تفيض أفواج الحزن في روحي، وأنا أستذكر أقسى ساعات الوعد الذي عشت، سأنهض لأدلي بشهادتي، ولا بأس اذا ما بلل الدمع كلماتي، فتلك هي شهادة الدمع الصبور، أنا أسماء بنت عميس، سأروي لك ما حصل:
بعد وفاة رسول الله (ص) اشتدَّ عليها الحزن والأسى، ونزل بها المرض لِمَا لاقَتْهُ من هجوم الطغاة على دارها، وَعَصْرِهَا بَين الحَائطِ والبَابِ، وَسُقُوطِ جَنِينِها المُحسِن (عليه السلام)، وَكَسْرِ ضِلعِها، وَغَصبِ أَرضِهَا فَدَك.
فتوالت الأمراض على وديعة النبي (ص)، وفَتك الحزن جِسمَها النحيلَ المُعذَّبَ حتى انهارت قواها (عليها السلام)، فقد مشى إليها الموت سريعاً.
وَلَمَّا بدت لها طلائع الرحيل عن هذه الحياة، طَلَبتْ حضورَ أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فَعَهدتْ إليهِ بِوَصِيَّتِها، ومضمون الوصية: أن يُوارِي جثمانها المقدس في غَلس اللَّيل البهيم، وأن لا يُشَيِّعُها أحد من الذين هَضَمُوهَا؛ لأنهم أَعداؤها وأعداء أبيها على حَدِّ تعبيرها .
وعهدت إليه أن يعفي موضع قبرها، ليكون رمزاً لِغَضَبِهَا غير قابلٍ للتأويل عبر الأجيال الصاعدة .وضمن لها أمير المؤمنين (عليه السلام) جميع ما عَهدَت إليه، وانصرف عنها وهو غارق في الأسى والشجون .
وفي آخر يوم من حياتها، ظهر بعض التحسّن على صحتها، وكانت بادية الفرح والسرور، فقد علمت أنها في يومها تلحق بأبيها (ص)، وعمدت إلى ولديها فَغَسَلت لهما، وصنعت لهما من الطعام ما يكفيهم يومهم، وأمرت ولديها بالخروج لزيارة قبر جدّهما، وهي تلقي عليهما نظرة الوداع، وقلبها يذوب من اللوعة والوجد.
فخرج الحسنان (عليهما السلام)، وقد هاما في تيار من الهواجس، وأَحسَّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالهموم والأحزان، والتفتت وديعة النبي (ص) إليّ، وكنت أتولى تمريضها وخدمتها فقالت لي: يا أُمَّاه.
فقلت: نعم يا حبيبة رسول الله.
فقالت: اسكبي لي غسلا .
فانبريت وأتيتها بالماء فاغتسلت فيه، وقالت (عليها السلام) لي: إيتيني بثيابي الجدد .
فناولتها ثيابها، ثم هتفت الزهراء بي مرة أخرى: اجعلي فراشي وسط البيت.
وعندها ذعرت وارتعش قلبي، فقد عرفت أن الموت قد حلّ بوديعة النبي (ص).
فصنعت لها ما أرادت، اضطجعت الزهراء (عليها السلام) على فراشها، واستقبلت القبلة، والتفتت إلي قائلة بصوت خافت: يا أُمَّاه، إني مقبوضة الآن، وقد تَطَهَّرتُ فلا يكشفني أحد.
وأخذت (عليها السلام) تتلو آيات من الذكر الحكيم حتى فارقت الروحُ الجسد، وَسَمت تلك الروح العظيمة إلى بارئها، لتلتقي بأبيها (ص) الذي كرهت الحياة بعده.
ورجع الحسنان (عليهما السلام) إلى الدار، فلم يجدا فيها أمهما (عليها السلام)، فبادرا يسألاني عن أمّهما، ففاجئتهما وانا غارقة في العويل والبكاء قائلة: يا سيدايّ، إن أمّكما قد ماتت، فأخبرا بذلك أباكما، وكان هذا الخبر كالصاعقة عليهما .
فهرعا (عليهما السلام) مسرعين إلى جثمانها، فوقع عليها الحسن (عليه السلام)، وهو يقول: (يا أُمَّاه، كلميني قبل أن تفارق روحي بدني) .
وألقى الحسين (عليه السلام) نفسه عليها وهو يَعجُّ بالبكاء قائلاً: (يا أُمَّاه، أنا ابنك الحسين كلميني قبل أن ينصدع قلبي .(
وأخذت أُعزيهما، وأطلب منهما أن يسرعا إلى أبيهما (عليه السلام) فيخبراه، انطلقا (عليهما السلام) إلى مسجد جدّهما رسول الله (ص) وهما غارقان في البكاء، فلما قربا من المسجد رفعا صوتهما بالبكاء، فاستقبلهما المسلمون وقد ظنوا أنهما تذكرا جدّهما (ص)،
فهرعا إلى أبيهما وقالا بأعلى صوتهما: (أَوَ ليس قد ماتت أُمُّنا فاطمة .(
فاضطرب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهزَّ النبأ المؤلم كِيانَه، وطفق يقول: بمن العزاء يا بنت محمد كنتُ بِكِ أتعزَّى، فَفِيمَ العزاء من بعدك؟
وخَفَّ مسرعاً إلى الدار وهو يذرف الدموع، ولما ألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله، وهرع الناس من كل صوب نحو بيت الإمام (عليه السلام) وهم يذرفون الدموع على وديعة نبيهم (ص)، فقد انطوت بموت الزهراء آخر صفحة من صحفات النبوة، وتذكروا بموتها عطف الرسول (ص) عليهم، وقد ارتَجَّت المدينة المنورة من الصراخ والعويل .
وعهد الإمام (عليه السلام) إلى سَلمَان أن يقول للناس بأن مواراة بضعة النبي (ص) تأخّر هذه العشية، وتفرقت الجماهير.
ولما مضى من الليل شَطرُهُ، قام الإمام (عليه السلام) فغسَّل الجسد الطاهر، ومعه انا والحسنان، وقد أخذت اللوعة بمجامع قلوبهم .
وبعد أن أدرجها في أكفانها دعا بأطفالها – الذين لم ينتهلوا من حنان أُمِّهم – ليلقوا عليها النظرة الأخيرة، وقد مادت الأرض من كثرة صراخهم وعويلهم، وبعد انتهاء الوداع عقد الإمام الرداء عليها .
ولما حَلَّ الهزيع الأخير من الليل، قام (عليه السلام) فصلّى عليها، وعهد إلى بني هاشم وخُلَّصِ أصحابه أن يحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه الأخير.
ولم يخبر أي أحد بذلك، سوى تلك الصفوة من أصحابه الخُلَّص وأهل بيته (عليهم السلام).
وأودعها في قبرها وأهال عليها التراب، ووقف على حافة القبر، وهو يروي ثراه بدموع عينيه.