تعرف السيرة الغيرية بأنها أحد أنواع التعبير الادبي والتي تختص بالحياة الشخصية لشخص ما حيث يقوم المؤلف بإعادة بناء حياة الشخص، يقول الكاتب (محمد مشعل) في روايته (السعبري) بأن التنقيب لم يكن سهلاً في تفاصيلها؛ لأن البحث في ركام الحكايات يتطلب صدق الاصغاء، ويعتمد على الدلائل الموجودة المحكية من قبل الناس.
وفي مقدمته: أعرب لي البعض عن قلقهم لقلة المعلومات المتوفرة عن الشخص، الغموض الذي كان يكتنف شخصيات ما شاع عن قصة فقدان عقله والذكريات المتشابهة، ومن الطبيعي أن مثل هذه السير تكتب بما تمتلك الشخصية الغيرية وبما يحب المؤلف أن يراها، وهذه هي بعض العوائق المعروفة في عالم السير الغيرية، يكون التحدي الأكبر هو الحصول على المعلومات بشتى الأساليب والطرق والتأكد تماماً من صحتها، فلماذا هذه الشخصية دون سواها..؟
الجواب: إن ثمة شعوراً بالانتماء يدفع الكاتب الى توثيقه، وهو الذي لم يدركه حياً، وسيرسم من خلاله مكونات العصر، حيث أصيب بما يسمى جنون العباقرة، عمل الكاتب محمد مشعل على أن يشتغل على اسلوبية الخرق اللغوي التي يبعده عن مألوفية السرد الروائي، ويرتفع من جذوة المباشرة الى أسلوب التعبير الحر.
(قلم الرصاص المكسور في كوب الماء ليس مكسورا تلك خدعة بصرية) يبدأ لغته التمهيدية بهذه المقدمة الشعرية ليصل الى نتيجة (متى كانت المظاهر صادقة؟) استخدم الجمل التي تكاد أن تكون اقرب الى الشعرية في التعبير: (لم يبق منه غير الجسد بينهم، هائما في لذاته المعرفية وسائحا في بساتين الانعتاق من قيود المكان والزمان/ فكأنه يعيش في هذا الكون لوحده قادماً من المستقبل بثوب ماض عتيق).
نجده يغازل الشعر بقوة ليسحب نحوه وحدة السعبري وغربته، جمل وتركيبات شعرية تجمل الرواية مثل: (فجوة مؤلمة/ يحرث الماء/ اسبل حزنه/ يسبح في خياله) أو يصف الطريق السياحي بأنه يأتي من بين البساتين ملتوياً بين القرى مثل ثعبان طويل) واتخذ الروائي مشعل من المكان عنصراً حكائياً فاعلاً باعتباره مكوناً أساسياً فنجده يصف الجسر: (عند جسر الهاشمية شريان المدينة التي تلبس ملامح أصحابها الموغلة في الوحشة) مع الارتكاز على شعريته: (نوح قمرية حزينة قادم من قلب نخلة غارقة في سعف فسائلها).
أو نقرأ: (وكأنها ريح تنفخ في جمر ذاكرته فيتقد لهيبها تحت قدور الحكايات) ادرك الروائي محمد مشعل أن شعرية المكان لا تكمن في قيم المكان الثابتة وانما من الممكن ان تذهب الى الأماكن المعنوية والمتحركة كقيمة مكانية، سوى ان كانت من المتخيل الشعري او من اثاثية المكان فهو يخاطب النهر: (كم انت بخير أيها الماء.. من تراه يجرؤ على قهرك أخبرني؟ كيف كنت حليما مع فرعون وهو يسخر منك ويقول: انك تجري من تحت اقدامه، كيف استجبت لابن عمران وقد لكز خاصرتك بعصاه، فكنت طوداً شامخاً، حيث أودعتك أمه رضيعها ذي الثلاثة اشهر:ـ انت الودود الجميل تحولت الى فك مفترس التهم الطاغي الذي تمرد على الايمان وانت البار بأبيه من قبل.
الأشرار لا يرون انفسهم على حقيقتها، ثم حملت الحوت وفيه يونس النبي غذيته بريقك حتى نبذ على شجر يقطين/ عدني ان تحمل معك المحبة والرحمة، حيث تذهب لتعانق السابحين فيك وهم يرتمون بين احضانك، اغسلهم من الخطايا، احملهم على ظهرك فانهم ابناؤك أيها الاب الذي جعل الله منه كل شيء حيا).
رواية السعبري كبيرة في احاسيسها المدركة، فيها تحركت الشعرية والبعد المكاني بشكل يجعل البناء السردي بناء شعورياً امتلك محبة المتلقي، فكانت خاتمة الرواية تمكث في صلب المكانية: بعد أحداث الانتفاضة الشعبانية هام الناس على وجوههم نحو البراري والأرياف عندما دخل الجيش الى المدن لاستعادتها من قبضة الثوار وتصفيتهم، غادروا منازلهم فرارا من بطش النظام: (هنا ولدنا وهنا نموت)/ نال امنيته التي كان يصبو اليها، الشهادة التي ساقتها له شظايا قذيفة اطلقتها مدفعية النظام، سقطت فجراً على الحي السكني، ليصحو في رواية الروائي محمد مشعل بطلاً لا تنسى مواقفه.
أعجبني
تعليق
مشاركة