جال ببصره في الأفق يتأمل جمال الطبيعة التي أغدقها الخالق على تضاريس قريته، النخيل يعانق الجدول الرقراق الذي يقسمها إلى نصفين.. حفيف الشجر وخرير الماء اجتمعا ليُضفيا على المنظر بهجةً تسرّ النفس..
تذكّر كيف قضى شبابه في هذه الأرض، يحرثها ويزرعها ويجني ثمارها.. يعرف كلّ شبر فيها، يعرف عمر كلّ أشجارها.. حرص على أن يزرع لكلّ طفل يولد له شجرة في يوم ميلاده، يسمّيها باسمه.. ودأب على هذا مع أحفاده أيضاً، فللأولاد كان يزرع نخلةً، وللبنات كان يزرع سدرةً.. تكاثفت أشجار النخيل وهي تعانق أشجار السدر بعد هذه السنين الطوال.. وكبر معها حبّ أولاده وبناته وأحفاده لها.
لاحت منه التفاتة إلى الارض، نكثها بعصاه.. رسم خطوطاً لا على التعيين وخاطبها:
لن ينالوا منكِ شبراً واحداً.. أُقسم على ذلك..
بين طّيات الأمنيّات تختبئ لواعج الانتظار، تحلّق نحو السماء على كفّ القمر.. تتبعها الاحلام جُزافاً.. تنثر على الخيال جمالاً.. حنايا الروح ترتجي أن تلامس الواقع.. فالخيال مهما كان جميلاً، لا يعدو أن يكون سراباً زائلاً.. أما البقاء فيكتبه التاريخ وتدونه الوقائع، لذا جماله يفوق الخيال بهاءً..
لطالما حلمتُ أن أكون في ركب الخلود، في قافلة السائرين الى الشهادة.. ولكن تمكّن اليأس منّي لتحقيق هذه الامنيّة بعد أن كبُر وشاخ جسدي..
حلمٌ بلغ من العمر عتيا؛ كَهُلَ طيفه وشاخت لياليه.. إلى أن خفتت دقّات قلبي.. تباطأ سريان دمي بعروقي.. يئستُ من الشهادة في زمن تلاشت واندثرت فيه قعقعة السيوف، لم أعُد أسمع أزيزاً للرصاص، ولا نشيداً لحربٍ دقّت طبولها..
كيف أبقى قابعاً في داري وسواد الكفر يغزو بلادي ويسلبها قطعة قطعة؟
كيف لي ان ارى هؤلاء الانجاس يدنسون الحرمات، ويعيثون فيها فساداً بلا رادع؟
ماذا لو وصلوا إليكِ وسلبوكِ منّا؟
ماذا لو قطعوا نخيلكِ وسدركِ وأحرقوا بساتينكِ؟
وماذا.. وماذا.. وماذا..؟
هاجت في نفسه حرقة أوقدتها مراجل الكرامة والاباء.. فارت الدماء بالعروق، انتفضت لتعلن مع الفتوى صارخة ضاجّة: لبيكَ يا عراق ..
ها هو صوت الفتوى يتعالى وكأن الناس كانت على موعد معها.. ساعة الصفر
نعم، ساعة الصفر.. ساعة بلا موعد مسبق.. بركان الشعب انتفض ليقضّ مضاجع أعداء الله وأعوانهم.. سيل جارف لا يمكن الوقوف أمامه أو مقاومته... حتى السواتر تزغرد باندهاش.. احتضنت همم المقاتلين، حملت على ترابها صولات الثائرين.. لا معنى هناك لهالات الغروب حينما تتوارى الشمس خجلةً.. قياسات الزمان والمكان تتلاشت، وتغدو ضفاف الكوثر قاب قوسين أو أدنى، ولا فسحةَ تبدو لشيء آخر.. كلّ منَ ينتفض هناك ائتمن على حياته ببشرى النصر، ولا فرق بين الحياة والممات، فالشهيد حياته أطول من الجميع.. يسبق أقرانه ويسارع إلى جنة عرضها السموات والأرض..
لم تُكتب هذه الكلمات بالحبر، بل سكبت حروفها من مِدادٍ مدافٍ بقطرات عَرق جبين مقاتل مستميت، ولأن الرجولة لا تُنسب إلى الذكورة؛ انما تولد من الروح الإنسانية المؤطرة بالغيرة والحميّة والحرية؛ ترك حياته وما فيها خلف ظهره.. فهو من زمرة رجال اختارهم الله (عزّ وجل) لقربه؛ واصطفاهم لميقاته كاصطفاء الملائكة، يأتزرون بالحَتف.. يلتحفون بالمنايا.. الموت عندهم إصدار شهادة الخلود وميلاد العظماء.. إنهم يرون ما لا نرى، ويسمعون ما لا نسمع..
همهم مع نفسه: متى اللقاء..؟ لقد طال الانتظار ولم يبقَ لي من عمري الكثير، أخشى ان لا أنالها.. فأكون من الخاسرين..!! هل يمكن أن يُصطفى حلمي ويتحقّق؟
- أبي.. أبي..
أدارَ رأسه صوبَ الصوت.. واذا بهم أولاده الأربعة يلتحقون به ويعتلون صهوة الساتر.. صارخين: لن ينالوا من أرضنا، ولن نتركك وحدك في ساحة المعركة..!!
- لم يذهب تعبي معكم سدىً.. لا تعودوا إلى القرية إلا بعد أن تقضوا على الأعداء، وأوصيكم بأرضي وأشجاري خيرا.. وازرعوا لكل طفل يولد لكم نخلة وسدرة، مثلما فعلت معكم حتى يعشق أولادكم هذه الارض.
تعرضوا إلى هجوم مباغت من أعداء الله.. تدافع الأولاد ليحموا والدهم ويتصدوا للهجوم.. ولكن هيهات أن يمنعوا محباً عاشقاً يبغي الوصال.. فها هو موعد اللقاء يقترب... وما هي إلا ساعة وتعانق فيها الجنان روحه.. حمل على الأعداء وكأنه شاب في مقتبل العمر.. لم يكن يمنعه الرصاص والقنابل من الهجوم عليهم.. وكان أمر الله تعالى أن اصطفى حلمه.. وتحقّق الحلم، وعرجت روحه الطاهرة إلى جنات الخلد..
حمل الأولاد جنازة والدهم كما كان يحملهم وهم صغار إلى أشجارهم.. أودعوه في مثواه الأخير، وعادوا إلى ساحات القتال لينفذوا وصيته الأخيرة، ويكملوا ما بدأه والدهم الشيخ الشهيد..