بسم الله الرحمن الرحيم
في سورة مريم: يقول الربّ بلسان السيد المسيح: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(1) بمعنى أنَّ المسيح مرّ بكلِّ المراحل التي نمرُّ بها نحن البشر حسب كلِّ العقائد الدينية (بما فيها أديان الشرق القديم التي سبقت اليهودية والمسيحية والإسلام)، وهنا لا غبار على هذا القول، ولكن فجأةً يقول القرآن في سورة النساء: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾(2) إلى قوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾(3) أي إنَّه رُفع حيَّاً ولم يُقتل أو يموت.
الجواب:
نعم، السيِّد المسيح سوف يموت:
لا ريب في دلالة الآية من سورة مريم (ع) على أنَّ السيِّد المسيح يموت يوماً ما، وأمَّا أنَّه قد وقع عليه الموت فعلاً فهو ممَّا لم تتصدَ الآية لإثباته أو نفيه، فدعوى أنَّ الآية مقتضية للدلالة على انَّ السيِّد المسيح قد مرَّ فعلاً بجميع المراحل التي يمرُّ بها عموم البشر ليست تامَّة، نعم هي مقتضية للدلالة على أنَّ السيد المسيح سوف تُصادفه جميع المراحل التي هي حتمٌ على عموم البشر بما في ذلك الموت، فهذا هو أقصى ماتدلُّ عليه الآية المباركة، فهي إنَّما كانت تحكي ما نطَقَ به السيِّد المسيح وهو في المهد وحينذاك لم يكن قد صادفه الموت ولم يكن قد تجاوز المرحلة الأولى من المراحل التي يمرُّ بها الإنسان وهي الولادة، لذلك عبَّر عن هذه المرحلة بالفعل الماضي فقال: ﴿يَوْمَ وُلِدْتُ﴾، وأما حين تحدَّث عن المرحلة الثانية وهي الموت عبَّر عنها بالفعل المضارع المفيد للإستقبال فقال: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ فالموت لم يكن قد وقع عليه حينذاك ولا بعده بسنين، فهو إذن كان يُخبر عن أنَّ الموت سوف يُصادفه يوماً ما إلا أنَّه لم يُحدِّد ذلك اليوم وهل سيطولُ أمدُه أم لا.
وأما الآية من سورة النساء فهي متصدِّية لنفي ما يعتقده اليهود من أنَّهم قد قتلوا السيِّد المسيح وصلبوه، وكذلك هي تنفي ما يعتقدُه النصارى من أنَّه كان قد قُتل حقاً وقد تمَّ صلبُه.
فهي تنفي دعوى أنَّ مصير السيِّد المسيح (ع) كان بالنحو الذي يعتقده أهل الكتاب، وليست بصدد النفي لوقوع الموت عليه ولو بعد حين، طال أمدُه أو قصُرَ، فإنَّ ذلك ممَّا لم تكن الآية بصدد نفيه أو إثباته.
وأمَّا قوله تعالى في الآية التي بعدها: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ فأقصى ما يقتضيه ظهورها هو أنَّ السيِّد المسيح (ع) قد تمَّ رفعه من الأرض، وذلك لا يعني أنَّه لن يموت أبداً حتى يكون ما ورد في هذه الفقرة من الآية منافياً لما ورد في سورة مريم من أنَّ الموت سوف يُصادفُ السيدَ المسيح كما هو شأن سائر الناس، فرفعُ السيِّد المسيح حيَّاً لا يمنع من وقوع الموت عليه بعد ذلك ولو بإرجاعه إلى الأرض وعند حلول أجله يقبض اللهُ تعالى روحه فيُصبح عند ذلك في الأموات أو إماتته وهو في المحلِّ الذي رُفع إليه، فكلُّ ذلك لا تنفيه الآية التي أفادت أنَّ الله تعالى قد رفع عيسى (ع) إليه.
بحث في مناشئ دعوى التنافي:
أ- إستظهار أنَّه مات من قوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾:
فدعوى التنافي بين قوله تعالى على لسان عيسى: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ وبين قوله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾(4) إلى قوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ إذا كانت ناشئة عن استظهار تحقُّق الموت لعيسى من قوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ فذلك من الوهم البيِّن كما اتَّضح، إذ أنَّ قوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ لم يكن سوى إخبارٍ منه عن أنَّ الموت سوف يقع عليه كما هو شأن سائر البشر، فمِن السفاهة بمكان توهُّم أنَّ عيسى (ع) كان يُخبر عن نفسه وهو في المهد أنَّه قد مات فعلاً.
