تعرضّت يومًا الى سؤال بريء، لكنه مهمّ وضروي أن نسأله في كلّ جيل، كان السؤال يقول: من الذي انتصر في واقعة الطف؟ سؤال كبير، لكن له أوجه متعددة للجواب، لا أعرف ربما جوابي كان من مدركات العقل اللاواعي، قلت: المعركة ما زالت مستمرة، تخلصت من الموقف الحرج، لكني اكتشفت أن الجواب لم يكن وافيا، المعركة مستمرة بانعكاساتها المعنوية، ولأكون دقيقة في اجابتي، قلت: عظمة واقعة الطف الحسيني تبرز بأن نتائجها غير خاضعة للحسم العسكري، ومن هذا الباب فهي فعلا مستمرة، لكن أمامنا أكثر من مفهوم، هناك انتصار عسكري آني، هذا الآني لم يشفع لأهله بالمداومة، لذلك أصبح يبحث عمّا يحفظ كرامته المشوهة.
ومن المعروف من جمع الوقائع العسكرية والحروب أن المنتصر لا يحتاج إلى زيف إعلامي، وكذب، وزور، وبهتانن وتشويه سمعة؛ لأنّ المعركة قد حُسمت عسكريا، ولو لاحظنا أن الأخطاء الكبيرة التي حصلت عند الجيش الأموي أدخلته الحرب مهزوما قبل أن تبدأ.
تلك حقيقة لا بد أن تذكر، فرغم فارق الجيشين العددي، تصرف الجيش الأموي بهمجية لا تقدر أن تحفظ ماء وجهه بعد المعركة، تصرفات تشين بسمعة العربي ومحتواه، وهذه الحقيقة نجدها قد شخصت من قبل سيد الشهداء، وهو يشاهد ذلك الخرق الإنساني الكبير: «كونوا أحرار في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُربا كما تزعُمون».
وإذا جوّز العرب يوما منع الماء في الحرب على أساس انه وسيلة من وسائل المعركة، فلا يمكن أن يجوّزوه ضد من سقى خيلهم ماءً، وهو في الحرب، ولا يمكن أن يجوزوه ضد نسوة وأطفال وفيهم الرضع، ولا يمكن للعربي المسلم أن يرضى بالانتهاكات التي حدثت مثل: قتل الأطفال وسبي النساء والتمثيل بالقتلى.
ثانيًا- علينا أن نعرف مدارك الغايات وهم جميعهم قاتلوا من أجل سلطان طاغية، ولم يخوضوها إكراماً لعينه، بل لأجل هداياه وعطاياه والمال الذي وعدهم به، والغايات الدنيوية تكون مهزوزة دائماً أمام مواقف الإيمان ورجاله، فتجدهم تشاجروا من أجل رأس حبيب مثلاً؛ بحثاً عن سخاء الجائزة!
ثالثا- أنهم تجاوزوا حدود الحرب إلى حدود انتقائية يتمها الحقد الأعمى، هذا الحقد الذي ساهم في تعرية النوايا وكشف الحقيقة، وهناك أمور كثيرة أخرى قد تباينت نتائجها من موقف لآخر مثلاً: السرقة والنهب والسلب والغدر وقتل الأطفال والتغني بأمجاد المشايخ الذين شهروا سلاحهم ضد النبي (ص) والرسالة حتى آخر نفس، ونكران النبوة والدين وقتل بعض نساء الطف، ورفع الرؤوس على الرماح، وهي من مبتكرات الأمويين، ولذلك نجدهم قد تفاجؤوا بسلبية هذه النتائج، وانقلب الصوت الشعبي ضدهم، فكم من امرأة تركت زوجها استهجانا على فعلته وما عاد الإرهاب وحده كافياً لاستمرار سلطة الأمويين.
ولذلك انتهجوا الداعيات الإعلامية التي روّجها الإعلام الزائف معتمداً على هبات المال الحرام لشراء الذمم التي أخذت تصوّر الأباطيل ضد أهل البيت(عليهم السلام)؛ كونهم أصبحوا هم الرمز الثائر بعد الحسين(عليه السلام).
فدخلت واقعة الطف مرحلتها الثانية لتصبح الحرب حرب يقين ضد الجهالة، وأصبحت كلمة توضح سبلًا وغايات، وتفضح المكائد، وهكذا استمرت الحرب هذه المرة بين الوضوح والخداع، وبين الصدق والكذب، وبين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وأصبح مسعى الأمويين تحويل عيوبهم ونواقصهم على أهل البيت(عليهم السلام)، فأشاعوا أنّ الحسين(عليه السلام) وحاشاه شارب خمر.
غير أن أصغر من في القوم يعرف أن خليفتهم خمارٌ يتغنّى علانية بهواه، وحاكوا آلاف الروايات التي تضاربت مع بعضها وتناقضت، فقد ارتضوا أن يكون أمير مؤمنيهم ابن معاوية بن أبي سفيان، وتقوّلوا على إيمان أبي طالب(عليه السلام)؛ لأنه أبٌ للإمام علي(سلام الله عليه)، ولأنه كافل النبي(ص) وحاميه،.
وابتكروا الأراجيف لكل شخصية من الرايات الإيمانية حتى أصبح عندهم الحسين(عليه السلام) هو الذي شقّ عصا الأمة، وخرج على خليفة المسلمين، في حال اعتبروا معاوية مجاهدا عظيماً؛ لأنه انشقّ على خلافة علي(عليه السلام)!
تركوا نزق خليفتهم جانباً وراحوا يرجفون على الحسن(عليه السلام)؛ ليمنحوه سمات الرفاهية والطرب، وقالت مصادرهم: إن الحسن(ع) تزوّج ثلاثمائة امرأة أو أكثر، وذهبوا إلى أكثر من ذلك، فتجاوزوا على شخص الرسول(ص) وتاريخه المجيد، وإلا فهل مثل النبي(ص) يُقال عنه أنه كان يحمل زوجته المدللة على كتفه؛ لتنظر إلى حفلة راقصة؟!
وتقوّلوا أيضا على الزهراء(عليها السلام) بمصادر هزيلة صورتها(دميمة) وهي ابنة الرسالة وفيها نور النبوة، وتناسوا أن عظماءهم قد رجعوا عن خطبتها منكسرين، هذه هي حروب المواجهة التي استمرت بعد معركة الطف لتشمل السيدة سكينة بنت الحسين(آمنة)، فأشاعوا أنها تزوّجت ثماني زيجات، وأنها كانت تحضر مجالس الطرب وأغلب الرواة والمحققين أشاروا بضعف الروايات وتناقضاتها وتضارباتها، واستمرت المواجهة وتجددت أشكالها من جيل إلى جيل.
فقد منعوا زيارة قبور الأولياء، وأبادوا أبناءهم وأحفادهم، وأصبح الصراع فكريا في بعض مراحله، وكفّروا الشيعة وطعنوا في معتقداتهم.
ومازالوا يطعنون ويقتلون ويهجرون ويبتكرون الأراجيف، ومازال الشيعة في حومة كربلاء التي انفتحت على كل بقعة من بقاع العالم، وانفتح زمانها إلى يوم الدين.