كان أبو الفضل (عليه السلام) أحدَ الأفذاذ العلويّين الذين لم تكن المفاخر مزايا زائدة على ذاتّياتهم وإنْ مُدحوا بآثارها لأنّهم زبدُ المخض، حازوا شرف النّبوَّة وفضيلة الخلافة، تتنضّد بهم جُملُ العلم، وتعتدل موازينُ العمل، وتترنّح بهم صهوات المنابر.
فكان سلام اللّه عليه مُتربّعاً على منصّة المجد، ومِلْءُ النّدي هيبة، ومِلْءُ العيون بهجة، ومِلْءُ المسامع ذكره الجميل، ومِلْءُ القلوب محبّة، وحشو أهابه علمٌ وعمل، وحشو الردى سؤددٌ وشرف.
وإنّ الإحاطة بما حواه من اليقين الثابت والبصيرة النّافذة بأحد طريقين:
الأوّل: سبر أحواله، ومواقع إقدامه وإحجامه، ومواضع بطشه وأناته، وموارد صفحه وانتقامه. ولا بدّ أنْ يكون المُنقّب عند ذلك مُميّزاً بين مدراج الرأي ومساقط الخطل، بصيراً بمراقي الحلم ومهاوي البطش.
والثاني: إخبار مَن وقف على ذلك بمباشرة وافية وعلم مُتّسع، تمّ شكلُهُ وظهر إنتاجُهُ، أو تعليم إلهي، أو أخذ عمّن له صلة بذلك التعليم.
وغير خفيٍّ أنّ قمر بني هاشم مُلتقى ذينك الطرفين، في البصيرة واليقين، في دينه وعقله، في معارفه وأخلاقه، في حلّه وارتحاله، وكان ينظر إلى جملة الأحوال بين البصيرة التي تخرق الحُجب، وتُبصر ما وراءها من أسرار وخبايا، لا بناظر البصر الذي تحجبه الحواجز وتمنعه السّدول، فيردّ عن الإدراك خاسئاً، فلا يكون أمر تهالك دونه إلاّ بعلم ثابت ويقين راسخ، وإيمان لا يشوبه شكٌّ؛ فإنّه:
سِرُّ أبيهِ وهَو سرُّ البَاري
مَلِيكُ عَرْشٍ عَالِمُ الأسرارِ
وارِثُ مَن حَازَ مَواريِثَ الرُسلْ
أبَو العُقُولِ والنّفُوسِ والمُثُلْ
وكَيفَ لا وَذاتُهُ القُدْسيَّهْ
مَجمُوعةُ الفَضائِلِ النّفسيَّهْ
لقد كان أبو الفضل يعرف العراقيّين ونزعات أهل الكوفة، منذ عهد أبيه وأخيه السّبط المجتبى عليهما السلام، بالتجارب الصحيحة، وإنّهم تجمعهم الأماني وتُفرّقهم الرضائخ، ويُشاهد الاُمويِّين وقوّة سلطانهم، وتوغّلهم في إراقة الدماء، وبطشهم في النّاس، وطيشهم في الاُمور، ويرى ضعف جانب (أبيِّ الضيم (عليه السلام) وقلّة أنصاره، وطبع الحال يحدو مثله إلى التحيّز إلى فئة اُخرى، ولا أقلّ من التقاعد عن أيّ الفريقين، وما كان مثله لو سالم الاُمويِّين يعدم ولاية أو قيادة لجيوشهم، أو عيشة راضية يقضي بها أيّامه.
(لكنّ عباس اليقين) لم يكن له طمعٌ في شيء من حطام الدُّنيا، فلم يرقه إلاّ الالتحاق بأخيه سيّد الشهداء (عليه السلام)، موطِّناً نفسه الكريمة لأي كارثة أو شدّة مؤلمة.
هذا والتَّكهّن بمصير أمر الحسين (عليه السلام) في مسيره نصب عينه، والمغّيبات المأثورة عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين (عليه السلام)، والمسموعات من أخويه الإمامين عليهما السلام مِلْءُ اُذنه، فلم يبرح مع أخيه الشهيد (عليه السلام) يفترع ربوةً ويسفّ إلى وادٍ، لا يرى في هاتيك الثنايا والعقبات إلاّ تصديقاً لما عرفه، ويقيناً بمنتهى أمره وغايته حتّى بلغهم نبأُ فاجعة مسلم بن عقيل، فعرف القوم انثيال الكوفيّين عن الحقِّ ورضوخهم إلى حكم الطاغية، هنالك خارت العزائم وأخفقت الظنون، وطفق أهل المطامع والشره يتفرّقون عن السّبط المُقدّس، يميناً وشمالاً (1)، إلاّ مَن حداهم إلى المسير حقُّ اليقين، وفي الطليعة منهم سيّدنا العبّاس (عليه السلام)؛ فإنّه لم يزدد إلاّ بصيرة في النّهضة الكريمة، وسروراً باُزوف الغاية المتوخّاة.
فسار به وبهم (شهيد العظمة)، وهو لا يشاهد، كما أنّهم لا يرون كُلّما قربوا من الكوفة إلاّ تدبّر النّاس وتألبّهم عليهم، وتتوارد عليهم الأنباء بما هو أشدّ، لكن لم يثنِ ذلك من عزائمهم شيئاً ولا يكدي أملاً، بل كانوا يخفّفون الخُطا ويُسرعون السّير؛ لينتهوا إلى معانقة الرماح ومصافحة الصفاح، أكثر ممّا يُسرع الصبُّ إلى الخود الرداح، ومرشدُهم إلى ذلك بعد إمام الهدى (عليه السلام) (أبو الفضل).
