بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
اٰللـــٌٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْمُ عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
اٰللـــٌٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْمُ عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
قَالَ الإمامُ عليُّ بنُ أبي طالبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ( والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ، وتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ، واخْتَلَفَ النَّجْرُ وتَشَتَّتَ الأَمْرُ، وضَاقَ الْمَخْرَجُ وعَمِيَ الْمَصْدَرُ، فَالْهُدَى خَامِلٌ والْعَمَى شَامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمَنُ ونُصِرَ الشَّيْطَانُ وخُذِلَ الإِيمَانُ )، نهج البلاغة ، ج1، ص46.
في هذه النُصُّوصِ المُنتخبَةِ منْ خُطبِ أميرِ المؤمنينَ الإمامِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، في (نهج البلاغة)، يُشيرُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) إلَى وجوهِ الفَسَادِ الّتي كانَ يُعاني مِنْهَا العَالمُ، ولَا سِيّما المُجتمعُ الجاهليِّ، عشيّةَ بعثةِ رسولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وهيَ وجوهُ الفَسادِ الكُبرَى في كُلِّ عَصرٍ وفي كُلِّ أمّةٍ، فإصلَاحُهَا هوَ وظيفةُ النُّبوّةِ في حركتِهَا الصَّاعدَةِ مُنذُ بدأتْ في مُستهلّ التَّاريخِ البَشريِّ، إلَى أنْ خُتِمَتْ بالنِّبيِّ الأعظمِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ).
إستعمالُ " حَبْلُ الدِّينِ " في كلامِ أميرِ المؤمنينَ هوَ إستعارَةٌ لقانونِ الشَّريعَةِ المطلوبُ الإلتزامُ والتَّمسكُ بِهِ فَهوَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يُنبِهُهُم مِن غَفلَتِهِم في هذهِ الفِتنِ المُشتَمِلَةِ عَلَى كثيرٍ مِنَ المَذامِّ الّتي عَدَّهَا لِينتبِهوا مِنْ رَقدَةِ الغَفلَةِ ويَسلكوا سبيلَ الحَقِّ فيعودُ كُلُّ شيءٍ إلَى نِصابِهِ .
فَسبَّبُ مأساةِ النَّاسِ في الجاهِليَّةِ هو انحرافهم عن طَريقِ الحقِّ وسُلوكِهِمْ طَريقَ الضَّلالِ مِنْ خِلالِ الشِّركِ باللهِ عَزَّ و جَلَّ ، وهو مَا قَصَدَهُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مِنْ إنجذامِ حَبلِ الدِّينِ أيْ قَطعِهِ .
ألّفَ إبراهيمُ بنُ مسعودِ الثَّقفي كتاباً سَمّاهُ (الغارات)، جمعَ فيهِ غاراتِ العربِ وحروبِهِم، وإنْ شئتَ أُرشدكَ إلَى إثنينٍ مِنْ تلكَ الحُروبِ والغَاراتِ فإنَّهُمَا أنموذجٌ مِنْهَا :-
أحدُهُما: مَا كانَ بينَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ منَ الحُروبِ الّتي تَطاولَتْ مائةُ وعشرينَ سنةٍ، إلَى أنْ ألّفَ اللهُ بينَ قلوبِهِم بالإسلامِ .
وَ الأَوْسُ والخَزْرَجُ مِنَ القبائلِ العربيَّةِ الّتي هَاجرتْ بسبَّبِ إنهيارِ سدِّ مأربِ في اليمنِ، وأستوطنَتْ في مَنطقَةِ يثربَ الّتي سُمّيتْ فيمَا بعدُ بالمدينَةِ المنورَةِ، وقدْ جَاوروا وحَالفوا قبائلَ اليهودِ الّتي كانتْ تسكنُ يثربَ آنذاكَ، ومنْ أكبرِهَا قبيلةُ بني قُريظَةَ وبني النَّضيرِ وبني قَيْنُقَاعَ، وقدْ نشبَتْ فيمَا بَينَهُم حروبٌ بسبَّبِ المُنافَسَةِ في ثرواتِ المدينةِ، كمَا نشبَتْ حروبٌ أُخرَى بينَ قبيلتَي الأوسِ والخزرَجِ، حيثُ استمرتْ إلَى مَا قبلِ الهجرةِ النَّبويَّةِ .
