الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1).
والبحث يقع بإذن الله تعالى في محورين: محور الإحسان ومحول العدل:
المحور الأول: الإحسان كشرط من شروط الغفران:
سبق ان الإحسان شرط من شروط قبول الأعمال الصالحة والطاعات الواجبة، وان أ- (المثوبة) عليها متوقفة على الإحسان إلى الخلق أو إلى النفس بالإتقان والإخلاص وحضور القلب وغير ذلك، ب- كما ان (القرب) لدى الله تعالى يتوقف على الإحسان للناس والنفس، ج- وكذا محبته سبحانه وتعالى فهذه ثلاثة أمور يُفسَّر بها القبول أو تُعدّ من آثاره، ولا مانعة جمع بينها فإذا أردت ان تحظى بالقرب لدى الله تعالى، وبمحبته ومثوبته، فعليك بالإحسان إلى الناس وإلى النفس.
ونضيف: ان المستفاد من بعض الآيات الكريمة والروايات الشريفة ان الإحسان من أسباب الغفران وانه شرط، ولو على سبيل البدل، من شروط الغفران، بل يستفاد من بعض الروايات ان الإحسان شرط الغفران وانه من دونه لا يحظى العبد بمغفرة ذنوبه ومعاصيه:
(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)؟
أما الآيات الكريمة فمنها: قوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)(2) وهي ظاهرة في سببّية العفو والصفح عن الآخرين فيما إذا أساءوا إليك وظلموك، لمغفرة الله تعالى لك وتجاوزه عن ذنوبك وصفحه عن معاصيك، وهذا يعني ان الإنسان إذا ارتكب معصية كبيرة، كالكذب والغيبة وأشباههما، أو صغيرة، فانه إذا أراد ان يغفر الله تعالى له فعليه بالإحسان إلى أخيه أو زوجته أو قراباته أو جيرانه أو زملائه أو شركائه أو موظفيه، من غير فرق بين ان يكون الإحسان على شكل هدية لطيفة أو جائزة طريفة أو كلمة طيبة أو قرضٍ تسدّده أو طعام تطعمه أو إنقاذه من يد ظالم أو إنجاده من عدو غاشم أو إصلاح بينه وبين من اختلف معه وشبه ذلك.
الإمام السجاد (عليه السلام) بين غِلمانه
ولئن كانت الآية الكريمة ظاهرة في السببية فان الرواية الآتية صريحة في دلالة الآية الكريمة على السببية فقد روى في تفسير الصافي: في المناقب عن السجاد (عليه السلام) (وَكَانَ (عليه السلام) إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ يَكْتُبُ عَلَى غِلْمَانِهِ ذُنُوبَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ دَعَاهُمْ ثُمَّ أَظْهَرَ الْكِتَابَ وَقَالَ: يَا فُلَانُ فَعَلْتَ كَذَا وَلَمْ أُؤْذِكَ، فَيُقِرُّونَ أَجْمَعُ، فَيَقُومُ وَسْطَهُمْ وَيَقُولُ لَهُمْ: ارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ وَقُولُوا يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ رَبُّكَ قَدْ أَحْصَى عَلَيْكَ مَا عَمِلْتَ كَمَا أَحْصَيْتَ عَلَيْنَا وَلَدَيْهِ كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً فَاذْكُرْ، ذُلَّ مُقَامِكَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ الَّذِي لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، فَاعْفُ وَاصْفَحْ يَعْفُ عَنْكَ الْمَلِيكُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) وَيَبْكِي وَيَنُوحُ)(3).
والمذهل ان الإمام (عليه السلام) كان يقوم بما لم نسمع له نظيراً من أحد على امتداد التاريخ البشري كله، وانه قد تفرد في طريقته في تربية الأنفس وتزكيتها، فمن وجدتم يتعامل مع خَدَمِهِ بهذا النوع من التعامل الأبوي – التربوي التجسيدي الصادق؟ بل هل وجدتم من يتعامل حتى مع طلابه وتلامذته أو مقلديه بهذا الأسلوب المميز الفريد؟ فكيف بالتعامل مع العبيد بهذه الطريقة الروحانية – المعنوية الراقية، ومن الواضح ان العبيد كانوا محتقرين في كافة الأعراف والملل والنحل، فمن يجالسهم؟ ومن يتجاذب معهم أطراف الحديث؟ ومن يهتمّ بهم؟ وفوق ذلك من يتصدى، من العظماء، شخصياً لتربيتهم بصبر واناة ودقّة وروعة ولطافة؟ وذلك عبر الإشراف اليومي الدقيق على كافة أعمالهم، ثم كتابة أخطائهم خطأً خطأً لا لأجل مؤاخذتهم أو التشهير بهم أو عقوبتهم بل لأجل تزكيتهم واتخاذ ذلك مقدمة للعفو عنهم ولكن مع تضمين ذلك العفو معنى تربوياً استثنائياً سامياً؟
والغريب، وليس بغريب، ان الإمام (عليه السلام) بعدما كان يحصي عليهم أخطاءهم كان يحتج على نفسه ويعظها ويبكي وينوح، مذكّراً نفسه بانه محتاج إلى عفو الله تعالى كما ان هؤلاء العبيد محتاجون إلى عفوه وصفحه.
