بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
اٰللـــٌٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْمُ عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
قَالَ أميرُ المؤمنينَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ( فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى، وسِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَزَنْدٌ بَرَقَ لَـمْعُهُ; سِيرَتُهُ الْقَصْدُ، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وَكَلاَمُهُ الْفَصْلُ، وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ; أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَترَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ، وَغَبَاوَةٍ مِنَ الأُمَمِ )، نهجُ البَلاغَةِ، 183.اٰللـــٌٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْمُ عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
بصيرةُ مَن اهتدى: لأنَّ النَّبيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) قد أدّى الرسالةَ التي أمره اللهُ عزَّ وجلَّ ببيانِها للنِّاسِ، يَقولُ الإمامُ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فهو ( بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً، ونَصَحَ لأُمَّتِهِ مُنْذِراً، ودَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً، وخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً)، نهجُ البَلاغَةِ، 162، ولِذا كانَ العملُ بأوامِرِهِ والإلتزامُ باجتنابِ مَا نَهَى عَنْهُ، مِفتاحَ البصيرةِ للإنسان .
البَصيرَةُ هَي البَيِّنَةُ الّتي يَهتدي الإنسانُ بِسبَّبِهَا و هَي آلةُ التَّمييِزِ بينَ الحَقِّ و البَاطِلِ و جَمْعَهَا "بَصَائِرُ" قالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: ﴿ هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾،سُورَةُ الجَاثيَةِ ، الآية 20.
وَالبَصيرَةُ نُورٌ في قَلبِ الإنسانِ المؤمنِ ورؤيَةٌ ثَاقِبَةٌ و نَافذَةٌ تَصِلُ إلَى بَواطِنِ الأمورِ و حَقائقِهَا ولَا تَتوقَفُ عِنْدَ الظَّواهرِ الّتي قدْ لَا تَعكِسُ الحَقائِقَ و البَواطِنَ، بَلْ قَدْ تَكونُ الظَّواهرُ مُخالِفَةً تَماماً لِلبواطِنِ و الحَقائِقِ، فَكَمْ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَهُ المَقدِرَةُ عَلَى رؤيَةِ الأشياءِ بِشِكْلِهَا الظَّاهريِّ و ألوانِهَا الظَّاهريَّةِ لَكنَّهُمْ لَا يَهتدونَ إلَى حَقيقتِهَا البَاطنيَّةِ كَمَا لَا يَتمكنونَ منْ تَشخيصِ خواصِّ هذهِ الأشياءِ و تَأثيراتِهَا الإيجابيَّةِ أو السَّلبيَّةِ أبداً لأنَّهم يَفتقدونَ الآلياتِ الّتي تُمَكِّنَّهُم مِنْ ذلكَ .
و قدْ رُويَ عنْ الإمامِ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنَّهُ قالَ: ( إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إِنَّمَا مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ، مَا أَلْيَنَ مَسَّهَا وَفِي جَوْفِهَا السَّمُّ النَّاقِعُ، يَحْذَرُهَا الرَّجُلُ الْعَاقِلُ وَيَهْوِي إِلَيْهَا الصَّبِيُّ الْجَاهِلُ )، وسائل الشيعة، 16 ، 17.
وَالبَصيرَةُ موهبَةٌ إلهيّةٌ و مَلَكَةٌ تَحصُلُ لَدَى الإنسانُ البَصيرُ بِفعلٍ مَعنوىٌّ و توفيقٌ رَبَانِيٌّ، و رَغَمْ تَسمِّيَةُ الإنسانِ الّذي يَتمتَعُ بِقُدرَةِ الإبصارِ بَصيراً إلَّا أنَّ البَصيرَ هو مَنْ يتمتَّعُ بالبَصيرَةِ، و البَصيرَةُ مَرتِبَةٌ أعلَى مِنَ الإبصارِ بالعينِ، لِذا نَجْدُ الإمامَ أميرَ المؤمنينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقولُ: ( ذَهَابُ الْبَصَرِ خَيْرٌ مِنْ عَمَى الْبَصِيرَةِ )، غُرَرُ الحِكَم و دُرَرُ الكَلِم : 370.