فحيث إنَّ الآية لا تدلُّ على اكثر من الإخبار عن أنَّه سيموت لذلك لا تكون منافية لإنكار القرآن قتله وصلبه، لأنَّ الآية من سورة مريم وإنْ كانت قد أخبرت عن أنَّه سوف يموت لكنَّها لم تُخبر عن أنَّ موته سوف يكون بالقتل والصلب، وكذلك فإنَّ إخبار القرآن عن رفعه لا يُنافي ما أفادته الآية من سورة مريم، إذ أنَّ أقصى ما دلَّت عليه الآية من سورة مريم أنَّه سوف يموت، فهي لم تُخبر عن أنَّه سوف يموت قبل رفعه حتى يكون رفعه حيَّاً منافياً لما أفادته الآية من سورة مريم، كما أنَّ الرفع لا يمنع من حتميَّة وقوع الموت عليه ولو بعد حين.
ب- إستظهار أنَّه مات لقوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ ..﴾:
وإذا كانت دعوى التنافي ناشئة عن إستظهار إرادة الموت من كلمة الرفع، فتكون آية: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ منافية لقوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ على أساس أنَّ معنى الموت المُستظهَر من قوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ هو الموت المتعارف أي الذي يكون بمثل القتل أو المرض أو ما أشبه ذلك، وأما الموت بنحو الرفع فهو ليس من الموت المتعارف فيكون بين الآيتين تنافٍ، لأنَّ الآية من سورة مريم تُخبر عن أنَّ عيسى سوف يموت بالموت المتعارف، والآية من سورة النساء أخبرت أنَّ عيسى مات بالرفع.
فلو كان ذلك هو منشأ دعوى التنافي بين الآيتين فجوابه إنَّ إستظهار معنى الموت من لفظ الرفع الوارد في الآية ليس تامَّاً، ولو سلَّمنا جدلاً أنَّ معنى الرفع في الآية هو الموت فإنَّ إستظهار ذلك لا ينتهي إلى وقوع التنافي بين آية الرفع والآية من سورة مريم، وذلك لأنَّ الآية من سورة مريم أفادت أنَّ عيسى سوف يموت، ومعنى أنَّه سوف يموت هو أنَّ روحه سوف تُفارق جسده فيُصبح جسده جثةً هامدة لا حراك فيها ولا حياة، فهذا هو المتبادر عرفاً من معنى الموت، فليس لمنشأ المفارقة للحياة ولا لموضع تحقُّقها ولا لكيفيَّة وقوعها دخلٌ في صدق عنوان الموت عليها بل إنَّ مجرد المفارقة للحياة وصيرورة الجسد جثةً لا حِراك فيها يُصحِّح عرفاً صدق عنوان الموت.
الموت بالرفع يعني انَّه لم يمت بالصلب والقتل:
وعليه فموتُ عيسى (ع) بالرفع لو كان مُسلَّماً فإنَّه محقِّقٌ للآية من سورة مريم لا أنَّه مناف لها، وذلك لأنَّ عيسى في الآية المذكورة أخبر عن أنَّه سوف يموت وهاهي الآية من سورة النساء تُصدِّق قوله وتُخبِر عن أنَّ عيسى قد وقع عليه الموت، نعم لو كان عيسى (ع) قد أخبر في سورة مريم انَّه سوف يموت بالقتل أو المرض أوما أشبه ذلك فإنَّ موته بعد ذلك بالرفع يكون منافياً لما أخبر به عن نفسه في سورة مريم إلا أنَّ الأمر لم يكن كذلك، إذ لم يُخبِر عيسى في الآية المذكورة عن أكثر من أنَّه سوف يموت أي أنَّ روحه سوف تُفارقُ جسده.
ومتى تحقَّق ذلك في سماءٍ او أرض بالأسباب الطبيعية أو غيرها فإنَّ وقوع ذلك يكون تحقيقاً لما أخبر به عن نفسه من وقوع الموت عليه، فتكون آية الرفع مُصدِّقة للآية من سورة مريم لا أنَّها مناقضة لها.
