شفاف أنا كقطرات الندى، وجميل المنظر وجيد الصنع، مما جعلني المفضل لدى مَلِكٍ ادّعى لنفسه أنّه خليفة المسلمين، يجالسني دائماً ويشاركني لحظات فرحه ومرحه، كنت أسقيه وأرويه كثيراً، وكان نهماً لا يرتوي من شراب أسقيه إياه، كنت لا أفارق يده ابداً حتى انه كان ينام وهو ممسك بيدي!
يا لَسعادتي الغامرة، فأنا من ندماء الملك وسمّاره المقربين، والذي لا يتخلى عني أبداً. كان يحبني ويرشفني كثيراً وكنت أحبه ايضاً، ولملازمتي إياه عرفت كثيراً من أسراره وجميع ما يدور حوله، ما يفكر، ما يقرر، كل شيء حتى أنفاسه بتُّ أستطيع عدها.
وفي يوم من أيام ملازمتي له، غضب من أحد أعدائه، وكان يبغضه كثيراً ويحاول أن ينقص من قدره مهما استطاع الى ذلك سبيلاً، وكان يتحيّن له الفرص أو يلفّق له بعض التهم لأذيته وأذية أصحابه ومن والاه وقتلهم بأبشع الطرق لمجرد شكّه أنهم من أتباعه، حقيقة لم أكن أعرف شخص عدوه ولكنني كنت أسمع حديث الملك عنه، بأن هذا الرجل ينازعه ملكه على عرش قلوب الناس وكرسي خلافتهم، كنت أسمع ذمه من خلال الجنود الأتراك الذين استولوا على سدّة الحكم، وباتوا متحكّمين في كل مفاصل الدولة، حتى سمعتُ الملك ذات مرة وهو يستشيط غضباً بأن يحضروا له عدوه على الحال الذي يجدونه عليه؛ لأنه يدبر له المكائد والمؤامرات، وأنه يجمع المال والسلاح في بيته ليثور ضده...
وانتظرت وصول عدوه لأراه عن قرب، من هذا الذي يشغل بال الملك ويمنعه من الرقاد؟
وبينما كان الملك في مجلس لهوه يحملني ويشرب بي الخمر، واذا بجماعة من الرجال يخبرونه بوصول عدوه وأنه وجدوه في بيته جالساً على الرمل والحصى يتلو القران وأنهم لم يجدوا في بيته غير مصحف القران، فأذن له بالدخول...
مرّتْ لحظات وكأنها ساعات عليّ لأرى من يكون هذا الرجل، جاؤوا به، رمقته من بعيد فاضطربت أحوالي وتسارعتْ نبضات فؤادي! فلم أجد الصورة التي كنت أرسمها له في مخيلتي، وجدته رجلاً عليه سيماء الصالحين، بهيّ الطلعة، تشع الأنوار من محيّاه الكريم إضافة إلى دقة وبلاغة منطقه، وكان يلبس مدرعة من صوف، احترت في أمره، ترى أي رجل يكون؟ وأي سر يجذبني إليه؟
قطعَ صوت الملك سلسلة أفكاري الشاردة حينما أمره أن يشرب الخمر، ولكن الرجل امتنع عن ذلك قائلاً: (وَاللهِ مَا خَامَرَ لَحْمِي وَدَمِي قَط ، فَاعْفِنِي) فأعفاه، ثم أمره أن ينشده شعراً فقال: (أنا قليل الرواية للشعر)، فأرغمه الملك على ذلك، فقام الرجل وسط ذلك المجلس بكل هيبة وإجلال قائلاً:
باتوا على قللِ الاجبـال تحرسُهـم *** غُلْبُ الرجالِ فلم تنفعهمُ القُلـلُ
و استنزلوا بعد عزّ عـن معاقلهـم *** و أودعوا حفراً يا بئس مـا نزلـوا
ناداهمُ صارخٌ من بعد مـا قبـروا *** أين الاسرّةُ و التيجـانُ و الحلـلُ
أين الوجوه التـي كانـتْ منعمـةً *** من دونها تُضربُ الأستارُ و الكللُ
فافصـحَ القبـرُ عنهم حيـن ساءلـهـم *** تلك الوجوه عليهـا الـدودُ يقتتـلُ
قد طالما أكلوا دهراً و ما شربـوا *** فأصبحوا بعد طول الأكلِ قد أكلوا
كنتُ أستمع مدهوشاً لبلاغة ذلك الرجل وفصاحته، شعر وعظ به الملك اللاهي العابث بأبيات تتكلم عن غرور الحكام الظالمين وتغطرسهم في مجلس الملك وفي نشوة سكره...
