في ظلّ التطور التكنولوجي والمعلوماتي الذي يشهده العالم، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيرها الايجابي في تقدم المجتمع وتقارب أفراده إلا أن التأثيرات السلبية لاستخدام تلك التقنيات الحديثة، أخذت تطغى على إيجابياتها، مما دفع الكثيرين الى اتهام مواقع التواصل الاجتماعي بأنها بالمسؤولة عن التفسخ الأسري والمجتمعي في ظل ازدياد معدلات الانحلال الأخلاقي، وتفشي الخيانة الزوجية وانسلاخ هوية مجتمعاتنا الاسلامية وتمييع مفاهيمنا ومبادئنا بشكل كبير مما أدى الى ظهور جيل جديد الأعم الأغلب منه يفتقر للوعي، يعشش الجهل في باطنه وظاهره يعيش اللا مبالاة وعدم المسؤولية.
فهل مواقع التواصل الاجتماعي مدانة بشكل حقيقي بكل تلك التهم التي يوجهها البعض لها أم انها بريئة براءة الذئب من دم يوسف؟
وإن كانت بريئة ما هي الاسباب التي دفعت أفراد المجتمع للإسهام في التفسخ الأسري والمجتمعي عن طريق سوء استخدام التكنولوجيا الحديثة؟
وما هي السبل الكفيلة لتحصين افراد المجتمع الذي بدأ يهوي في منزلق خطير في تغيير المفاهيم وزرع ايديولوجيات مضادة لديننا وثوابتنا وفكرنا؟
وما بين جيل الشباب الذي بدأ يتخبط بعضه في استخدامه لمواقع التواصل الاجتماعي متأثرًا بالسموم الفكرية التي تدسّ في العسل وبمسميات حضارية براقة، وبعضهم الآخر يزداد صلابة في الايمان وقوة في المعتقد بل بالعكس نجد استثماره للتطور التكنولوجي بشكل عام ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص في تعزيز الفكر الصحيح الذي يتساوق مع العقل والمنطق والفطرة بقوة وعزم الشباب المعهودين.
وبين أولياء الأمور الذين يخشون على أولادهم من تبعات سوء استخدام تلك المواقع اضافة الى مسؤوليتهم الكبيرة في الحفاظ على أبنائهم.
وبين كل شرائح المجتمع التي تلقي بظلالها المهمة في تربية المجتمع على الوسطية في كل شيء فلا افراط ولا تفريط كانت لنا هذه الوقفة مع كل من ذكرنا.
بداية ننطلق من علم النفس التربوي ورؤيته تقول د. هناء عبد النبي العبادي/ أستاذ مساعد في جامعة البصرة كلية التربية للبنات قسم العلوم التربوية والنفسية:
تسهم العولمة ووسائل الاتصال ببعض التأثيرات الجانبية اذا لم تستخدم بالشكل الإيجابي، وتُستثمر لخدمة الأفراد علميًّا وتربويًّا، مما يسهم في تغيير القيم والمفاهيم والمعايير الأخلاقية وانزلاق للشباب وراء مغريات العصر في الملبس والهندام والتزيين بحيث يضمحل دور الآباء والأمهات بالنصح والتوجيهات ويعيش الوالدان في الآلام نفسية لشعورهم بخيبة أمل تجاه تربيتهم وإعدادهم لأبنائهم وبناء شخصياتهم وأخلاقهم.
ويشهد عالمنا الحاضر تبدل القيم والعادات والمثل وتقليد النماذج السيئة في الإعلام: كالتلفاز والصحف والمجلات، وشعور الشباب بأن هذا التقليد الأعمى مثل الثورة على النظم البالية، وهجر الضمير الإنساني والطامة الكبرى هي الابتعاد عن التوجهات الدينية والعقائد وتطبيقها بشكل شعارات دون الوعي بتمثيلها قلبًا وقالبًا.
ولا أحد يقدر النسب العالية لشبابنا وتوجههم نحو الفسق والمجون بارتكابهم معاصي يهتزّ لها جبين البشرية ودون شعورهم بالذنب من ارتكابهم لبعض الانحرافات والجرائم التي تسهم في انهيار المستقبل والدخول في وحل التمزق الإنساني.
