بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
اٰللـــٌٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْمُ عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
اٰللـــٌٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْمُ عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
قَالَ الإمامُ عليّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عَنْ البِعثَةَ النَّبويَّةِ :- ( فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَتَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَيُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَلَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ )، نهج البلاغة ، الخطبة 192 ، بحار الأنوار ، ج14، ص472،ح37.
إنَّ أهَمَّ نُقطَةٍ نُلاحظَهَا في المَقطوعَةِ أعلاهُ ، أنَّ الرِّسالَةَ والبِعثَةَ النَّبويَّةِ ألَّفَتْ بينَ قُلوبِ النَّاسِ وذّلكَ لقَولِهِ تَعَالَى في القُرآنِ الكريمِ: ﴿ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾، سُورَةُ آلِ عِمرَانَ، الآية : 103، لأنَّ المُشكلَةَ الّتي لَاحظنَاهَا عِبْرَ التَّاريخِ، تؤكِدُ بأنَّ كُلَّ الأزماتِ والمُعانَاةِ تنشَأُ مِنَ الصِّراعاتِ والفِتَنِ بينَ النَّاسِ، وهذهِ الصِّراعاتِ والفتنِ تَستنزِفُ كُلَّ المَواردِ الإنسانيَّةِ، وتجعَلُ الإنسانَ في حَالَةٍ عَدميَّةٍ منَ اليأسِ والإحباطِ والبؤسِ، لِذلكَ فإنَّ تآلفَ القلوبِ هو الطَّريقُ الّذي يقودُ البَشريَّةَ نَحو العِّزَةِ والكَرامَةِ، ونَحو السَّعَادَةِ والأمَلِ والقُّدرَةِ علَى الحيَاةِ .
وَلَو تَوقفنَا قليلاً عِنْدَ بِعثَةِ الرَّسولِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، فقدْ كانَ المُجتمعُ جَاهليَّاً وَلَا يَرتقي للإنسانيَّةِ، نعمْ رُبَّمَا هُناكَ بعضُ القِيَمِ موجودةٌ كالشُّجاعَةِ والكَرَمِ وغيرِ ذلكَ، لكنْ هذهِ القِيَمِ لَمْ تَكُنْ قَادِرَةٌ علَى تَطويرِ المُجتمَعِ، بلْ مِنْ أجلِ إظهارهَا أمامَ المَلأِ والتَّفاخرِ بِهَا، كأنْ يقولُ أنَا شُجاعٌ أو أنَا كريمٌ .
بينَمَا عندمَا جاءَ الرَّسولُ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) جَعلَ هذه القِيَمِ تكامليَّةً، بإمكانِ الإنسانُ أنْ يَرتقي ويسمو بِهَا، وقدْ إستطاعَ الرَّسولُ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) توظيفَ هذهِ الأخلاقُ والمَكارِمُ وجَعْلهَا في إطارِ المَسارِ الإلهيِّ والرَّحمَةِ الشَّاملَةِ .
إنَّ أهَمَّ نُقطَةً في منظومَة القِيَمِ، وأساسَ الهَرَمِ ومَنبَعَ الشَّلالِ والمَاءِ الزَّلالِ الطَّاهرِ، هي الرَّحمَةُ العَظيمَةُ الّتي هيَ أساسُ الأخلاقِ الانسانيَّةِ، ولذلكَ يقولُ القرآنُ الكريمُ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ لانفضوا من حولك ﴾، سُورَةُ آلِ عِمرَانَ، الآية :159.
وهذا هو الأساسُ الّذي تَنبعِثُ مِنْهُ كُلُّ القِيَمِ الأُخرَى ولَا يُمكنُ تَجزئَةُ قِيمَةٍ عَنْ قِيمَةٍ أُخرَى، فَلَابُدَّ أنْ تكونَ هُناكَ رَحمَةٌ تُؤطّرُ هذهِ القِيَم .
فَبعثَةُ نَبيّنَا مُحَمَّدٍ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) تكونُ أكبرُ نعمَةٍ للبَشريّةِ الّتي تَنفي عَنْهُم مَا كانوا عليهِ سَابقاً منَ الظُّلمِ والعُدوانِ وأنَّهُ موجبٌ لِهدايتِهِم وإرشَادِهِم وتعليمِهِم و ... كمَا دَلَّ عليهِ قولُهُ تَعالَى : ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾، سُورَةُ الجُمعَةِ الآية : 2.
وتعبيرُ « الضَلَالُ المُّبِينُ » إشارَةٌ مُختصرَةٌ مُعبّرَةٌ إلَى سَابقَةِ العرَبِ ومَاضيِهِم الجَّاهليِّ في عبادَةِ الأصنَامِ.
وأيُّ ضَلالٍ أوضَحَ وأسوأَ مِنْ هذا الضَّلالُ الّذي يُعبِّدُ فيهِ النَّاسُ أحجاراً وأخشاباً يصنعونَهَا بأنفسِهِم ويلجؤونَ إليهَا لِحَلِّ مَشاكلِهِم وإنقاذِهِم مِنَ المُعضلاتِ ،
يدفنونَ بَناتِهِم وهُنَّ أحياءَ ثُمَّ يتفاخرونَ بِكُلِّ بَساطَةٍ بِهذا العَمَلِ قائلينَ: إنّنَا لَمْ نَدَعْ ناموسنَا وعرضنَا يقعُ بيدِ الأجانبِ ،
كانتْ صَلاتُهُم ودعاؤهُم عبارةً عَنْ تصفيقٍ وصياحٍ إلَى جانبِ الكَعبَةِ، وحتّى النَّساءَ كُنَّ يَطفْنَّ حولَ الكَعبةِ وهُنّ عُراةٍ تَمامَاً، ويحسبونَ ذلكَ عَبادَةً ،
كانتْ تُسيطِرُ علَى أفكارِهِم مَجموعَةٌ مِنَ الخُرافاتِ والأوهامِ، وكَانوا يتفاخرونَ ويتباهونَ بِالحَربِ ونزفِ الدِّماءِ والإغارَةِ علَى بَعضِهِم البَعضِ.