وَبعدَ مُضي فترةً طويلَةً علَى الحِلفِ المُنعَقِدِ بينَ اليهودِ والعربِ، وقدْ أثرَى الأوسُ والخزرجُ في هذهِ المُدَّةِ منَ الزَّمنِ، وصَارَ لَهُمْ أموالٌ وأعدادٌ كثيرةٌ، حينَهَا خافَ اليهودُ من بني قُريظَةَ والنَّضيرِ، ففسخوا الحِلفَ وقَتلوا عَدداً مِنَ العَربِ، وعملوا علَى إذلالِهِم، وبَقيَّ الأوسُ والخزرجُ علَى تلكَ الحالِ إلَى أنْ ظهرَ فيهِم مالكُ بنُ العَجلانِ الّذي إستنجَدَ بأبناءِ عمومتِهِ الغَساسنَةِ في الشَّامِ، فاستجابوا لَهُ وأرسلوا جيشاً كَسرَ شوكةِ اليهودِ، ثُمَّ عادوا إلَى الوفاقِ وعاشوا فترةً أُخرَى حياةً متوازنَةً ،
فَبعدَ أنْ تَغَلَّبَ الأوسُ والخزرجُ علَى اليهودِ في يثربَ استمرتْ القبيلتينِ علَى وفاقِهِم وإتحادِهِم لفترةٍ منَ الزَّمنِ، ثُمَّ ساءتْ العلاقاتُ بينِهِم ووقعَ الخِلافُ، ونَشبتْ الحربُ الّتي إمتدتْ إلَى قُبيلِ الهِجرَةِ النَّبويَّةِ.
وقدْ جاءَ في كُتبِ التَّأريخِ أنَّ أصلَ النِّزاعِ بينَ القبيلتينِ يرجعُ إلَى عواملَ سياسيَّةٍ وإقتصاديَّةٍ، حيثُ تسبَّبتْ هذهِ الحُروبُ في خَسائرَ كثيرَةٍ في الأرواحِ والأموالِ منْ قِبَلِ الجَانبينَ ، وَذلكَ قَولُهُ تَعَالَى في الكِتابِ المَجيدِ: ﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ﴾ ، هذهِ الحربُ إستمرتْ 140 سنةٍ، بدأتْ بيومِ « سُمَيْرٌ » وخاضَ الأوسُ والخزرجُ 12 معركَةٍ ، مِنْ أشهرِهَا يومُ السَّرَارَةِ ، و يَوْمُ فَارِعٍ ، ويومَ الْفِجَارِ الأوَّلِ و الثَّانِي لِقَتْلِ الْغِلْمَانِ مِنَ الْيَهُودِ ، وحربُ الْحُصَيْنِ بْنِ الْأَسْلَتِ الْأَوْسِيَّ الْوَائِلِيَّ ، وحربُ حَاطِبٍ بنِ قَيسٍ.. وانتهت بيوم « بُعاث » قبلَ الهجرة النبوية بـ5 سنوات ، كانتْ بداياتُ واقعة بُعاثٍ أنْ عَلِمَتِ الخزرجُ أنَّ بني قُرَيظةَ وبني النَّضيرِ يعاونونَ الأَوْسَ في معارِكِهم، فأرسَلوا إليهم أنْ ينتَهُوا عنْ ذلكَ ويُخَلُّوا بينهم وبينَ الأوسِ، ودارَتْ بينهم مفاوضات، وإنتهَى الأمرُ إلَى قتلِ الخزرجِ لرهائنٍ - أربعينَ شابًّا - بعَثها اليهودُ من أجلِ الاطمئنانِ والسَّلامِ، والقِصَةُ معروفةٌ .
وهنا فاضتِ الكأسُ، واشتد البأس، ورُفِع الفأس، وضُرِب الرأس، ولم يتوانَ بنو النَّضِير وبنو قُرَيظة عن إعلان مُحاربة الخزرج يدًا بيد مع الأوس، وهاجت بهم سُيُول الحقد، ودفعت بهم لبحرٍ مِن الدمِ والهمِّ ، وَكَانَ يَوْمُ الْبُعَاثِ آخِرَ الْحُرُوبِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى نَصْرِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ .
ولمْ تنتهي الحربُ بينهمَا إلَّا بعدَ هجرةِ النَّبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) ودخولِهِم الإسلامَ .
