لابد من تهيئة للموضوع، ومن تحضير معلومات عنه؛ لكي أكون عند حسن ظن الخليفة أبي جعفر المنصور في المناظرة التي ستجري بيننا:
يا أبا حنيفة، إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فهيّء له مسائلك الشداد، انا اعرف انه إمام من أئمة المسلمين، وعالم جليل، وعابد فاضل من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، وله مكانة جليلة عظيمة لدى جميع المسلمين.
واعرف انه لُقِبَ بالصادق؛ لأنه لم يُعرف عنه الكذب، ويعتبر الإمام السادس لدى الشيعة الاثني عشرية والإسماعيلية، وينسب إليه انتشار مدرستهم الفقهية والكلامية. ولذلك تُسمّى الشيعة الإمامية بالجعفرية، علم الإمام جعفر ومدرسته أساسٌ لكل طوائف المسلمين دون، وروى عنه كثير من كتَّاب الحديث السنة والشيعة على حدٍ سواء، وقد استطاع أن يؤسس في عصره مدرسة فقهية، تتلمذ على يده العديد من العلماء.
وهو من أوائل الرواد في علم الكيمياء، حيث تتلمذ على يديه أبو الكيمياء جابر بن حيان. كذلك فقد كان عالم فلك، ومتكلماً، وأديباً، وفيلسوفاً، وطبيباً، وفيزيائياً. لذلك لم تكن مهمتي سهلة في احراج عالم بمنزلة الامام الصادق.
حسب معلوماتي انه وُلد في المدينة المنورة بتاريخ 17 ربيع الأول سنة 80 هـ، وهي سنة سيل الجحاف الذي ذهب بالحجاج من مكة، والنبي محمد (ص) تنبّأ بولادته، وأنَّه هو من كنّاه بالصادق، آلت اليه الامامة وعمره 34 سنة.
ما ان تولّى المنصور الخلافة، وضع نصب عينيه مكانة جعفر الصادق (عليه السلام) والامام كان يدرك عاقبة السياسة ولا يأتمنها.
منذ أن أخذت الدولة الأموية تلفظ أنفساها الأخيرة، حاول ابو مسلم الخراساني أن يزجّ الإمام في الثورة العبَّاسيَّة، نظراً لكلمته المسموعة بين الشيعة، وبين سائر المسلمين الثائرين، لكنه رفض المشاركة في الثورة العبَّاسيَّة، وتملَّص من الدعوة، وتفرَّغ لعمله الأهم الذي يعتمد عليه قيام الدين الإسلامي في مواجهة الأفكار الدخيلة والمذاهب الفكريَّة المنحرفة عن الطريق الذي يدعو إليه الإسلام.
وقد استثمر الإمام جعفر انشغال أبي العبَّاس السفَّاح في بداية العهد العبَّاسي في القضاء على الفتن الصغيرة، وتوطيد دعائم الدولة الجديدة، فعمل على نشر العلم والدين والمعرفة، وحضر مجالسه علماء كبار، وتناقشوا في أمور الدين والدنيا، وقد أدَّت هكذا مناظرات إلى تشكيل المذاهب الإسلاميَّة الكبرى الباقية حتى العصر الحالي.
على الرغم من انصراف الإمام جعفر إلى شؤون العلم الديني والدنيوي وابتعاده عن السياسة، إلا أنه بقي محط أنظار الخليفة العبَّاسي، لا سيَّما وأن عدداً من أتباع زيد بن علي انضموا إلى مجالسه، واستمعوا لكلامه ومواعظه وإرشاداته، بعد أن لاحقهم العبَّاسيّون بلا هوادة، فأقدم العبَّاسيّون على اعتقال الصادق غير مرَّة، وزُجَّ بالسجن لفترة من الزمن على أمل أن تنقطع الصلة بينه وبين تلاميذه الذين يُحتمل أن يهددوا استقرار الدولة، وينفذوا انقلاباً على الخلافة.
وقد تحمَّل الصادق ما تعرَّض له من مضايقات من قِبل الحكومة العبَّاسيَّة، وصبر على الألم والاضطهاد، واستمر يقيم مجالسه العلميَّة ومناظراته الدينيَّة مع كبار علماء عصره من المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب والملاحدة.. هذه الامور وضعتها في حسباني، كما اني اعرف ان الامام الصادق واسع المعرفة غزير العلم، لذلك هيأت له، أربعين مسألة.
وبعد التحضير المناسب وتجهيز عدة معلوماتي، بعث إليَّ أبو جعفر وهو بالحيرة أتيته، دخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر [الصادق] ما لم يدخلني لأبي جعفر [المنصور]، فسلمت عليه فأومأ إليّ فجلست، ثم التفتّ إليه فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة، فقال: نعم أعرفه.
ثم التفتّ إليَّ فقال: ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك، فجعلت ألقي عليه ويجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا، وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلّ منها بشيء..!
ثم قال أبو حنيفة: "أليس قد روينا: أعلم الناس، أعلمهم باختلاف الناس؟!" قلت للخليفة: لو سألني احد من هو أفقه من رأيت؟ لأجبت: "جعفر بن محمد.. سلام الله عليه..".