ج- توهُّم أنَّ رفعه للسماء يقتضي إمتناع موته:
وإذا كان منشأ دعوى التنافي توهُّم أنَّ مقتضى الرفع هو إمتناع وقوع الموت على عيسى، وذلك لأنَّ صيرورته في الملاء الأعلى ينفي إمكانيَّة وقوع الموت عليه، وبه تكون آية الرفع منافية للآية من سورة مريم، حيث إنَّها أخبرت عن أنَّ عيسى سوف يموت وآية الرفع تنفي إمكانيَّة وقوع الموت عليه.
إحتمالان وجوابان:
أ- إنْ رُفع ميِّتاً فلا معنى لموته بعد ذلك!
فالجواب هو أنَّه إن كان المقصود من هذه الدعوى هو فهم الرفع على أنَّه يعني القبض لروح عيسى وفصلها عن جسده ثم العروج بها حيثُ الملاء الأعلى فهذه هي الإماتة التي عالجنا إحتمال إرادتها من مدلول آية الرفع وقلنا إنَّه لوكان ذلك هو مدلول الرفع لكانت آية الرفع مصدِّقة للآية من سورة مريم لا أنَّها منافية لها.
فالرفع بهذا المعنى وإنْ كان يقتضي أنَّ عيسى لن يموت بعده إلا أنَّ عدم موته نشأ عن انَّه قد مات ولا معنى لأنَّ يموت بعد موته إلا أنْ يتعقَّب موتَه حياة لكن ذلك خارج عن مورد الفرض.
ب- إنْ رُفع حيَّاً فما المانع من موته بعدذلك؟!
وإنْ كان المقصود من هذه الدعوى هو فهم الرفع على أنَّه يعني أخذ عيسى حيَّاً حيث الملاء الأعلى فذلك لا إشكال فيه إلا أنَّ الأثر المدَّعى ترتُّبه على هذا الفرض وهو إمتناع موته بعد صيرورته في الملاء الأعلى، هذا الأثر وهذه النتيجة باطلة جزماً، إذ لا ريب أنَّ مَن هم في الملاء الأعلى يموتون كما أنَّ أهل الأرض يموتون، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ / وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾(5).
فأخذُ عيسى حيَّاً إلى الملاء الأعلى لا يمنع من وقوع الموت عليه عند حلول أجله المسمَّى له عند ربِّه جلَّ وعلا، ولهذا لا تكون آية الرفع منافية للآية من سورة مريم، لأنَّ أقصى ما تدلُّ عليه آية الرفع هو أنَّ عيسى قد رُفع حيث الملاء الأعلى حيَّاً لكنَّها لا تدلُّ على أنَّ حياته ستبقى للأبد، فهي لا تُثبت الأبديَّة لحياته حتى تكون منافية للآية من سورة مريم وغيرها من الآيات التي تدلُّ على انَّ عيسى يموت عند حلول أجله.
الحقيقة والصدمة:
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه هو أنَّه لاوجه لدعوى التنافي بين آية الرفع ونفي القتل والصلب وبين الآية من سورة مريم، وإنَّ شعور المُثير للشبهة بالصدمة والمفاجئة من آية نفي القتل والصلب عن السيِّد المسيح لم ينشأ عن توهُّم التنافي بين الآيتين وإنَّما نشأ عن أنَّ آية نفي القتل والصلب قد أحدثَتْ شرخاً في نفسه ومشاعره لمنافاتها لواحدٍ من أُصول ما يعتقده في مصير السيِّد المسيح (ع)، فهو قد نشأَ على الإعتقاد بأنَّ المسيح المخلِّص قد فدى الخاطئين بدمه وكان إرتفاع جسده على أعواد الصليب كفارةً يدرأُ بها عن الخاطئين ما كانوا قد اجترحوه في حقِّ الرب، فهو بجسده المعلَّق على الصليب وبدمه النازف يكون قد طهَّر الإنسان من الخطايا، فلأنَّ مُثير الشبهة كان قد نشأ على ذلك فحين بدَّد القرآنُ هذا الوهم بقوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ شعُرَ بالصدمة، ذلك لأنَّ الآية قد فاجئته بما لم يكن ينتظرُه فأخذ يخبطُ عشواءَ يبحث عمَّا يُعيدُ إلى قلبه سكونَه شأنُه شأنُ كلِّ من أَلِفَ الوهم وأَنِسَ به فإنَّ مثله يستوحشُ الحقيقة، فإذا ما برقتْ في عينه غضَّ عن لمعانها طرفَهُ وأشاح عنها وجهه.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
من كتاب شبهات مسيح
في سورة مريم: يقول الربّ بلسان السيد المسيح: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(1) بمعنى أنَّ المسيح مرّ بكلِّ المراحل التي نمرُّ بها نحن البشر حسب كلِّ العقائد الدينية (بما فيها أديان الشرق القديم التي سبقت اليهودية والمسيحية والإسلام)، وهنا لا غبار على هذا القول، ولكن فجأةً يقول القرآن في سورة النساء: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾(2) إلى قوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾(3) أي إنَّه رُفع حيَّاً ولم يُقتل أو يموت.
