إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قبر دون شاهدة رزنة صالح

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قبر دون شاهدة رزنة صالح


    المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
    كانت محاولة للملمة شتات مواقف عشتها في تجربة حياتي كنادل مطعم يستقبل الكثير من الزبائن منهم من يبقى في الذاكرة، وقد يسبب مكوثه داخلها إلى متابعةٍ يصعب التغاضي عنها . كنت أرغب أن أكتب بعض تلك المواقف التي تستند إلى حقيقة وجوده المرموق؛ لكونِي لست كاتبًا ولا أمتلك حرفة الكتابة فمن الممكن أنّ لا أفلح بكتابة حكايتي بالشكل المؤثر الذي يعدها حكاية ذات قيمة، ولا أريد أن أطيل في التفاصيل حتى تروني كراوٍ محترف يجيد اقتناص الفرصة، بقيت الهو مدة من الزمن في فكرة أنّ أكتب ذلك اللقاء الذي لم يدوم إلا وقت قصير. لكنه عاش في داخلي وعرش في الضمير. ربما أحتاج إلى أنّ أضيف شيء من الخيال على تلك الأشياء المعبرة عن حرصي بالتقاط كل شيء ــ القصة ــ الحوار ـــ الأفكار ـــ ملامح الشخصية العالقة في الذاكرة ؛ لغرض جعل حكايتي ممتعة، وكان من شأن ذلك أنّ يجعلني أجازف في متابعة كلِّ ما يقال، دون أنّ أحدد مصداقية ما أقرأ أو أسمع. في نهاية الأمر أصبحت أشتاق لمتابعة حياته بشغف العاشق لأكسر نمطية الصدفة وهذه المتابعة الحياتية جعلتني كرجل أمن يتحرى عن ضحيته، وكانت تلك المتابعات، تتحول إلى أحاسيس وتشعرنّي بأنهُ لابد أن أكتب، فمثل تلك اللحظة الوجدانية تتطور لتصبح صداقة والفة. كتبت الكثير من القصص لكنِ مزقتها، مزقت كلُّ ما كتبت كوني لا أريد أن أكتب دون هدف بمعنى أن لا أكتب من أجل أنّ أكتب، بل كنت أبحث عنّ حقيقة إنسان قد لا تدرك الكتابة معناه أحيانًا ، وهذا الأمر يتطلب الوضوح، خبرتي الخاصة في مجال تقييم الناس محدودة جدًّا تقتصر على المظهر وقيمة التعامل الوجدانِي، وأنا لابد أن أتعايش مع الجميع بمستوى يليق بنا كمطعم. كلُّ الذي أسعى إليه هو رضاه، النادل هو الرجل الذي يسعى لخدمة الزبائن ويتواءم مع الأمزجة والأخلاق، بعض من الناس يتعامل معي كخادم يأمرني بحدة ومن الناس من يتعامل معي كإنسان صاحب عائلة أخدم الناس بتقديم الطعام لهم لأخدم عائلتي، فيطلب ما يريد بأدب حتى كأنه يتوسل الخدمة.
    سنوات الخدمة في الفنادق والمطاعم علمتنّي احتواء إنسانية الزبون ومعايشة نفسيته. السؤال الذي شدنّي طوال هذه السنوات هو كيف عرفت أنه شاعر؟
    كيف أدركت أنّ هذا الرجل الضرير بصير يمتلك سعة في الرؤية ؛ فهو قرأني قبل أن أتأمل فيه!
