أعرف مجانين مدينتي كلهم، وألفت هذياناتهم منذ صباي..! وكنت دائما ادافع عنهم لأبعد أذى الصبية عنهم، لكن فاجأني هذا الرجل الكبير السن المهندم النظيف الملابس، يهذي والفرجة مغرية للابتسامة، ويحرك يديه باتجاهين وكأنه رجل مرور، يسير العربات باتجاهين متجاورين..!
تقربت اليه لأعطيه احسانا، فرفض وكنت استمع لهذياناته استشف منها الجرح العمق الجريح، حاولت تهدئته، فاستجاب مسايرتي، دعوته ضيفا فقبل، وبدأت هذياناته تتوضح شيئا فشيئا، صرت اجمع بعض خيوط قصته الغريبة ، وبعد مضيء أيام من العشرة، استطع ان اجمع من هذياناته بعض الجمل كمفردة أطفال صغار، قطار، يقول:ـ موظف السكك يحتكم على مسارين يسير عليهما القطار، قلت:ـ نعم ياعم، فقطع الحديث العذب الى هذيان آخر، ليؤدي الى بعثرة الهذيان، وقال:ـ طفل يلعب على المسار المعطل بأمان، وبالمقابل مجموعة من الأطفال يلعبون على المسار السليم، غير المعطل، قلت:ـ نعم يا عم، فانتبه لوجودي وعاد الى صمته وهذيانه من جديد:ـ أطفال يلعبون في سكة سليمة، وطفل يلعب في السكة العاطلة.
ينظر الي ويسألني:ـ هل رأيتهم؟ اظنك كنت هناك، وجهك ليس غريبا علي، انا اعرفك انت ابن حمزة الصقر، ليس لي سوى ان اؤيده بكل ما يقول لأعرف الحكاية، ولهذا صار يناديني:ـ يا ابن حمزة الصقر، لو كنت مكاني ماذا تفعل: هل تسير القطار في مساره الصحيح ليقتل مجموعة أطفال أم تسيره في مساره الآخر لتضحي بطفل عنهم؟
وبقى العم حائرا امام صمتي، اخذته الهستريا وعاد ليصيح:ـ أليس من المنطق ان نفتدي الطفل بمجوعة الأطفال، قلت: لكن يا عم كان الطفل يلعب على المسار المعطل، وذهب الى هناك ليتجنب مخاطر القطار..!
ازداد العم غضبا وثارت ثائرته من جديد:ـ لكن يجب ان يكون هو الضحية، ويبدو اني انا الذي اصبت بداء الجنون وصرخت محتدما:ـ هل حسبت بأن الأطفال الاخرين مستهترين وغير مبالين، واصروا على اللعب في المسار غير العاطل، هذا ليس من العدل يا عم..!
صاح بي:ـ انت مجنون معتوه كيف تفكر؟ هل نجاة الطفل اهم من نجاة مجموعة من الأطفال؟ قلت: نعم يا عم؛ لكونه يلعب على المسار العاطل وهو لا يعلم بما تفاجئه، لذلك هو بقى منذهلا ولم يتحرك من مكانه؛ لأنه يعتقد ان القطار لا يمكن ان يسير على مسار السكة العاطلة..!
قال:ـ انك مجنون..! اجبته انا المجنون لم انظر الى معادلة أطفال مقابل طفل، لكني نظرت لمسألة أخرى، صرخ بي المجنون:ـ وهل هناك قضية أخرى؟ قلت: نعم، المسار المعطل غير آمن، وهذا يعني انك ضحيت به مقابل هؤلاء الصبية العابثين بحياة ركاب القطار..! صرخ بوجهي:ـ يا ابن حمزة الصقر انت مثل ابيك مجنونا سعيت لإنقاذ حياة أطفال تنتظرهم امهاتهم مقابل حياة طفل واحد.
قلت:ـ لكنك تسبب بكارثة، عوائل كثيرة تنتظر القطار لتعانق أولادها بالسلامة، عشرات العوائل، انت يا عم ضحيت بدموعها من اجل بضعة أطفال عبثوا على مسار سكة حديد عامرة.
فجأة انهار العم امامي وهو يصيح:ـ انت يا ابن حمزة الصقر لم تدرك صعوبة القرار، قلت: مشكلتك أيها العم المسكين انك نظرت لعاطفتك الضيقة الحدود، تركني العم المجنون وهو يصيح: تبا لك يا بن حمزة الصقر، واختفى بعدها عن وجه المدينة ليبدأ هذيانا آخر..!