ومن الواضح ان طلب أحد المعصومين الأربعة عشر العفو من الله تعالى لم يكن لذنب صدر منه ولا لتقصير ارتكبه ولا لمكروه فعله ولا حتى لترك أولى ابتلي به بل إنما هو لأجل القصور المحض الذي يعني عدم القدرة تكويناً على فعل شيء أو ترك أمر أو أداء حق المولى كما ينبغي لشأنه تعالى فان أداء حقه كما هو مقتضى شأنه فوق إمكان كافة الممكنات، ويوضّح ذلك ان الرجل لو عجز عن إنقاذ صديقه المسجون ظلماً، فانه إذا زاره يعتذر إليه عن عدم قدرته على إنقاذه وذلك على الرغم من ان العاجز غير مؤاخذ ولكن الاعتذار مع ذلك مطلوب محبّب، وكذلك الزوج لو عجز عن الإنفاق على زوجته وعياله وأطفاله فانه يعتذر إليهم وبحرارة وصدق وربما بكى، لا لأنه مذنب أو مقصر بل لأنه عاجز قاصر فاعتذار الإمام (عليه السلام) إنما هو عن القصور التكويني أي عدم القدرة التكوينية على ان يفعلوا ما يحبون ان يفعلوه من تعظيم شأن الخالق بما يفوق طاقة البشر المسجون في سجن البدن والمحكوم بضروراته، من أكل وشرب وزواج و...، الصارف ذلك قهراً بنفس النسبة عن التمحض في أنواع عبادة الرب التي يرغب فيها الإمام لولا قضاء ضرورة العيش في الحياة الدنيا، إلا ان لطف الله تعالى اقتضى المثوبة حتى على هذا الفعل المرجوح في حد ذاته بالنسبة إلى مثل الجهاد والحج والصلاة وقراءة القرآن وما إلى ذلك.
وتتضح لنا، أكثر فأكثر، أهمية النمط التربوي الذي اضطلع به الإمام (عليه السلام) بل واستثنائيته، إذا علمنا ان غلمان الإمام (عليه السلام) وعبيده كانوا يشكلون أعداداً كبيرة جداً حتى ورد في بعض الروايات ان عدد العبيد الذي اعتقهم الإمام (عليه السلام) طوال عمره بلغ مائة ألف عبد! وهو رقم مذهل حقاً بكل المقاييس، وقد أوضحنا في بحث سابق عن الإمام السجاد (عليه السلام) بعض الآليات التي استخدمها الإمام (عليه السلام) في رعايتهم وتربيتهم والأمكنة التي استوعبها فيهم والمدة التي استغرقها في تربية كل مجموعة منهم.
(لَا يَحُوزُ الْغُفْرَانَ إِلَّا مَنْ قَابَلَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ)
وأما الروايات فمنها: ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام): (لَا يَحُوزُ الْغُفْرَانَ إِلَّا مَنْ قَابَلَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ)(4) وهي صريحة في الشرطية المنحصرة، ولو تمّ سند هذه الرواية أو أمثالها، على أي مبنى رجالي بنينا(5)، فانها ستكون حاكمة على أدلة التوبة والاستغفار بمعنى ان غفران الله تعالى للذنوب مشروط بالتوبة أولاً ثم بالإحسان ثانياً، ولعل مما يؤيد ذلك، وإن لم يرقَ إلى مستوى الدليل، ان الإنسان بفطرته يدرك حاجته إلى أكثر من الاستغفار لدى المعصية خاصة المعاصي الكبيرة ولذا تجده يبكي بكاءً مرّاً ويذهب إلى الحرم ويوسط الإمام (عليه السلام) لقبول توبته أو يطلب من بعض العلماء أو الصلحاء الدعاء له بالمغفرة أو يكرر الاستغفار مرة إثر أخرى، ويكفينا في هذا المقام كون هذا مؤيداً في الجملة وإن لم يكن مؤيداً بالجملة فتدبر وتأمل(6).
