«قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {51} ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ» [يوسف/52]
كيف يقرأ الأديب والشاعر هذا الموقف؟
خاص:. صدى الروضتين
الدكتور صالح الطائي:
جاء الإسلام خاتماً للرسالات، وجاء القرآن ليناسب كل العصور، ويبقى متفاعلا مع التطور والتحضر والتبدل، وفي الأثر قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «القرآن حمّال ذو وجوه»؛ ذلك لأنّ فهم القرآن متاح لكل العقول حسب قدراتها الفكرية والزمانية، فما يفهم منه في عصر ما يتجدد في عصر آخر، ولاسيما في بعض صور الخطاب؛ التي تناغم حتى التخصص الدقيق، فما يفهمه المفسّر أو اللغوي من هذه الآية علمي بحت يختلف عن فهم الأديب والشاعر لها؛ لأنّ تخصصيتهم تلزمهم بمنهج عقدي لا يحيدون عنه مع ما فيه من اختلاف في الرأي من واحد لآخر، أما الأديب والشاعر فهما ينظران للصورة بمنظار العاطفة البلاغية والصياغة الأسلوبية، فيستنبطان منها أحداثا لا يلتفت إليها القسم الأول.
وهنا قد تجد قصائد تقتبس الفكرة وتحولها إلى لحظة حقيقة من عالم العشق، أو قد تجد قصة تتناص مع أحداث الآية لتخلق عالما سرديا فيه الكثير من الفرعيات التي لم يأبَه لها النصّ المقدس الذي يترفع عن الإسفاف والتفريع الدقيق.
وهذا من جمال المنهج القرآني الذي نجح في مناغمة النفوس عبر التاريخ، ليخلق لحظات من البهجة الدينية والأدبية لدى كلّ المتلقين.
الكاتب حيدر الحدراوي:
منطقة الآنية اللحظية تدخل نطاق الحواس فتلاقح الحقيقة الموجبة للمثول أمام الحواس وإدراكها «الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ»، وبالتالي الاعتراف النابع من صميم الذات: «أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ»، والموجب لتحرير الضمير من ظلمة رغبات النفس، عند تلك النقطة تتولد الشهادة للطرف الآخر الذي وقع عليه الظلم والإجحاف: «وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» وتبرئة ساحته، كل ذاك يمثل صراعاً نفسياً بين الحق والباطل، الذي لعب فيه الضمير دوراً ريادياً نصرةً للحق وانتفاضة ضد الباطل، لكن لابد من توضيح « ذَلِكَ لِيَعْلَمَ »، وإقرار «أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ»، وتحديد «بِالْغَيْبِ» ما غاب عن اللحظية الآنية، وغاب عن الحواس؛ إرضاءً للضمير الواعي، وتخفيفاً لتأنيبه المؤلم.
يلاحظ في النصّ القرآنية المبارك عدة خواص:
1- استهلّ بالآنية اللحظية وختم بما غاب عنها.
2- دور الضمير الواعي في توجيه المرء وتقوية إرادته.
3- تشكيلة ندرت من أن ترد في نصّ بشري (آنية الحقيقة + اعتراف + شهادة + توضيح + اقرار + تحديد زمان غيبي).
4- كلّ يفهم النصّ حسب ثقافته، ويستشف منه قدر إمكانيته.
5- تكمن الحقيقة في إدراك الحواس وإن غابت، فتبقى مُعلّقة بالغيب.
6- النجاة من نتائج الخطأ، وهنا يكمن الحديث المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام): «النجاة في الصدق».
الكاتبة عبير المنظور:
كيفية قراءة الأديب أو الشاعر لمفردات ومفاهيم آية قرآنية قد لا تختلف كثيرًا عن غيره من المفسّرين والباحثين القرآنيين أو حتى المتلقي العادي، إذا دخل في عالم تدبّر الآيات الكريمة بشكل عام كمفهوم، وخاص كمفردة، إلا أن الأديب أو الشاعر قد يعتمد أكثر على حسّه الفني في الذائقة الأدبية عموما لأي مفردة او معنى قد تجترّ مشاعر أو مفاهيم أخرى دفينة في نفس الأديب أو الشاعر، فقد تلامسه مفردة معينة أو معنى خاص يعبر عن تجربة انسانية ذات مديات واسعة، تنتهي بنصّ أدبي رائع، مثلًا عند الرؤية الخاصة لكلّ مفردة بالقراءة التحليلية تتجلى بعض المفاهيم:
- (الآن حصحص الحق): لحظة تكشّف الحقائق، هي لحظة مصيرية في بيان ما تخبّأ في النفس وغاب عن التصور، فيكون التقبّل النفسي والاستعداد للشخص في مواجهة تلك اللحظة بصفاء روحي تام، ويقظة وعي للدخول الى المرحلة التالية.
- (أنا راودته عن نفسه): لحظة الاعتراف بالذنب والمعصية أمام الله والملأ يستوجب شجاعة نفسية كبيرة، وصدقا تامّا في الاعتراف، وإن حاصرته الحقائق بتدبير الله تعالى لنصرة المظلوم وأخذ الحق له من الظالم، هناك من ينكر وهناك من يبرر، أما هنا في الآية، وجدنا الصراحة التامة في الاعتراف بالذنب واجتراح المعصية.
- (وانه لمن الصادقين): إعلان عن براءة المتهم بشكل صريح، وهي المرحلة الأعلى من الاعتراف بالمعصية، لعله يكون تكفيرا عن ذنبه في ظلم ذلك الشخص، وهو تجلٍّ من تجليات التوبة النصوح للعبد الآبق.