الجواب:
نعم، السيِّد المسيح سوف يموت:
لا ريب في دلالة الآية من سورة مريم (ع) على أنَّ السيِّد المسيح يموت يوماً ما، وأمَّا أنَّه قد وقع عليه الموت فعلاً فهو ممَّا لم تتصدَ الآية لإثباته أو نفيه، فدعوى أنَّ الآية مقتضية للدلالة على انَّ السيِّد المسيح قد مرَّ فعلاً بجميع المراحل التي يمرُّ بها عموم البشر ليست تامَّة، نعم هي مقتضية للدلالة على أنَّ السيد المسيح سوف تُصادفه جميع المراحل التي هي حتمٌ على عموم البشر بما في ذلك الموت، فهذا هو أقصى ماتدلُّ عليه الآية المباركة، فهي إنَّما كانت تحكي ما نطَقَ به السيِّد المسيح وهو في المهد وحينذاك لم يكن قد صادفه الموت ولم يكن قد تجاوز المرحلة الأولى من المراحل التي يمرُّ بها الإنسان وهي الولادة، لذلك عبَّر عن هذه المرحلة بالفعل الماضي فقال: ﴿يَوْمَ وُلِدْتُ﴾، وأما حين تحدَّث عن المرحلة الثانية وهي الموت عبَّر عنها بالفعل المضارع المفيد للإستقبال فقال: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ فالموت لم يكن قد وقع عليه حينذاك ولا بعده بسنين، فهو إذن كان يُخبر عن أنَّ الموت سوف يُصادفه يوماً ما إلا أنَّه لم يُحدِّد ذلك اليوم وهل سيطولُ أمدُه أم لا.
وأما الآية من سورة النساء فهي متصدِّية لنفي ما يعتقده اليهود من أنَّهم قد قتلوا السيِّد المسيح وصلبوه، وكذلك هي تنفي ما يعتقدُه النصارى من أنَّه كان قد قُتل حقاً وقد تمَّ صلبُه.
فهي تنفي دعوى أنَّ مصير السيِّد المسيح (ع) كان بالنحو الذي يعتقده أهل الكتاب، وليست بصدد النفي لوقوع الموت عليه ولو بعد حين، طال أمدُه أو قصُرَ، فإنَّ ذلك ممَّا لم تكن الآية بصدد نفيه أو إثباته.
وأمَّا قوله تعالى في الآية التي بعدها: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ فأقصى ما يقتضيه ظهورها هو أنَّ السيِّد المسيح (ع) قد تمَّ رفعه من الأرض، وذلك لا يعني أنَّه لن يموت أبداً حتى يكون ما ورد في هذه الفقرة من الآية منافياً لما ورد في سورة مريم من أنَّ الموت سوف يُصادفُ السيدَ المسيح كما هو شأن سائر الناس، فرفعُ السيِّد المسيح حيَّاً لا يمنع من وقوع الموت عليه بعد ذلك ولو بإرجاعه إلى الأرض وعند حلول أجله يقبض اللهُ تعالى روحه فيُصبح عند ذلك في الأموات أو إماتته وهو في المحلِّ الذي رُفع إليه، فكلُّ ذلك لا تنفيه الآية التي أفادت أنَّ الله تعالى قد رفع عيسى (ع) إليه.
بحث في مناشئ دعوى التنافي:
أ- إستظهار أنَّه مات من قوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾:
فدعوى التنافي بين قوله تعالى على لسان عيسى: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ وبين قوله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾(4) إلى قوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ إذا كانت ناشئة عن استظهار تحقُّق الموت لعيسى من قوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ فذلك من الوهم البيِّن كما اتَّضح، إذ أنَّ قوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ لم يكن سوى إخبارٍ منه عن أنَّ الموت سوف يقع عليه كما هو شأن سائر البشر، فمِن السفاهة بمكان توهُّم أنَّ عيسى (ع) كان يُخبر عن نفسه وهو في المهد أنَّه قد مات فعلاً.
