لستُ ألقي لائمةً على مراهق الثقافة، الذي يودّ التعرف الى تاريخ بغداد (حصراً) كعاصمة للدولة العباسية، إذا ما تملكه النفور من تلك الحقبة، أو فقد (الحافز المعرفي)؛ نتيجة صدمته بازدواجية المعايير في تدوين الأحداث، بأقلام مرجعيات التراجم والسير.
ففي الوقت الذي يتحرك مراهق الثقافة، وفق دافعية أن يعرف، وأن يفهم، وأن يستكشف، وليخطوَ خطوة الى مستوى أعلى من الإنجاز وتحقيقِ إشباعٍ للذات المعرفية، فإن تجاذباً موضوعياً سيفرضُ عليه طوق التوقف والتأمل.
بأيّ اتجاهٍ يسير؟ وأيَّ مفهومٍ يتبنى؟ هل يصدق بهذا الرأي أم بغيره؟
وهل ما كُتِبَ حقيقةً؟ أم ميثولوجيا من الخرافات والأساطير؟
وما دامت بوابة الشك والاحتمالات قد فُتحت على مصراعيها، فلَكَ أن تتخيل ما يلجُ منها!! ودعني أتحدثُ بلغة الأرقام، لإيصال الفكرة.
ترفدنا ثلاثية التاريخ المؤدلج: (تاريخ ابن الأثير، وتاريخ ابن كثير، وتاريخ الذهبي) بِكَمٍّ هائل من التراجم والأعلام، لشخصياتٍ لعبتْ أدواراً مهمةً وخطيرةً وسلبيةً في المجتمع الإسلامي، طيلة القرون الهجرية الثلاثة (الرابع والخامس والسادس)، بما شهدته من مسرحيات التلذذ بالقتل، وإتلاف كنوز المعرفة والثقافة والفنون، الى تغيير ديموغرافية البلدان، واضطهاد المعتقد والرأي والفكر حتى لتحسب نفسكَ أمامَ مشاهدَ تمثيلية لمحاكم التفتيش، وتسلط الخميرِ الحُمُر، وهمجية داعش، والخوارج وأمثالهم.
ففي الفترة الزمنية بين عامي (296هـ - 329هـ)، شهدت مناطق وأحياء في بغداد، ممارسات دهماوية عقيمة، غلب عليها القمع والقتل، وامتهان كرامة الإنسان، وعدم التورع عن الإقدام على أي فعل، عملاً بمقولة (الغاية تبرر الوسيلة).
ولعلّ ممارسات الحنابلة في هذا الباب، كانت أشبه بممارسات أرباب العصابات وقُطّاع الطرق، وفق نظام الجماعات المسلحة، ولكلّ جماعة منظومتها الخاصة في إلغاء الآخر وإقصائه، حتى حكت لنا أوراق الأيام عنها، قصصاً فظيعة، رغم (المُحسِّنات اللفظية)، و(التبريرات الدينية)، ومنها (جماعات المُطَوعة) ومن أشهرها (جماعة عبد الصمد) سيئة الصيت.
لكن الحضور الأهم والبارز كان لـ(كبير الدهماء) من الحنابلة (أبي محمد البربهاري)، الذي أوغل في سفك دماء المسلمين من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وتتبع مساجدهم ومكتباتهم وطقوسهم وتجمعاتهم، مستنداً الى السلطان العباسي الغاشم آنذاك.
هذا (الزعيم الدهماوي) ما كان يتورع عن فعل أمر مهما كان؛ لأجل إشباع رغبة الانتقام من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، فينقل لنا المؤرخ المشهور(القاضي التنوخي)، أنه أمرَ بقتل نائحة يُقال لها (خِلْب)، كانت تنوح على الإمام الحسين (عليه السلام)، بلا مستندٍ شرعي او أخلاقي !!
(البربهاري) هذا، كان له موقف النصرة والطاعة المطلقة للسلطان العباسي، رغم مظاهر الجور والانحلال والاستهتار بمقدرات المسلمين، فلیس في برنامجه الثورة على الخليفة والخـروج علیه، وهذا ما أكده بقولـه: «ولا یحـلّ قتـال الـسلطان، والخـروج علـیهم وإن جـاروا».