رَكبٌ حِجَازيِّوُنَ بَينَ رِحَالِهم
تَسرِي المَنَايَا أنجَدُوا أو أتهَمُوا
يَحدُونَ فِي هَزجِ التِّلاوةِ عَيسَهمْ
والكُلُّ فِي تَسَبِيحِهِ يَترَنَّمُ
حديث الصادق عليه السلام
إنّ ما يتعرّف منه منزلة أبي الفضل العالية، وإثبات الخصال الحميدة له، إخبارُ أئمّة الدِّين العارفين بضمائر العباد وسرائرهم، الواقفين على نفسيّات الاُمّة على كَثَب بتحقّقها فيه، وقد عبثت أيدي التلف في أكثرها، فإنّ الصدوق يُحدّث في الخصال ج 1 ص 35، بعد ذكره حديث السجّاد عليه السلام في فضل العبّاس، أنّه أخرج الخبر بتمامه مع أخبارٍ في فضائل العبّاس في كتاب مقتل الحسين عليه السلام.
وظاهره أنّ هناك أخباراً كثيرة في فضل أبي الفضل زويت عنّا ككتابه المقتل، ولا غرو، فلقد اندثر بتعاقب الحوادث الكثير من المؤلّفات.
وكيف كان، فلعلّ من تلك الأخبار ما رواه في عمدة الطالب، عن الشيخ الجليل أبي نصر البخاري النّسّابة، عن المُفضّل بن عمر، أنّه قال: قال الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام: «كان عمُّنا العبّاسُ بنُ عليٍّ نافذَ البصيرة، صلبَ الإيمانِ، جاهدَ مع أبي عبد اللّهِ وأبلى بلاءً حَسَناً، ومضى شهيداً» (2).
وكذلك قوله عليه السلام فيما علّم شيعته أنْ يُخاطبوه به من لفظ الزيارة المروريّة بسند صحيح مُتَّفق عليه؛ فإنّه عند التأمّل فيما خاطبه به الإمام العارف بأساليب الكلام ومقتضيات الأحوال، تظهر لنا الحقيقة، ونعرف منزلةً للعبّاس سامية لا تُعدّ ومنزلة المعصومين عليهم السلام، فقال عليه السلام في صدر سلام الإذن:
«سلامُ اللّهِ، وسلامُ ملائكتهِ المُقرّبين وأنبيائِهِ المُرسَلين، وعباده الصالحين، وجميعِ الشُّهداء والصّدّيقين، الزَّاكيات الطَّيّبات، فيما تغتَدي وتروحُ عليكَ يابنَ أميرِ المُؤمنين».
ثُمّ قال عليه السلام: «أشهد لك بالتسليم والتصديق، والوفاء والنّصيحة لخلف النّبي المرسل».
ها هنا أثبت لأبي الفضل منزلة التسليم التي هي من أقدس منازل السّالكين، وفوق مرتبة الرضا والتوكّل؛ فإنّ أقصى مرتبة الرضا أنْ يكون محبوب المولى سبحانه محبوباً له، موافقاً لطبعه، فالطبع ملحوظ فيه.
وأقصى مراتب التوكّل أنْ يُنزل نفسه بين يدي المولى سبحانه وتعالى منزلة الميّت بين يدي الغاسل، بحيث لا إرادة له إلاّ ما يفعله الغاسل به، فصاحب التوكّل مسلوب الإرادة، وأمّا صاحب التسليم فلا يرى لغير اللّه وجوداً مع اللّه فضلاً عن نفسه، ولا يكون له طبعٌ يوافق أو يخالف في الإرادة، أو نفساً قد تنفّست بالإرادة، فهو قريب من عالم الفناء.
وهذه المرتبة فوق مرتبة التوكّل، التي هي فوق مرتبة الرضا، لا تحصل إلاّ بالبصيرة النّافذة، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين، تلك المرتبة التي أخبر عنها أمير المؤمنين عليه السلام: «لو كُشِف الغطاءُ ما ازدَدتُ يقيناً».
أمّا العناوين الثلاثة، وهي: التصديق، والوفاء، والنّصيحة، فلا شكّ أنّ الإمام عليه السلام يُريد أنّ أبا الفضل في أرقى مراتبها؛ لانبعاثها عن التسليم وهو حقّ اليقين؛ فإنّه المناسب لتصديقه بأخيه الحجّة، وبنهضته في ذلك الموقف الحرج، وهكذا وفاؤه ونصيحته؛ فإنّ وفاء شخص لآخر كما يُمكن أنْ يكون لأجل الاُخوّة والرحم والصحبة، يمكنْ أنْ يكون لأجل المعرفة التامّة بما أوجب اللّه له من الحرمة والحقّ على الاُمّة.
* مقتطف من كتاب (العباس) لمؤلفه السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم
...............................
(1) اللهوف في قتلى الطفوف / 45.
(2) عمدة الطالب لابن عنبة / 356، مقتل الحسين لأبي مخنف / 176. الأنوار العلويّة للنقدي / 442.