هنا حلّ صمت مطبق على الجميع ،وكأن على رؤوسهم الطير، لا أعلم ان كان للاعتبار من الموت أو للتفكير في مصير هذا الرجل الصالح بعد هذه الموعظة... وانا كنت أفكر بالأمرين معاً، حتى قطع هذا الصمت بكاء الخليفة المتوكل، والرجل لا زال يكمل أبياته :
و طالما عمّـروا دوراً لتُحصنهـم *** ففارقوا الدورَ و الأهلينَ و ارتحلوا
و طالما كنزوا الأموال و ادّخروا *** فخلّفوها على الأعـداء و انتقلـوا
أضحت منازلُهـم قفـراً معطلـةً *** و ساكنوها الى الاجداث قد رحلوا
سـل الخليفـةَ إذ وافـت منيتـهُ *** أين الحماة و أين الخيلُ و الخـولُ
اين الرماةُ أمـا تُحمـى بأسهمِهـمْ لمّا أتتـك سهـامُ المـوتِ تنتقـلُ
أين الكماةُ أما حاموا أما اغتضبوا *** أين الجيوش التي تُحمى بها الدولُ
هيهات ما نفعوا شيئاً و ما دفعـوا عنك المنية إن وافى بهـا الأجـلُ
فكيف يرجو دوامَ العيش متصـلاً *** من روحه بجبالِ المـوتِ تتصـلُ
لم أسمع سوى بكاء الخليفة وجميع الحاضرين، تساءلتُ في نفسي: بماذا سيعاقب الملك هذا الرجل؟ فقد تعلقت به كثيراً، فنظرتُ للملك الذي ابتلّتْ لحيته من الدموع وأمر بإطلاق سراح الرجل، ثم نظر إليّ نظرة غريبة ورماني على الارض وبقي يومه متعكر المزاج...
ومنذ تلك اللحظة بتُّ أكره الملك وتعلّقتُ بالرجل الذي كان يدعى: الإمام علي الهادي إمام الرافضة...
لحظة قلبت الموازين عندي أنا الجماد، فكيف بالبشر؟!
كنت أتمنى أن يرميني الملك فعلاً وأبتعد عن لعبه ولهوه، لم أكن أعرف ان هناك من يمتلك هذا النور الساطع والهيمنة على القلوب والارواح على البشر والجمادات، عرفت حينها ان لهذا الرجل سرًا مع الله، وانتظرتُ عقاب الله للمتوكل على ما فعله من انتقاص لقدر هذا الرجل المقدس والتنكيل بشيعته، ولم يطلْ انتظاري كثيراً حتى رأيت ذلك اليوم بعيني، كنتُ حينها بيد الملك [الخليفة] المتوكل في مجلس لهو وسكر كالعادة مع وزيره الفتح بن خاقان وعساكر الاتراك يحيطون به من كل جانب لحمايته، واذا بابن الملك: المنتصر بالله، وبالتآمر مع بعض القادة الاتراك دخلوا عنوة وقتلوا المتوكل والفتح بن خاقان وتناوشوهما بسيوفهم، فسقطتُ من يد المتوكل وتحرّرتُ من كابوسه المرعب، ولكنني بدأت بالتهشّم من جميع أجزائي وأحسستُ بقرب أجلي فتذكرتُ موعظة الامام علي الهادي (عليه السلام) في هذا المجلس قبل فترة وكم أثرّتْ موعظته فيّ أنا كأس الخليفة...
وعجبتُ لقلوب هؤلاء البشر كيف لم تتأثر بأنوار ذلك الرجل العظيم؟!