وثانيهما: حربُ البَسوسِ بينَ (تَغْلِب) و(بكرُ بنُ وائلٍ) أربعينَ سنةٍ، حتّى صارَ مِنْ أمثالِ العربِ السّائرَةِ: أشأم منَ البَسوسِ .
حربُ البسوسِ وقعتْ في العصرِ العَدنانيِّ بينَ قبائلَ ربيعةَ وبكرَ بنَ عبدِ مناةِ، وبدأتْ عامَ الفيلِ وكانتْ شرارتُهَا الأولى في الباحةِ حيثُ قُتِلَ “كليبُ بنَ ربيعةِ” علَى يدَ إبنِ عمهِ “جساس “بتحريض من البسوس (سعاد التيمية) وَسُمِيَّ ذلكَ الوادي “وادي البسوس “، وَاستمرت 7 سنوات (571 – 577 ميلادية) وهي حربٌ مشهورَةٌ في القرنِ السَّادسِ الميلادي، سَجَلَّ وقائعَهَا الشُّعراءُ والأخباريونَ العربُ، وهي مِنِ الحروبِ الّتي وقعتْ بينَ عامِ الفيلِ وعامِ البِعثَةِ .
تلكَ الحُقبَةُ الّتي شهدتْ حربَ داحسَ والغبراءِ بينَ قبائلِ عبسٍ وذبيانٍ وطيٍ، وحربَ الْفِجَارِ بينَ قبائلَ قُريشٍ وقبائلَ هوازنٍ وقبائلَ سُليمٍ وعدوانٍ .
سَبَبَ حربِ البسوسِ أنَّ كليبَ التغلبيِّ مَلِكِ السراةِ، كانَ مُهتمٌ بِسَنِ الأنظمَةِ والقوانينِ، فمنَعَ الصَّيدَ وفَرَضَ الْأُجْرَةَ علَى المراعي ! فـرَفَضَ بنو تَيْمِ وبنو بكر بن عَبْد مَنَاة ، لأنَّ المَراعيَ منْ مُمتلكاتهم. فدخلَ الحارثُ بنُ عَبّادِ اليشكريِّ علَى المَلِكِ كُلَيْب في عَرْشِهِ، يحذرُهُ منَ العَواقبِ، وقالَ لَهُ : (لَا طاعَةَ لمَلِكٍ لَا تَعنيِهِ كرامَةَ شعبِهِ)
وكانَ عمرو بنُ مالكٍ الدؤليِّ (زوجُ البسوسِ) يملكُ مزرعةً في السراةِ، فحَرَّضَتْ البسوسُ إبنُ أُختِهَا جساسَ علَى قتلِ كُلَيْبٍ ، فطعنَ كُلَيْبَ بِرُمحٍ، وكانَ في مَعيَّتِهِ عمرو بنِ مالكٍ الدؤليِّ، فوصَلَ سلمةُ بنُ ربيعةٍ (شقيق كليب) فوجدَهُ مُسندَ ظهرَهُ إلَى صخرةٍ، ولبثَ قليلاً ثُمَّ هلكَ .
وشاركَ بهذهِ الحربُ فرسانٌ منْ قريشٍ بزعامَةِ عبدِ اللهِ بنِ جدعانِ التيميِّ، فيمَا إمتنعَ الحكماءُ منْ ربيعةٍ عنِ المُشارَكَةِ في الحَربِ، ومِنْهُم نفيلُ بنُ حبيبٍ الأكلبيِّ والحارثُ بنُ عَبَّادٍ اليشكريِّ الّلذانِ إنشغلَا بقتالِ إبرهَةَ الحبشيِّ، وقالَ الحارثُ بنُ عَبَّادٍ (قتالُنَا للأحباشِ خيرٌ منْ قتالِنَا لأهلِنَا) .
هذا هوَ حالُ العربِ في الجاهليَّةِ قبلَ الإسلامِ ، وَلِهذا السبَّبِ نَزلتْ الآيةُ الشَّريفةُ عَلَى قلبِ رسولِ اللهِ ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾، سُورَةُ الجُمُعَةِ ،الآية 2، فإرسَالُ النَّبيِّ الأكْرَمِ جَسَدَتهُ الآيةُ الشَّريفَةُ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾، سُورَةُ الأنْبِيَاءِ ،الآية 107.