- (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب): وإن اختلف المفسرون في قائل هذه الكلمات، فقسم قالوا انها امرأة العزيز، وقسم آخر يقول: انه النبي يوسف (عليه السلام)، وأنا من مؤيدي هذا الرأي؛ لأن المفهوم العام يتحدث عن الأمانة ونبذ الخيانة، وهو ما احتاج النبي يوسف إثباته للملك؛ ليتمكن من خزائن الأرض بقوله «...إني حفيظ عليم».
أما النظرة العامة لنهاية الآية وبداية الآية التي قبلها، فهي تصوّر لنا واقع التوبة النصوح من الاعتراف بالذنب وتبرئة المظلوم، وكذلك تصوّر لنا أنموذجا حيّا للأمانة والنفور من الخيانة لسوء عاقبتها.
الكاتبة المسرحية سحر الشامي:
هناك تفسير مبطن وتفسير ظاهر، وهذا من البديهيات في القرآن الكريم الذي قال عنه أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «القرآن حمّال أوجه»، أمّا بالنسبة للأديب أو الشاعر فهذا يتوقف على إبداع الكاتب أو مزاجيته في تفسير الآية على هواه وبما يجذب القارئ، بغض النظر عن التفسير الحقيقي للآية في أحيان كثيرة.
الكاتبة الحقوقية نادية شلاش:
يعدّ الاعتراف بالذنب سيّد الأدلة، وهنا اعتراف صريح من قبل المذنب وأمام الملأ والمتهم كان يحتاج إلى دليل لبراءته، فجاء الدليل، ولكن بعد أن نفذ المتهم عقوبته، وقد أخبرنا القرآن الكريم عن أساس القصة، ولكن كان ينقصها الشاهد والدليل، وقد ظهر بعد حين من الزمن.
وهنا حسب رأيي القاصر، وكما يقول المثل «لا يضيع حق وراءه مطالب» وان الحقيقة سوف تظهر حتى ولو غيّبها الزمان، فالشمس لا يحجبها الغربال، هذا رأيي ككاتبة وكقانونية.
أما كشاعرة، فلي صورة أخرى وهي أن «ومن الحب ما قتل وضيّع صاحبه وحبيبه» فزليخا بحبها وشغفها حاولت قتل من أحبّت وزجّت به في غياهب السجون، والسجن قتل للحرية، وضيّعت نفسها باتهامه بالخطيئة، ولكن أظهر الله الحق، ونجّى نبيه، واعترف المسيء، ولم يكن دافع النبي يوسف الانتقام والإشهار باعتراف المسيء، ولكن لكي يبيّن للناس بأنّ الحقيقة سوف تظهر وتبان بمشيئة الله وإرادته، وأنّ نهاية العذاب راحة أبدية للبال والضمير.
د. عزيز جبر الساعدي:
القيمة الأخلاقية والسلوك القويم الذي تبنّاه النبيّ يوسف الصديق (عليه السلام)، أوصله الى تتبع الذات المتعالية؛ كرامة, ويقينا في جميع تصرفاته وبهداية من الله (جلّت قدرته), اذا توخينا المعنى العام فهو بسيط, القول في تأويل قوله تعالى: «قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ».
ومفردة حصحص تأتي بمفهوم بلاغي, أصل حَصحص: (حصَّ)، ولكن قيل: (حصحص)، كما قيل: "فَكُبْكِبُوا" [سورة الشعراء: 94]، وأصل (الحصّ): استئصال الشيء، وإنما أريد في هذا الموضع بقوله: «حصحص الحق» ذهب الباطل والكذب فانقطع، وتبيّن الحق فظهر.
في تقديري أنّ الله سبحانه وتعالى يعطي دروسا خالدة في سور القرآن الكريم بأجمعها، ومما نحن فيه, في تفسيرنا لهذه الآية المباركة, هو انتصار الذات المقدسة السامية صاحبة المبادئ, كيف تتخطى الصعاب رغم مظلومية وقساوة الظلم الذي يقع عليها, لابد وأن تكون هناك فسحة من الأمل باليقين الذي نحمله في هذه الحياة؛ ليستمر سطوع الحقيقة التي طُمست، ولابد ولو بعد حين سينجلي الظلم وتنكشف الحقيقة؛ لتعود الحياة الى مجاريها الحقة والنظيفة التي أرادها الله للبشرية.
تقديري لكم لإضاءة هذه المحاور الجميلة والواعية.
الكاتب زيد علي كريم:
مهما طال أمد المراوغة في التربص والكيد بالأنبياء والأئمة والعلماء، لابد لمركب الأحداث أن تدقّ القيف، وتفقد خاصية الاستمرار في الإبحار، وهذا ما حدث على أرض البسيطة، اكتشف الحق اكتشافا تاما، فسبحان الله، يبعد عن رسله السوء والفحشاء، ويثبت صدقهم، فهم من عباده المخلصين.
لم يفكر نبي الله في السوء للحظة، فقد قال لها من أول وهلة: «مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»[يوسف/23]، ويقصد ربي أنعم عليّ نعمته، فلا أستطيع خيانته، لذلك استعاذ بالله من أي فاحشة، فإنه يدرك «إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ». لذلك قال تعالى: «كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ»، وبالتالي الاعتراف بالذنب فضيلة، بدأت ماجنة ماكرة لعوب، وانتهى بها أمر الله، فأنابت وتابت واستغفرت ربًّا غفورا رحيما .