بعدَ حادثة الهجوم المروعة على الدارِ ، وإحراقِ الباب، عاشت الحوراء زينب مِحنة المصاب، مع أخويهاَ الحسن والحسين (عليهما السلام) وبما أنّها هي الأقرب إلى أمِها، والمُلازمة لهاَ في مَرضِها، كانت تتألمّ بِشدة، لسماعِ أنينها مِن ضلعها المكسور، مع كل نفسٍ يصعدُ ، كمّاَ أنّها تذرفُ الدمعَ بغزارة، على جِسمها المُمدد بتجاهِ القبلة ، وقَدْ أنهكتهُ العلة حتّى أصبحَ ضعيفًا نحيفًا، كالخيالِ لا يقوى على القيامِ ، يفتقدها المحرابُ ليلًا والنَّاس نيام ، وعند الصباح يحنُ قطب الرحى إلى راحته ِالرقيقة، وهي تطحنُ حبات الشعير ، مع كل حبة تهليل وتكبير ، وهكذا حتّى يكتملُ رغيف البركة، وما ألذهُ مِن رغيفٍ إن لامسَتهُ الأناملُ الطاهرات.
تُطعم الصغارَ ابتسامةً مشرقة تبعث في قلوبهم الحبَ والحنان، والدفء والأمان، إلّا أنّ هذا الإشراق لمّ يُكتب لهُ البقاء، بل سُرعانَ ما زالَ عن ملامحِ الزهراء (عليها السلام) بلطمة الخدِ الفظيعة وجرح المسمار ، الذي توغلَ بصدرها بكلِ جَسارة ، هو ذاكَ الذي عجّلَ برحيلها تحتَ جنحِ الظلام، ولمّ يتمهل قليلًا حتّى يكبرَ الأيتام ، كماَ أنّهُ لم يدع الصّبية ذات الخمسّة أعوام
تنعم بوجودِ أمٍّ تقفُ إلى جنبها بالسراءِ والضراءِ ، وتشاطرها هموم الحياة، فمثلها لا تترك وحيدة فريدة مع العلمِ بما ستلاقيه من أشجانٍ وأرزاءٍ، بالأيامِ المقبلة وأعظمها رزيةُ كربلاء ، هذا ماَ سمعتهُ من جدهاَ المُصطفى، وأبيها علي المرتضى (صلوات الله عليهم) ومن بالكونِ أصدق منهما، كمّا سمعتهُ يقول لبضعتهِ الطاهرة: (أنتِ أولَ من يلحقني من أهلي) (١) ما أشجى هذه الكلمات ،
فالسماع شيء، والنظر إلى الأمِ الحبيبة وهي تُلفّ في أثوابِ الكفن شيء أخر، إنّها ساعة الرحيل وبعدهُ الفراق طَويل، فماَ عادَ أنينُ الضلعِ يُسمع لهُ صوت، ولا عينهاَ الحمراءَ تذرفُ الدمعَ دما، كل شيء أخرسهُ الحزنُ الثقيل، وهالهُ المصابُ الجلل، لاصوت ألم بعدَ هذا اليوم ، لقد أستراحة سيدة البيت العلوي ، ونساء الخلقِ أجمع ، لاشيء يزعجهاَ بعد ، مِن همومِ الدنيا التي صبت عليها مَصائبها، وفي أجواءِ الصمت هذه ، هناك صوتٌ وأحد ، هو من يتكلمُ ، إنّه بكاء الأب المَفجوع ، يا حسن يا حسين ويا زينب..وياأم كلثوم. هلّموا وتزوّدوا من أمّكم فهذا الفراق واللقاء في الجنّة! حينها أقبلَ الأيتام مسرعينَ نحو جسد الحبيبة، باكينَ نادبين وجعلوا يتساقطون عليه، كما يتساقط الفراش على السّراجِ، وأي سراجُ يضيء ليلهم وقَدْ انطفأ نور فاطم أمامَ أعينهم.
____
(١)ام أبيها في صحاحِ المسلمينَ ومساندهم /٩٧٢_٢٨٤