فحيث إنَّ الآية لا تدلُّ على اكثر من الإخبار عن أنَّه سيموت لذلك لا تكون منافية لإنكار القرآن قتله وصلبه، لأنَّ الآية من سورة مريم وإنْ كانت قد أخبرت عن أنَّه سوف يموت لكنَّها لم تُخبر عن أنَّ موته سوف يكون بالقتل والصلب، وكذلك فإنَّ إخبار القرآن عن رفعه لا يُنافي ما أفادته الآية من سورة مريم، إذ أنَّ أقصى ما دلَّت عليه الآية من سورة مريم أنَّه سوف يموت، فهي لم تُخبر عن أنَّه سوف يموت قبل رفعه حتى يكون رفعه حيَّاً منافياً لما أفادته الآية من سورة مريم، كما أنَّ الرفع لا يمنع من حتميَّة وقوع الموت عليه ولو بعد حين.
ب- إستظهار أنَّه مات لقوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ ..﴾:
وإذا كانت دعوى التنافي ناشئة عن إستظهار إرادة الموت من كلمة الرفع، فتكون آية: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ منافية لقوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ على أساس أنَّ معنى الموت المُستظهَر من قوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ هو الموت المتعارف أي الذي يكون بمثل القتل أو المرض أو ما أشبه ذلك، وأما الموت بنحو الرفع فهو ليس من الموت المتعارف فيكون بين الآيتين تنافٍ، لأنَّ الآية من سورة مريم تُخبر عن أنَّ عيسى سوف يموت بالموت المتعارف، والآية من سورة النساء أخبرت أنَّ عيسى مات بالرفع.
فلو كان ذلك هو منشأ دعوى التنافي بين الآيتين فجوابه إنَّ إستظهار معنى الموت من لفظ الرفع الوارد في الآية ليس تامَّاً، ولو سلَّمنا جدلاً أنَّ معنى الرفع في الآية هو الموت فإنَّ إستظهار ذلك لا ينتهي إلى وقوع التنافي بين آية الرفع والآية من سورة مريم، وذلك لأنَّ الآية من سورة مريم أفادت أنَّ عيسى سوف يموت، ومعنى أنَّه سوف يموت هو أنَّ روحه سوف تُفارق جسده فيُصبح جسده جثةً هامدة لا حراك فيها ولا حياة، فهذا هو المتبادر عرفاً من معنى الموت، فليس لمنشأ المفارقة للحياة ولا لموضع تحقُّقها ولا لكيفيَّة وقوعها دخلٌ في صدق عنوان الموت عليها بل إنَّ مجرد المفارقة للحياة وصيرورة الجسد جثةً لا حِراك فيها يُصحِّح عرفاً صدق عنوان الموت.
الموت بالرفع يعني انَّه لم يمت بالصلب والقتل:
وعليه فموتُ عيسى (ع) بالرفع لو كان مُسلَّماً فإنَّه محقِّقٌ للآية من سورة مريم لا أنَّه مناف لها، وذلك لأنَّ عيسى في الآية المذكورة أخبر عن أنَّه سوف يموت وهاهي الآية من سورة النساء تُصدِّق قوله وتُخبِر عن أنَّ عيسى قد وقع عليه الموت، نعم لو كان عيسى (ع) قد أخبر في سورة مريم انَّه سوف يموت بالقتل أو المرض أوما أشبه ذلك فإنَّ موته بعد ذلك بالرفع يكون منافياً لما أخبر به عن نفسه في سورة مريم إلا أنَّ الأمر لم يكن كذلك، إذ لم يُخبِر عيسى في الآية المذكورة عن أكثر من أنَّه سوف يموت أي أنَّ روحه سوف تُفارقُ جسده.
ومتى تحقَّق ذلك في سماءٍ او أرض بالأسباب الطبيعية أو غيرها فإنَّ وقوع ذلك يكون تحقيقاً لما أخبر به عن نفسه من وقوع الموت عليه، فتكون آية الرفع مُصدِّقة للآية من سورة مريم لا أنَّها مناقضة لها.