و قَالَ أميرُ المؤمنينَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ( فَقْدُ الْبَصَرِ أَهْوَنُ مِنْ فِقْدَانِ الْبَصِيرَةِ )، غُرَرُ الحِكَم و دُرَرُ الكَلِم : 481.
وَ قَالَ أميرُ المؤمنينَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ( نَظَرُ الْبَصَرِ لَا يُجْدِي إِذَا عَمِيَتِ الْبَصِيرَةُ )، غُرَرُ الحِكَم و دُرَرُ الكَلِم : 720.
وَمِنْ لَفظِ "البَصيرَةُ" نَشأَ إصْطِلَاحُ "أهلُ البَصائِرِ" الّذي إستَعمَلَهُ أميرُ المؤمنينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بَيانَاتِهِ، فَفي نهجِ البَلاغَةِ وَرَدَ أنّ أميرَ المؤمنينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خاطب معاوية بن أبي سفيان: ( وَأَرْدَيْتَ جِيلاً مِنَ اَلنَّاسِ كَثِيراً خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ وَأَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ تَغْشَاهُمُ اَلظُّلُمَاتُ وَتَتَلاَطَمُ بِهِمُ اَلشُّبُهَاتُ فَجَازُوا عَنْ وِجْهَتِهِمْ وَ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَ تَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ وَعَوَّلُوا عَلَى أَحْسَابِهِمْ إِلاَّ مَنْ فَاءَ مِنْ أَهْلِ اَلْبَصَائِرِ فَإِنَّهُمْ فَارَقُوكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِكَ وَهَرَبُوا إِلَى اَللَّهِ مِنْ مُوَازَرَتِكَ إِذْ حَمَلْتَهُمْ عَلَى اَلصَّعْبِ وَ عَدَلْتَ بِهِمْ عَنِ اَلْقَصْدِ فَاتَّقِ اَللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ فِي نَفْسِكَ وَ جَاذِبِ اَلشَّيْطَانَ قِيَادَكَ فَإِنَّ اَلدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْكَ وَ اَلْآخِرَةَ قَرِيبَةٌ مِنْكَ وَاَلسَّلاَمُ )، نهج البلاغة ، ج1، ص406.
تَنْقَسِمُ الهِدايَةُ في القرآنِ الكَريمِ إلَى نوعينِ رئيسيَّينِ، الأوَّلُ هو الهِدايَة التَّكوينيَّة، والثَّاني الهِدايَةُ التَّشريعيَّةِ، والهِدايَةُ التَّكوينيَّةِ هي تَجهيزُ المَخلوقَ وتزويدَهُ بِمَا يُوصِلُهُ لِلهَدَفِ الّذي خُلِقَ مِنْ أجلِهِ، فنحنُ نَعْلَمُ أنّ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى خَلَقَ المخلوقَاتِ لِغايَةٍ وهدَفٍ، فلَا يُتصَورُ ولَا يُمكنْ أنْ يكونَ هُناكَ شيءٌ خَلَقَهُ تَعالَى مِنْ دونِ هدفٍ وغايَةٍ وحِكمَةٍ مِنْ خَلْقِهِ، لأنَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ مُنزّهٌ عَنْ العَبثيَّةِ واللَّهو واللَّعبِ، قَالَ اللهُ تَعالَى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾، سُورَةُ الأنْبيَاءِ، الآية: 16، فَكُلُّ مَخلوقٍ خُلِقَ لِغايَةٍ وهدفٍ، والهِدايَةُ التَّكوينيَّةِ هَي تزويدُ هذهِ المَخلوقاتِ بأجهزَةٍ وغرائِزٍ أو يُلهِمُهَا سُبحانَهُ وتَعالَى بإلهاماتٍ أو يوحي إليهَا بإيحاءاتٍ، وعنْ طَريقِ ذلكَ تَسلُكُ طَريقَهَا في الوصولِ إلَى هدفِهَا وغايتِهَا المَنشودَةِ الّتي خُلِقَتْ مِنْ أجْلِهَا، وهذهِ الهِدايَةُ عَامَةٌ تَشمِلُ كَافَةِ المَخلوقاتِ، وقدْ صَرّحَ الحَقُّ بذلكَ في قولِهِ تَعالَى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴾، سُورَةُ الأعلَى ، الآية: 2 و 3، و قولِهِ تَعالَى: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ﴾، سُورَةُ طه ، الآية: 50.