وأضافت عن كيفية تحصين المجتمع من تأثير العولمة السلبي:
الحاجة الماسة الى مراكز متخصصة في الإرشاد النفسي والتوجيه التربوي للتعرف على مشكلات الشباب الخاصة والضغوط التي يتعرضون لها وتبيان الأضرار الناجمة من استخدام وسائل التواصل في مواطن سلبية تسيء للشخصية الانسانية وتتقبل الواقع بكل صوره وهمومه لنصل بهم الى الإبداع والتطور.
في الحقيقة، نحن بأمس الحاجة الى إجراءات عملية وقائية للتحصين وتوعية ثقافية ضد المؤثرات الخارجية، وهذا يتطلب تظافر الجهود بين الأسرة والمؤسسات التعليمية وتشخيص نقاط الخلل والوقوف عندها كما ونشد على أيدي رجال الدين والإعلام والتربويين بطرح المواضيع الحساسة واللقاءات والمحاضرات التي تظهر النظم الاخلاقية والتربوية وتحصينهم بالعلم والخلق والدين والاقتداء بالأفراد الصالحين ونبذ الممارسات الخاطئة التي تشوه الدين وتقلل من دوره في السواء والإصلاح.
أما عن الرؤية الاعلامية لهذه الموضوعة المهمة وطرق علاجها يقول الأستاذ سجاد الكنعان - إعلامي وناقد وأستاذ جامعي:
شكّلت الثورة المعلوماتية نتوءاً بارزاً في المعادلة التربوية والاخلاقية لبلادنا العربية والإسلامية، وبصرف النظر عن بعض الإيجابيات التي تترشح عن هذا النتوء، إلا أنها أسهمت الى حدّ بعيد في تهشيم الكثير من القيم والاعراف التي ظلّت عصية على التهشيم طوال قرون.
ومن هنا تأتي أهمية وخطورة العولمة بوصفها استراتيجية منظمة في سلخ الفرد الشرقي عن قيمه ومعتقداته أو على الأقل تشكيكه فيها وادخال المغالطات والتساؤلات المنمّقة لفظياً وإعلامياً والفارغة من جهة المحتوى الى شريحة الشباب بالتحديد.
علي حسين الخباز, [١٤/٠٣/٢٠٢٢ ١٢:٤٨ م]
وقد اشتغلت الدوائر المغلقة والمظلمة على ذلك كثيراً حتى إن بعض الكتاب الغربيين صنّفوا كتباً في هذا الاتجاه، فمتى كانت الاستهانة بقيم السماء أو ازدراء شخصيات الاسلام العظيمة سهلة على الفرد المسلم إلا بعد هذه الثورة المعلوماتية (الموجّهة)؟ ومتى كان الأب يخشى على ابنته او زوجته عندما يخرج من البيت مع علمه بأنهم لن يخرجوا لأحد أو يلتقوا بأحد إلا بعد أن أصبح بالإمكان كشف عورة البيت بكبسة زر بسيطة.
لقد أثبتت التجارب والاحصائيات ان وسائل التواصل الاجتماعي غدت الهمّ الأكبر الذي يشغل المربين والموجهين وأولياء الامور بالنظر لعدم أهلية المستخدمين من جهة وعدم وجود الارضية المعرفية والأخلاقية الصلبة التي تؤهل المستخدم لاكتساب التحصين ضد اغراءاتها، ولذلك أنا أدعو لوضع اللقاح الذي يتحدد في هذين الأمرين السالفين، وعدم انتظار وقوع المرض والسعي لمعالجته؛ لأن التفكك الأسري إذا حدث نتيجة الخيانة أو غيرها، فحينئذ يستعصي العلاج على وفق النتائج الكارثية التي من الممكن أن تحدث في المجتمع.
كما أجاب عن كيفية تحصين أنفسنا وشبابنا ومجتمعنا من خطر تمييع الثوابت الاسلامية عن طريق العولمة ووسائل التواصل تحت عنوان التطور والحضارة فقال:
أعتقد أن الاجابة عن هذا السؤال العريض لا يمكن ان يتم بهذه البساطة أو بهذا الشكل السريع؛ لأن الكثير من المختصين والمتابعين للشأن التربوي والمعنيين بمراقبة المسار الاجتماعي كتبوا وتحدثوا كثيراً هنا، إلا اننا يمكن أن نقول: إن سؤال التحصين يفرض نفسه في كل فترة زمنية، وما يجب أن ينظر اليه هو خصوصية كل فترة.
