كنتُ ككل البشر، اعيش حياة رتيبة مملة في (مياه جهينة حول المدينة المنورة يُقال لها: وادي الصفراء وهو واد كثير النخل والزرع، وماؤها عيون كلها، وهي فوق ينبع مما يلي المدينة)(١) حتى تناهى الى سمعي ان موكب الامام الحسين عليه السلام قد مر بنا لم اتوانَ لحظة في التفكير للالتحاق به لانه الامام المعصوم وهو الذي يمثّل الحق والعدل في زمن الظلم والضياع والضلال
كنتُ اعلم ان من يتحدى يزيد وحكومته الجائرة مصيره القتل
لم يرهبني الموت في ركاب سيد شباب اهل الجنة فتبعت قافلته الشريفة مع من كان معه في رحلة نحو الملكوت لاحقاق الحق.
كانت الامور تسير على ما كنت اتأمله حتى وصلنا الى منزل زُبالة(٢) تغيّر وجه الامام وصوته ودعا جميع من كان معه ليقرأ عليهم كتابا وصله من الكوفة
(بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعدُ: فإِنّه قد أتانا خبرٌ فظيعٌ قَتْلُ مسلمِ بنِ عقيلٍ، وهانيِ بنِ عُروةَ، وعبدِاللّهِ بنِ يَقْطُرَ، وقد خَذَلَنا شيعتُنا، فمن أحبَّ منكم الإنصرافَ فلينصرفْ غيرَ حَرِجٍ، ليسَ عليه ذمامُ.
فتفرّقَ النّاسُ عنه وأخذوا يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر يسير ممن انضووا إليه. وإنما فعل ذلك لأنه عليه السلام علم أن الأعراب الذين اتبعوه إنما اتبعوه وهم يظنون أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون)(٣).
التفتُّ من حولي واذا بالكثير من اصحاب الامام تقبّلوا رخصة الامام الحسين لهم بالانصراف عنه وكأنهم ينتظرونها منه، لم اصدق عينيّ وهي ترى جميع الأعراب انفضوا من حول الامام وبقيت انا الوحيد منهم ملازما له مرّحبا بالموت في رحاله وان اعطاني الرخصة من امري لم ارتضِ الموت الا بين يديه.
ففي لحظة معينة واستثنائية عندما تتسارع الاحداث المصيرية نحو صراعات لا تتحدد وجهتها للبعض يعمل العقل على معرفة الحق واتباع اهله
انا لم افكر اصلا بالانصراف عنه لانني على يقين تام انه الحق ووطّنت نفسي على ان افتديه بروحي عندما التحقت به، واكملتُ معه مسيرته حتى وصلنا الى كربلاء فاستنشقتُ عطر الشهادة يفوح في الارجاء وسمعتُ مولاي ابا عبد الله الحسين يقول: (هاهنا محط رحالنا ومسفك دمائنا وهنا محل قبورنا بهذا حدثني جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(٤) فأيقنتُ بقرب حلول الشهادة في ركب امام زماني، فإستبشرت فرحا وعاهدت نفسي ان أُقتل دونه واهل بيته الاشراف.
وحان يوم الطف وبرزت للميدان في الحملة الاولى وقبل استشهادي
وددت لو ان قومي من الاعراب الذين انفضوا من حول الامام يشموا ريح الجنة التي شممتها الآن ويكرمهم الله بالشهادة بين يديّ امام زمانهم فتذكرتُ قول امامي الحسين: (إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون)(٥) فحمدتُ الله أنني لستُ منهم ودخلتُ انا عباد بن المهاجر الجهني التاريخ من اشرف ابوابه، بوابة عاشوراء.
الهوامش:
(١) انظر: الحائري، ذخير الدارين، ص ٤٥٩.
(٢)زُبالة: من المنازل القديمة الواقعة على طريق الحجاز والكوفة بين منزلي الشقوق والقاع.
(٣)المفيد، الارشاد، ج٢، ص٧٥-٧٦.
(٤) ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص٤٩.
(٥)ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص٢٤٥