير العرب ..
و من الجهة الأخرى . . فإن من الطبيعي أن يحس غير العرب بالغبن و بالمظلومية و عدم حفظ حقوقهم . . فكان هذا سبباً لتعاطفهم مع الدعوة العباسية التي تسببت في الإطاحة بالعرش الأموي . . و على الأخص حينما رأى غير العرب أنه لم ينصفهم و يعاملهم معاملة عادلة و حسنة إلا علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلامُ) ، ثم جاء السجاد (عَلَيْهِ السَّلامُ) و غيرهم من أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلامُ) ليعلن رفض الإسلام لمنطق الأمويين هذا القائم على أساس التمييز العنصري البغيض ، و أن هذا لا يمثل رأي الإسلام الصحيح ، و لا ينسجم مع منطلقاته في التعامل و التفضيل القائم على أساس العمل فقط : ﴿ ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... ﴾ سورة الحجرات ، الآية : 13 و : ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ سورة الزلزلة ، الآية : 7 و 8.
فكان كل ذلك . . قد هيأ الأجواء لتعاطف غير العرب مع الدعوة ضد الأمويين ، كما أنه في نفس الوقت قد خفف من غلوائهم وحقدهم . . و لهذا فإننا لا نجد تطرفاً كثيراً في معاملة غير العرب للعرب حينما حكموهم في الدولة العباسية في فترات متعددة . . و إن كان للظروف الخاصة الأخرى أثر كبير أيضاً في هذا المجال ..
و هكذا . . فإن علي بن الحسين(عَلَيْهِ السَّلامُ) قد قام بمهمّة شاقّة جدّاً وخطيرة جدّاً ، مهمّة بعث الإسلام في الأمّة من جديد ، في حين أنّه لم يكن يعترف بإمامته في وقت ما غير ثلاثة أشخاص ، وهيّأ الظروف والأجواء وأعاد العلاقات والروابط والصلات بين أهل البيت عليهم السلام وبين الأمّة رغم جهد الحكّام المستمرّ والمستميت لقطعها ، والقضاء عليها.
نعم . . لقد قلب كل الموازين رأساً على عقب كما أوضحناه بأسلوبه الحكيم ، و الهادئ الرصين . . (عَلَيْهِ السَّلامُ).
و يلاحظ : أنه قد فعل كل ذلك و نجح فيه أعظم النجاح ، بصورة متميزة و فريدة ، قد خفيت على الحكم ، و على كل أجهزته بصورة تامة و لعل ذلك هو ما يفسر لنا ما نجده مع اهتمامهم بإبراز عظمته (عَلَيْهِ السَّلامُ) ، و سعة علمه و فضله حتى من قبل المتعاطفين مع الحكم و الممالئين له ، حتى ليقول يحيى بن سعيد و الزهري : " ما رأيت قرشياً قط أفضل من علي بن الحسين ".
أعظم اللهُ لكم الأجر بشَهادَةِ مولانا الإمام زينِ العابدين (عَلَيْهِ السَّلامُ).