ومن هنا نضع الخطوة الأولى عند اعتبابه وهي خطوة نتيجة التشخيص المرحلي، وهي أُس المراحل التي لا يمكن تجاوزها، فاذا تمّ تشخيص الخطر بشكل دقيق وفق خصوصية وسياقات المرحلة الزمنية المُعاشة أمكن الوصول الى محصنات حقيقية تقي من خطره.
وهنا يجب النظر الى أهم نقطة في هذا الاتجاه وهي الخطوة الثانية التي تتمثل في الأدوات أو لنقل النُظُم الاجرائية المتبعة في سبيل تحصين المجتمع ولاسيما الشباب.
وأعتقد أن أهم نقطة هو وضع القدوة الحسنة والصحيحة فالقدوة الاسلامية التي لا يمكن اختراقها اخلاقياً هي السبيل الأقصر والأمثل لذلك، فعندما نتخيّر القدوة الحقيقية للشاب ونعرضه عليه مع كل ما يمتلك من إرث وفكر وسيرة لا يمكن معها أن تعمل التيارات المعادية للإسلام من بث تخرصاتها أمكننا أن نغرس كل مفاهيم ومبتنيات وقيم هذا القدوة في ذلك الشاب وبفترة قصيرة جداً، بخلاف ما لو جلسنا ننتظر كيف يعمل بعد قراءته الكتب.
وهنا أود الاشارة الى نقطة في غاية الاهمية، وهي أن انتاجنا لقدوات مربكة وغير جديرة وغير منضبطة أخلاقياً وتربوياً وفكرياً مكّن الآخر من هدم قيمنا عن طريق هدم القدوة فقط، ولذلك فإن المسؤولية عظيمة وخطرة وجليلة.
بقي أن نقول: إن أغلب الشباب المندفعين اليوم متزوجون حديثاً ولديهم أطفال، وهذا الطفل يرى في أبيه قدوة الحياة، وهنا تتضاعف المسؤولية باتجاه تصحيح مسار هذا الشاب قبل أن يكون قدوة غير صالحة لأبنائه فيتبنون أفكاره قبل التصحيح، وهنا تحدث الكارثة على مستوى المستقبل.
إذن، أعتقد أننا جميعاً مسؤولون عن عرضنا للقيادات وتلميعها أمام الآخر، فربما وضعنا قدوة غير مؤهل، والعكس صحيح فنحن مسؤولون عن عدم إسقاط المؤهلين، فربما حرمنا الناس من قدوة حسنة تشكّل حصناً آمناً لمجتمعنا وقيمنا وديننا وثوابتنا.
واختصرت الاعلامية الأستاذة إسراء الفضلي الموضوع بقولها:
بالنسبة للعولمة ووسائل التواصل الالكترونية لا يخفى مدى تأثيرها الواضح على معالم مجتمعاتنا العربية والاسلامية ومدى الاستجابة السريعة سرعة البرق لما تبثه تلك الحرب الناعمة من أفكار سلبية تسلخ هويتنا كمسلمين، وتحاول إضفاء سمة الانحلال الاخلاقي بدعوى التحرر وفك القيود، لكن السؤال نفسه يجيب عن نفسه عندما يطرح: ما هي الأسباب الحقيقية لذلك وما هي طرق معالجتها؟
بالتأكيد كل شخص منجرف مع هذا التيار يمتلك في قرارة نفسه الاجابة عن هذا التساؤل، لكنه يخفي الحقيقة على مضض على نفسه أولًا، ثم المجتمع ثانيًا، انطلاقًا من الحديث الذي يقول: ميدانكم أنفسكم، فالإنسان هو من يكون مسؤولًا عن تصرفاته إن كانت مسؤولة أو لا، وهو من يتحكم في تلك الوسائل؛ كونها وسيلة أولًا وأخيرًا وليست غاية.