وَالمرأةُ كانتْ تُعَدُّ بضاعَةً لَا قيمَةَ لَهَا عندَهُم، يلعبونَ عليهَا القمَارَ، ويحرمونَهَا مِنْ أبسَطِ الحُقُّوقِ الإنسانيَّةِ ، كَانوا يتوارثونَ العَداوةِ والبَغضَاءِ، ولِهذا أصبحتْ الحروبُ وإراقَةُ الدِّماءِ أمراً عَادياً لَديهِم ،
نَعمْ لقدْ جاءَ الرّسولُ وأنقذَهُم ـ بِبَرَكَةِ الكِتابِ والحِكمَةُ مِنْ هذا الضَّلالِ والتَّخبّطِ وزكّاهُم وعلّمَهُم. وحقّاً إنّ تربيةَ وتغييرِ مِثْلَ هذا المُجتمعِ الضَّالِّ يعتَبِرُ أحَدَ الأدلّةِ علَى عظمَةِ الإسلامِ ومَعاجِزِ نبيّنا العظيمِ .
بَعثَ اللهُ تباركَ وتَعالَى النَّبيَّ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بعدَ عامِ الفيلِ بأربعينَ عامًا، أيْ حينمَا بلَغَ الأربعينَ مِنْ عُمرِهِ الشَّريفِ، وكانَ قبلَ ذلكَ يَسمَعُ الصَّوتَ ولَا يَرَى الشَّخصَ حتّى تَراءى لَهُ جبرائيلُ وهو في سِنِّ الأربعينَ .
وكانتْ البِعثَةُ النَّبويّةُ في السَّابعِ والعشرينَ منْ شهرِ رجبٍ، وهيّأ اللهُ تَعالَى النَّبيَّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) لتلقّي الوحيَ القرآنيّ: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلً ﴾، سُورَةُ المُزَّمِّلِ ،الآية 5.
ثُمَّ بَدأ نزولُ القرآنِ عليهِ تدريجيًّاً في شَهرِ رَمضانَ المُباركِ، وقدْ نَزلَتْ عليهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) حقَّائقُ القرآنِ ومعانيهِ دفعَةً واحدةً ثُمَّ صَارَ يَنزلُ عليهِ تدريجيًّاً، سُورَةً سُورَةً، ثُمَّ صَارَتْ تَتوالَى الأحداثُ فينزلُ جبرائيلُ عَليهِ بالآياتِ المُرتبطَةِ بِهَا في السُّورِ الّتي كانتْ قدْ نَزلَتْ دُفعَةً واحدةً قبلَ ذلكَ.
وَمِنَ المعلومِ أنَّ بِدءَ الوَحي كانَ في غارِ حِراءِ، وكانَ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَتعبّدُ في ذلكَ الغارِ، وقدْ ذكرَ المُؤرّخونَ وكتَّابُ السِّيرَةِ الكثيرَ مِنْ القَضايَا المُرتبطَةِ بطريقَةِ نزولِ الوحي، ومِنْهَا أنَّ جبرائيلَ عَصَرَهُ ثلاثَ مرّاتٍ ، وغيرَ ذلكَ مِنَ الإسرائيلياتِ وَالخُرافاتِ والمَوضوعَاتِ، وأنَّهُ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) رجعَ عندمَا نَزَلَ عليهِ الوحيُ، خائفًا يرتجِفُ وأنَّ خديجةَ (عَلَيْهِا السَلَامُ) قدْ أخذتْهُ إلَى ورقةِ بنِ نوفلِ النَصرانيّ، فأخبرَهُ بأنَّ مَا يراهُ هوَ المَلاكُ؛ ولكنَّ الواقعَ كانَ غيرُ ذلكَ تمامًا إذ أنَّ النُصُّوصَ التَّاريخيّةِ تُشيرُ إلَى أنَّهُ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بَعدَ نُزولِ الوَحي عليهِ رجعَ إلَى أهلِهِ مُستبشرًا مَسرورًا بِمَا أكرمَهُ اللهُ بِهِ، مُطمئنًّا إلَى المُهمّةِ الّتي أوكلَهَا اللهُ بِهَا وَقَدْ ذكَرتْ رواياتٍ عَديدةٍ مِنْهَا :-
عَنْ زُرَارةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عَلَيْهِ السَلَامُ): كَيْفَ لَمْ يُخِفْ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فِيمَا يَأْتِيهِ مِنْ قِبَلِ اللهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَنزَغُ بِهِ الشَّيْطَانُ؟
قَالَ: فَقَالَ (عَلَيْهِ السَلَامُ): ( إِنَّ اللهَ إِذَا اتَّخَذَ عَبْداً رَسُولاً أَنْزَلَ عَلَيْهِ السَّكِينَةَ وَالوَقَارَ، فَكَانَ يَأْتِيهِ مِنْ قِبَلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) مِثْلَ الَّذِي يَرَاهُ بِعَيْنِهِ )، بِحَارُ الأَنْوَارِ ج18ص262.