وقد يتوهم ان معنى الرواية أجنبي عن المقام، لأن معناها يمكن ان يكون:
أ- لا يحوز الغفران أي غفران الناس له إلا إذا قابل إساءته لهم بالإحسان إليهم فلو آذى زوجته مثلاً لم يكْفِهِ لكي يحرز رضاها ومغفرتها ان يندم ويتوب ويعتذر، بل انه لا يحوز غفرانها واقعاً، مطلقاً أو في الجملة، إلا إذا قابل اساءته السابقة لها بالإحسان إليها، بان يتحفها مثلاً بطرائف التحف ولطائف الكلم ويزيد في إكرامها واحترامها، وبذلك ينال غفرانها حقاً، وكذلك أي صديق أساء إلى صديقه أو زميله أو تلميذه أو الموظف لديه، فلو اغتابه مثلاً لم يكفِ ان يتوب ويعتذر منه بل عليه ان يحسن إليه أيضاً بان يمدحه خلف ظهره ويثني على جميل خصاله وحسن فِعاله، أو بأن يسدي إليه معروفاً يكسب به قلبه بان يسدد له ديناً أو يرضي عنه خصماً أو يتوسط لقضاء حاجة من حوائجه أو يدفع عنه نائبة من نوائبه.
ب- كما ان معناها يمكن ان يكون: لا يحوز الغفران أي غفران الناس له إلا إذا قابل اساءتهم له بالإحسان إليهم (عكس المعنى السابق وهو: إلا إذا قابل اساءته لهم بالإحسان إليهم)، فلو أساءوا إليه وأراد كسب قلوبهم وغفرانهم له ما لأجله اساءوا إليه، سواء أكان عن استحقاقٍ أم لا عن استحقاق، فالطريق إلى ذلك ان يغفر لهم، بعبارة أوضح: ان الذي يسيئون للإنسان على أقسام: فقد يسيئون إليه لأنهم يعتقدون فيه انحرافاً أو ضلالاً أو ظلماً لهم أو شبه ذلك، وقد يسيئون إليه حسداً وبغياً وظلماً وعدواناً، وعلى كل التقادير فان الطريق لكي يغفروا له، واقعاً في الصورة الأولى وتنزيلاً(7) في الصورة الثانية، هو ان يغفر لهم، لكن هذا المعنى الثاني بعيد.
وعلى أي فان الظاهر ان إطلاق الرواية يشمل المعنى الأول (لا يحوز غفران الله...) والثاني (لا يحوز غفران الناس...) بدون كلام ولا يوجد وجه وجيه لتخصيصها بثاني المعاني فتدبر جيداً.
المبحث الثاني: العدل في توزيع الثروات الطبيعية
سبق: (العدل في تحديد حصص المياه بين الدول
وستتضح لنا أهمية تحديد المقصود بالعدل وانه العدل الواقعي أو الشرعي أو اللغوي أو العرفي أو غيرها، عندما نقوم بدراسة عدد من أهم المسائل المتنازع عليها في العالم، اليوم، سواء على مستوى الحكومات أم على مستوى الشعوب، ومن ذلك مثلاً النزاع على الأنهار وموارد المياه؛ وذلك لأن هنالك مأتين وثلاثة وستين حوضاً نهرياً مشتركاً بين مائة وخمسة وأربعين دولة، والخلاف بين كثير من الدول المتشاركة في الأنهار شديد وبين بعضها خَطِر، في تحديد حصة كل منها من المياه، وعلى سبيل المثال: النزاع بين العراق وسوريا وتركيا على الحصص من نهر دجلة والفرات، والنزاع بين إحدى عشرة دولة أفريقية على حصصها من نهر النيل بدءاً من دولة المنبع (اثيوبياً) وصولاً إلى مصر والسودان وهي من دول المصب، وكذلك النزاع على بحر الآرال بين خمس دول هي أوزبكستان، تركمنستان، طاجكستان، قرقيزستان وكازاخستان، والنزاع على نهر الأردن بين الاردن وإسرائيل ولبنان والسلطة الفلسطينية.
والسؤال هو ما هو مقتضى العدل في توزيع الحصص؟ فإن أريد بالعدل العدل الواقعي فانه إحالة على مجهول...)(8).
