غابَ وحُجِبت أنواره عن شيعته ومُحبيه، واكتوى بنارِ الغربة قلب مواليه، باتوا يتوسلون للمثول بين يديه، ويبذلون الأموال ويتحملون الصعاب في سبيل الحظوة بنظرةٍ إلى عينيه.
يدخلون إلى زنزانته المُظلمة مُحمّلين بالأشواقِ والأسئلة، ويخرجون من طامورته بإجاباتٍ وافية ودمعة مرسلة.
يتناقلون أخبار السجين الغريب بينهم، ويحملون إلى الناس منه ما يُثبِّت على طريق الحق أقدامهم.
تضطربُ القلوب وتتعالى صرخاتُ الاستغاثة أنْ: يا إلهي فرِّجْ عنه كي نحظى ببركاته، ونعيش تحت ألطاف قربه وعناياته.
وتستمرُ الحياة بين لهوِ العابثين، واستعداد المنتظرين.
بين من طغى وتجبر، ومن تزكى وتطهر.
خطان امتدا منذُ بدايةِ الإنسان وسيبقيان، لمِعتْ في سمائهما أسماءُ من غلبوا بمكرهم الشيطان، ومن تعجبت من طهارتِهم وكمالاتِهم ملائكةُ الرحمن، وهكذا كان في زمن إمامنا الكاظم (عليه السلام)، ففي الوقتِ الذي لم يدخر أعداءُ الإسلام جهدًا في سبيل محوه وطمس آثاره، كان أصحابُ الإمام (سلام الله عليه) ومنتظروه يبذلون جهودًا جبارة في سبيل نشر الحق وسطوع أنواره.
فالغربةُ والغيبةُ لم تمنعهم من الاستعداد والعمل، ولم يفارقهم رغم كلّ تلك الظروف القاسية التفاؤل والأمل، بأنَّ البقاء مهما حدث في نهاية المطاف لدين الله (عزّ وجل).
نعم، تلك الغيبة والغربة صنعت العلماء، وأظهرت معادن الصادقين والصلحاء، وأفرزتِ المُحبين الأوفياء الذين بثوا في الآفاق للإمام الكاظم (عليه السلام) تعاليم النور والضياء.
وهنا يحقُّ لنا أنْ نتساءلَ ونحنُ نعيشُ لوعةَ البعد عن إمام الزمان (عجل الله فرجه): تُرى هل صنعت غيبتُه وغربتُنا من بعده، ما صنعت غيبةُ وغربةُ إمامنا الكاظم (سلام الله عليه) بشيعته؟
هل وظّفنا الألمَ الذي نُعانيه، في سبيلِ نشرِ الحقِّ كما كان يفعلُ أصحابُ الإمام الكاظم (عليه السلام) وخُلّصُ أتباعه ومواليه؟!
هل جعلنا من سجنِ إمامنا الموعود خلفَ أستار الغيب تحديًا حقيقيًا لأنفسنا في الثبات على طريقه ونصرة أهدافه قبل أنْ نناديه: العجل، ونرتجيه؟!
اسئلةٌ تجوبُ أذهان الكثيرين، ويُترَكُ الجوابُ عنها لأفئدةِ المُنتظرين الصادقين، أحببتُ إثارتها في هذا اليوم الحزين؛ ليكون التفكر والتأمل فيها مُنطلقًا لتصحيح المسار واختيار الطريق لنصرة الإمام الطريد الشريد، المُغيّب الوحيد، الذي نرجو أنْ لا نكون جرحًا إضافياً في قلبه المثقل بالآلام، بغفلتنا عنه وابتعادنا عن نهج الإسلام وتعاليمه التي أرساها آباؤه الكرام (عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام).
فقبل أنْ نتبادل التعازي والمواساة، وننثر شيئًا من الدموع والآهات والعبرات، تعالوا لنسأل أنفسنا بصدق: تُرى أين نحنُ من هاتين الغربتين؟ وماذا فعلنا للسجينين؟ وبأيِّ مرهمٍ بلسمْنا جراح الغريبين؟
أعظمَ الله (تعالى) أجوركم بمصاب إمامنا، وثبت على طريق الحقِّ أقدامكم وأقدامنا.