وفـي موضـع آخـر قـال: «ومـن خـرج علـى إمـام مـن أئمـة المـسلمین، فهـو خـارجي، وقـد شـقّ عـصا المسلمین، وخالف الآثار، ومیتته میتة جاهلیة»!!
وهنا تجد المفارقة فيما يُنعَتُ به (بربهاريُّ السلطة)، بـ(نعوت) التقى، والورع، والتديُّن، والنصيحة، كما صنع الذهبي في (سِيَر أعلام النبلاء)، وابن كثير في (البداية والنهاية) اللذان ترجما له بأنه «العالم الزاهد الفقيه الحنبلي الواعظ... كان شديدا على أهل البدع والمعاصي، وكان كبير القدر تعظمه الخاصة والعامة،... شيخ الحنابلة، القدوة الإمام، كان قوّالا بالحق، داعية إلى الأثر، لا يخاف في الله لومة لائم»!!.
ومن يتابع المشهد من الخارج، فإنه يسجل ملاحظاته بكل وضوح وبلا تردد، ومثالنا على ذلك (ميخائيل كوك)، الباحث في التاريخ الإسلامي بجامعة برينستون، الذي وصف (البربهاري) بأنه دَهْمَاوِيّ واضح (وحسب قاموس اكسفورد الإنجليزي) هو زعيم سياسي، اكتسب شعبيته من خلال تحريض عامة الناس ضد طبقة النخبة، ولا سيما من خلال فنّ الخطابة الذي يزيد من مشاعر الجماهير، مناشدًا العاطفة عن طريق التضحية بالجماعات الخارجية، والمبالغة في المخاطر؛ لإثارة المخاوف لديهم، واستخدام الأكاذيب، من أجل التأثير العاطفي أو غير ذلك من الأقاويل، التي تميل إلى استنكار النقاشات والمداولات المنطقية، والتشجيع على الشعبية المتعصبة.
وتحت تأثير (البربهاري) والضغط الشعبي من أتباعه، فرض الخليفتان (المقتدر) و(القاهر) الحنبليةَ كعقيدةٍ للدولة، بررت لتلك الممارسات الشنيعة، التي غصّت بها كتب التاريخ وموسوعاته.
وإذا أردنا أن نُسجل على أقلام المؤرخين تزييفهم المتعمد للحقائق، وتبريراتهم غير المنطقية لتلك الخروقات السلوكية، فإنّ ذلك مما يصيبُ أجيال القراء بالوجوم، وربما يفقدهم الثقة بكلّ الكتابات والنتاجات السابقة.
ومن يتحمل هذا الإرباك، وهذا التعقيد والتشظي الذهني، هم أصحاب الأقلام الكبار، الذين لو راعوا (الموضوعية) و(الحيادية) في مهمتهم الضرورية، لما دخَلنا في تراتبية بائسة، ما تزال قائمة ومستمرة.
ولا نبالغ إن قلنا: إن تزوير الحقائق وقلب المفاهيم، من خلال خلق شخصيات فكرية وهمية موجهة للأحداث، لم يكن بمعزل عن محاولة الأمويين، لتجهيل المجتمع المسلم، بشخصية أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وبأساليب شيطانية لأكثر من تسعين عاماً.
ولذا فإن فضح التزوير التاريخي، مقدمة لفهم الواقع وتمييز الصالح من الطالح، سيما وإن هذا الواقع قد تم تأطيره من خلال (صناعة) الفتوى التي تزيح الفكر المضاد، أو (الضد النوعي) من مسرح الأحداث، والتي سُبقت بـ(صياغة) الأحاديث المنسوبة، الى صاحب الرسالة المقدسة ورموز مدرسته التشريعية، مع تقادمها الزمني البعيد، والعقبات الكثيرة التي وُضعتْ- عن قصد – في هذه الطريق.