ونضيف: ان هذه المسألة سيّالة ولها نظائر هامة متعددة، ومن النظائر: النفط والغاز وسائر الثروات الطبيعية، فهل آبار النفط الموجودة في بلاد الحجاز، بلاد الحرمين، المسماة الآن بالسعودية، هي مِلك لأهالي تلك البلاد فقط أو بعبارة أخرى: هل هي حقّهم دون غيرهم من أهالي الخليج أو العراق وإيران وأفغانستان والباكستان وسوريا ولبنان؟ والسؤال الآن هو: ما هو مقتضى العدل في ذلك؟ وهل المياه التي تنبع في أثيوبيا أو التي تهطل من السماء عليها هي حقهم فقط دون أهالي سائر البلاد الواقعة في الطريق وبلاد المصب كمصر والسودان، أو لا بل هي من الثروات المشتركة بين كافة البلاد التي تجري فيها هذه الأنهار التي أجرتها يد الملك القادر الجبّار؟.
طرق اكتشاف مقتضى العدالة في توزيع الثروات
ويمكننا الإجابة عن ذلك، لتحديد مقتضى العدل، بطريقتين: الأولى: الرجوع إلى المباني والمبادئ العامة التي نعتمد عليها كمسلمين، والثانية: الرجوع إلى الأدلة الخاصة والإطلاقات والعمومات الواردة فيها بالذات:
أولاً: المبادئ العامة في حقوق الناس في الثروات الطبيعية
أما المبادئ العامة فان أفضل مصدر لها هو القرآن الكريم الذي يعترف به عامة المسلمين وذلك فيما إذا كان مخاطبُنا هم المسلمون خاصة، فنقول:
الآيات القرآنية المتنوعة والمتكاثرة تفيدنا علماً بان الثروات الطبيعية المتوفرة في بلد من البلاد ليست حكراً على أهالي تلك البلاد ولا خاصة بهم بل هي مما يتعلق بها حق البشرية كافة من دون فرق بينهم بما هم بشر مخلوقون لخالق الأرض والثروات الكامنة فيها، ويكفي ان نستعرض الآيات الكريمة التالية من بين العشرات من الآيات:
1- قوله تعالى: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)(9) والخطاب في (لَكُمْ) لكل البشر كما هو واضح بل هو صريح الآيات الكريمات إذ يقول تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ)(10).
2- وقوله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)(11) فالأرض كلها للأنام كلهم وليست للون، كالأصفر دون الأسود، أو عرق كالقوقازي أو الأبيض دون غيره، أو دين أو مذهب أو قومية أو طائفة أو عشيرة دون أخرى.
والحاصل: ان هذه الآية تتكلم عن الأرض وانها لكافة الأنام والآية السابقة تتكلم عما في الأرض من الثروات والمعادن وغيرها وانها لكافة الناس.
3- قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً)(12) و(اللَّهُ الَّذي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَميعاً مِنْهُ)(13).
فالآيتان الأوليان تتكلمان عن الأرض وما فيها وما عليها، وانها متعلَّق حق الإنسان بذواتها، والآيتان الثالثة والرابعة تشيران إلى بُعد التسخير اللاحق رتبة على مرتبة الحق أو الملكية.
4- قوله تعالى: (هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)(14) و(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها)(15) وهي صريحة في ان منشأ البشر كلهم هو نفس واحدة، فمن أين التفاضل والتفضيل؟ فما دامت الأرض للأنام وقد خلق الله لكم ما في الأرض جميعاً ومادام البشر كلهم مخلوقون من نفس واحدة، فمن أين التمييز؟ ومن أين اختص نهر النيل بأثيوبيا ونفط الحجاز بالسعودية؟
5- وقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ)(16) فتنوّع الناس بين شعوب وقبائل لا بد ان يقع في طريق التعارف لا التناكر والتدابر، وليس كونك من هذا الشعب دون ذاك الشعب منشَأً لثبوت حق لك دون غيرك في هذا النهر أو تلك البئر، أو العكس!
الحدود الجغرافية، لا تشرعن سحق الحقوق الإنسانية
بل نقول: ان هذا المنطق القرآني الواضح لهو منطق فطري عقلائي تماماً وذلك لأن الحدود الجغرافية المصطنعة هي من مبتدعات الدول الغربية والدول الظالمة والمستبدة، ففي بلادنا، على سبيل المثال، نجد ان الذي كان يقف وراء تقطيع الدول الإسلامية ورسم هذه الحواجز والحدود، هو معاهدة سايكس – بيكو التي تمت بين فرنسا وبريطانيا عام 1916(17) في الحرب العالمية الأولى بموافقة من الامبراطورية الروسية وإيطاليا، حيث اتفقت بريطانيا وفرنسا على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بينهما وعلى تحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا، حيث تقاسموا إرث الامبراطورية العثمانية وقطّعوها إلى دول مختلفة، بعضها، كسوريا ولبنان والموصل، صار من حصة فرنسا وبعضها كالعراق (البصرة وبغداد وغيرها)، صار من حصة بريطانيا، ثم ان الذي قام برسم الحدود على أرض الواقع هو الضابط البريطاني المعروف لورانس.