ج- توهُّم أنَّ رفعه للسماء يقتضي إمتناع موته:
وإذا كان منشأ دعوى التنافي توهُّم أنَّ مقتضى الرفع هو إمتناع وقوع الموت على عيسى، وذلك لأنَّ صيرورته في الملاء الأعلى ينفي إمكانيَّة وقوع الموت عليه، وبه تكون آية الرفع منافية للآية من سورة مريم، حيث إنَّها أخبرت عن أنَّ عيسى سوف يموت وآية الرفع تنفي إمكانيَّة وقوع الموت عليه.
إحتمالان وجوابان:
أ- إنْ رُفع ميِّتاً فلا معنى لموته بعد ذلك!
فالجواب هو أنَّه إن كان المقصود من هذه الدعوى هو فهم الرفع على أنَّه يعني القبض لروح عيسى وفصلها عن جسده ثم العروج بها حيثُ الملاء الأعلى فهذه هي الإماتة التي عالجنا إحتمال إرادتها من مدلول آية الرفع وقلنا إنَّه لوكان ذلك هو مدلول الرفع لكانت آية الرفع مصدِّقة للآية من سورة مريم لا أنَّها منافية لها.
فالرفع بهذا المعنى وإنْ كان يقتضي أنَّ عيسى لن يموت بعده إلا أنَّ عدم موته نشأ عن انَّه قد مات ولا معنى لأنَّ يموت بعد موته إلا أنْ يتعقَّب موتَه حياة لكن ذلك خارج عن مورد الفرض.
ب- إنْ رُفع حيَّاً فما المانع من موته بعدذلك؟!
وإنْ كان المقصود من هذه الدعوى هو فهم الرفع على أنَّه يعني أخذ عيسى حيَّاً حيث الملاء الأعلى فذلك لا إشكال فيه إلا أنَّ الأثر المدَّعى ترتُّبه على هذا الفرض وهو إمتناع موته بعد صيرورته في الملاء الأعلى، هذا الأثر وهذه النتيجة باطلة جزماً، إذ لا ريب أنَّ مَن هم في الملاء الأعلى يموتون كما أنَّ أهل الأرض يموتون، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ / وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾(5).
فأخذُ عيسى حيَّاً إلى الملاء الأعلى لا يمنع من وقوع الموت عليه عند حلول أجله المسمَّى له عند ربِّه جلَّ وعلا، ولهذا لا تكون آية الرفع منافية للآية من سورة مريم، لأنَّ أقصى ما تدلُّ عليه آية الرفع هو أنَّ عيسى قد رُفع حيث الملاء الأعلى حيَّاً لكنَّها لا تدلُّ على أنَّ حياته ستبقى للأبد، فهي لا تُثبت الأبديَّة لحياته حتى تكون منافية للآية من سورة مريم وغيرها من الآيات التي تدلُّ على انَّ عيسى يموت عند حلول أجله.
الحقيقة والصدمة:
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه هو أنَّه لاوجه لدعوى التنافي بين آية الرفع ونفي القتل والصلب وبين الآية من سورة مريم، وإنَّ شعور المُثير للشبهة بالصدمة والمفاجئة من آية نفي القتل والصلب عن السيِّد المسيح لم ينشأ عن توهُّم التنافي بين الآيتين وإنَّما نشأ عن أنَّ آية نفي القتل والصلب قد أحدثَتْ شرخاً في نفسه ومشاعره لمنافاتها لواحدٍ من أُصول ما يعتقده في مصير السيِّد المسيح (ع)، فهو قد نشأَ على الإعتقاد بأنَّ المسيح المخلِّص قد فدى الخاطئين بدمه وكان إرتفاع جسده على أعواد الصليب كفارةً يدرأُ بها عن الخاطئين ما كانوا قد اجترحوه في حقِّ الرب، فهو بجسده المعلَّق على الصليب وبدمه النازف يكون قد طهَّر الإنسان من الخطايا، فلأنَّ مُثير الشبهة كان قد نشأ على ذلك فحين بدَّد القرآنُ هذا الوهم بقوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ شعُرَ بالصدمة، ذلك لأنَّ الآية قد فاجئته بما لم يكن ينتظرُه فأخذ يخبطُ عشواءَ يبحث عمَّا يُعيدُ إلى قلبه سكونَه شأنُه شأنُ كلِّ من أَلِفَ الوهم وأَنِسَ به فإنَّ مثله يستوحشُ الحقيقة، فإذا ما برقتْ في عينه غضَّ عن لمعانها طرفَهُ وأشاح عنها وجهه.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
من كتاب شبهات مسيح