وأمّا الهدايَةُ التَّشريعيَّةِ فَهَي إراءةُ طريقِ السَّعادَةِ والدَّعوَةِ إليهِ، وتبيَانُ طريقِ الهَلاكِ والغوايَةِ والتحذيرِ مِنْهُ، فَهَي هدايَةٌ خَاصَةٌ بالموجودِ العَاقلِ المُدرِكِ، مُفَاضَةٌ عليْهِ بواسطَةِ عواملٍ خَارجيّةٍ عنْ ذاتِهِ، وذلكَ عنْ طريقِ الأنبياءِ والرُّسلِ وأوصيائِهِم والكُتبِ السَّماويَّةِ والعُلماءِ والمُصلحينَ وغيرِ ذلكَ، ومِنْ أمثلتِهَا في القرآنِ الكريمِ قولِهِ تَعالَى: ﴿ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾، سُورَةُ البَقَرَةِ ، الآية: 2، فَهدايَةُ القرآنِ الكريمِ المُشَارِ إليهَا في هذهِ الآيةِ هَي مِنْ سِنْخِ الهدايَةِ التَّشريعيَّةِ
وهُناكَ هِدايَةٌ تُعرَفُ بالهدايَةِ التَّوفيقيَّةِ، وهَي مِنْ أقسامِ الهِدايَةِ التَّكوينيَّةِ، وهَي فَيضٌ مِنَ اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى يفيضَهُ علَى العبدِ الّذي إهتَدَى بِالهدايَةِ التَّشريعيَّةِ، وهَي - أي الهدايَةُ التَّوفيقيَّةِ - مَزيدٌ مِنَ التَّوفيقِ مِنَ اللهِ لِلعبدِ يُنوّرُ بِهَا قَلبَهُ الّذي يَطوي مَسيرَةَ الكَمالِ لِلوصُولِ إليهِ سُبحانَهُ، فَيُبصّرَهُ اللهُ سُبحانَهُ بحقائقِ الأمورِ ، وهَي قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ﴾، سُورَةُ الأحزابِ ، الآية 22.
فَالمُهتدونَ بِالهدايَةِ التَّشريعيَّةِ، ونتيجَةً لإختيارِهِم طَريقَ الهِدايَةِ وإبتعادِهِم عنْ طريقِ الضَّلالِ والغِوايَةِ ولِتَقيّدِهِم عقيدةً وعملًا بدينِ اللهِ الحَنيفِ يكونونَ في مَعرضِ المَزيدِ منَ اللُّطفِ الإلهيِّ، فَيَهَبَهُم الحَقُّ سُبحانَهُ المَزيدَ مِنَ الهِدايَةِ ويُظهِرَ لَهُم مِنَ البَراهينَ والأدلّةِ مَا يزيدُ في إيمانِهِم ويُرَسِّخَ مِنْ يَقينِهِم، وبِهذا يَرتقونَ شَيئًا فَشَيئًا في مَراتِبِ الكَمَالِ والقُرِبِ الإلهيِّ .
وَهؤلاءِ المُهتدونَ بعدَ إجتِمَاعِ الهِدايَةِ مَعَ البَصيرَةِ وَهَي البَيِّنَةُ الّتي يَهتدي الإنسانُ ، وَالنُورُ في قَلبِهِ ، والمَوهبَةُ الإلهيّةُ يَكونُ الرَّسولُ بَصِيرَتَهُ وَطَريقَ الهُدَى المُوصِلُ إلى الحَقِّ والشَّفيعَ لَهُ يومَ القِيامَةِ والجِوارَ المُستأنِسُ بِصحبَتِهِ في دَارِ الخُلُدِ .