ومع وضوح منشأ التقسيم الجغرافي لهذه البلاد وغيرها فمن أين نشأ الحق الحصري لساكني السعودية بحدودها الجغرافية الحالية في ثروات أرض الحرمين دون غيرهم؟ ويوضح ذلك أكثر: ان الكل يذعن بان الساكنين في مكة والمدينة والقطيف والدمام والإحساء ونجران والقصيم وغيرها، هم على حد سواء في ثروات المملكة! لماذا؟ ألأنهم يقعون ضمن الحدود الجغرافية التي رسمها الغرب وأيدها المستبدون أما غيرهم فلا؟
وكذلك الكل يذعن بان ثروات العراق النفطية وغيرها يتساوى فيها أهل العراق من البصرة إلى بغداد إلى الموصل وكركوك وكربلاء والنجف وغيرها، لمجرد انها تقع في حدود دولة حددت حدودها السياسة، ومتى كانت السياسة حاكمة على الثروات التي خلقها الله تعالى للبشر؟.
وهل التفرقة بين ساكني كربلاء وساكني مشهد ومكة والمدينة إلا كالتفرقة بين ساكني كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء؟ أليسوا كلهم عباد الله وأليست بأجمعها بلاد الله وقد قال تعالى: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) فكيف يعقل بان نقول بان نفط البصرة وكردستان يجب ان توزع عائداته على أهالي بغداد أيضاً ولا نقبل بان تعود بعض عوائده إلى أهالي مشهد مثلاً، وكيف يقال بان نفط الأهواز مختص بإيران فقط (وتعود عوائده إلى اصفهان وتبريز وغيرهما) لكنه ممنوع ان تصل من عوائده ولو قطرة إلى أهالي كربلاء والنجف أو البصرة المجاورة لإيران تماماً! (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى)(18)(19).
ويوضحه أكثر: ما لو فرضنا عشيرة تعيش في منطقة حقول نفطية، أو أهل محلة تفجرت فيها آبار النفط أو شخصية وجدت في مزرعتها آبار غاز أو نفط، فادعت ان هذه الآبار إنما هي لي لأنها في محلتي أو في منطقة عشيرتي أو في بيتي، فهل يكون ذلك مقبولاً لدى العقلاء؟ كلا وألف كلا، فكذلك تماماً ثروات أية دولة بالقياس إلى سائر الدول.
والحاصل: ان مجرد توفر المعادن الطبيعية في أرض جماعةٍ ما ليس دليلاً إلهياً ولا عقلياً ولا عقلائياً على كون أهلها الأحق بها من سائر الناس.
فذلك كله على مستوى الحق المبدئي والعدل في صورته الأولية، ولكن كيف نقوم بعملية توزيع الثروات الطبيعية بين أهالي البلاد المختلفة؟ وما هو مقتضى العدل في ذلك؟ ذلك ما سنبحثه في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
......................................
(1) سورة النحل: الآية 90.
(2) سورة النور: الآية 22.
(3) ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب - ط علامه ـ قم، ج4 ص158، والفيض الكاشاني، التفسير الصافي، مكتبة الصدر ـ طهران، ج3 ص403.
(4) عبد الواحد بن محمد التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم، ص388.
(5) فلو كان المبنى (حجية مراسيل الثقات المعتمدة) لكفى، ولو كان الوثاقة الخبرية، لا خصوص المخبرية، لاحتاج إلى تجميع القرائن التي تعضد المدعى، ومن دونها لا يتم الاستدلال.
(6) لأن ما ذكر أعم من المدعى وإن اشعر به.
(7) تنزيلاً لرضاهم عنه منزلة كونه مغفرة منهم له.
(8) الدرس (330/3).
(9) سورة البقرة: الآية 29.
(10) سورة البقرة: الآية 28-29.
(11) سورة الرحمن: الآية 10.
(12) سورة لقمان: الآية 20.
(13) سورة الجاثية: الآية 12-13.
(14) سورة الأعراف: الآية 189.
(15) سورة النساء: الآية 1.
(16) سورة الحجرات: الآية 13.
(17) بين نوفمبر 1915 ومايو 1916 بين فرانسو جورج بيكو الفرنسي ومارك سايكس البريطاني.
(18) سورة النجم: الآية 22.
(19) والكلام كله بعيداً عن نوع الحكومات التي تحكم هذه البلاد، وان الحدود الجغرافية لا تعدّ مسوغاً لاحتكار الثروات أبداً.