    هل يمتلك الشاعر ملامح خاصة تكشف عن هويته ؟ لابد أنّ هذا المظهر البسيط يعاني من العتمة والوحدة والفقر، وجه مُتعب يحمل معاناة الكون، أحسست في لحظات أنّ هذه الدقائق القليلة التي وقفتها أمامه وكأني أقف أمام ساحر يسحر كل من يراه ببصيرته، يهمس في كُلِّ شيء ويتهامس مع كلُّ شيء . يريد أن يصل إلى قلب الحياة و معناها الأسمى فليس كُلَّ منّ عاش حياته يعني عاشها كإنسان، وشعرت حينها أنّ هذا الرجل يحمل في قلبه أمة اليمن تعيش فيه وهو يعيش فيها مهما باعدته الخطوات، يطير من شدة الوجد بها والوجع، جلس بلياقة مثقف يحمل في روحه اليقين والتحضر والتمدن، سألته الطلب ماذا أقدم لك سيدي، طلب فطور نفرين. اندهشت وأنا أتأمل من برفقته فلا أرى أحد . أقول مع نفسي ربما توهم الرجل. فسألته هل معك أحد يا سيدي. أجابنّي بوجه بشوش . طلبت منك نفرين الا ترى أن معي صنعا!
    "طلبتُ فطورَ اثنين، قالوا بأنّني وحيدٌ...فقلت اثنين إن معي صنعا"
    بعدت عنه وانا أحمل لوعة التوق إلى هذا الشغف المضني، زادت الدهشة حينّ رأيته يتعامل كرفيق يداري رفيقته، من يراه يتأسف أنّ يرى إنسانًا بهذه الرقة بلا بصر وهو يتحسر أن يرى مجتمعًا بلا وعي، أغنياؤه تأكل أفئدة جائعيه، لست غبيًا لأترك مثل هذا اللقاء عابرًا يمضي إلى سبيله. صرت أتبعه كظله وهو يتقبلنّي في كلّ محفل وكأني منّ بقاياه ، هذا الرجل الزبون صار صديقي ، و نديمي ومعناي، أصبح يحدّثني عن صباه من قرية البردون من محافظة ذمار. يتحدث وأنا أستمع إلى قصة إصابته بالجدري وهو في الخامسة من عمره. أصبحت أبذل أي محاولة لأفوز بالقرب منه. أسمع ضحكته أحيانًا بكاءً، هل ترتدي الدموع قِناع الضحكات لتوهم سامعيها؟
    وأسمع إلى بكاء وكأنهُ يضحك!
    أعذرونّي أحيانًا يشدّني الوجع فأكتب ما يشبه الشعر، غدوت أراه جميلاً فكيف لهذا العالم أن لا يرى جماله؟
    كلما تمطر السماء يبتسمُ بعد هذه العشرة صرت أستطيع أنّ أحدثكم عنه، لقد فقد بصره وبقيت أتساءل حينها كيف يمشي دون عكاز؟
    ليباغت صمتي ويقول، حين يكون الكفيف شاعر يتعكز على حرفه.
    أصبحت أمتلك أشياء عجيبة. كلما يروي ليّ عن حادثة أرى نفسي ترجع الزمان لتعيشها معه، بت معه في الكتاب . تعلم القرآن والكتابة والقراءة، قابلية حفظه للقرآن أدهشت كل من يعرفه. ثم ظهرت قريحة الشعر، وفي صنعاء عايشت مرحلة حياته تخيلت كل معانيها فكان يحدثنّي بأدق التفاصيل، هنا في صنعاء أصبح الناس يلقبونه بالبردوني نسبة إلى بردون. تنهال الذاكرة بلهب المواجع، أنا لست رجل شعر أو تعبير وإنشاء لأقول لكم السجع. جرحي الذي يروي لكم تلك العلاقة التي ترسخت بين نادل مطعم وزبون شاعر كبير. أنا أروي لكم تفاصيل الحكاية و أبكي كونّي أرويها وأنا متوسد قبره. مجرد أحجار مرصوصة وشاهدة قبر في مقبرة
    ( خزيمة ) يطل هذا القبر على ضوء حياتي الوهاج الذي أرى من خلاله اليمن السعيد، ويحلو التأمل في مخاض الحياة عبر هذه الجُبّانة المنهكة أصبت أخاف أنّ أحدثكم بأشياء لا تصدقونها. قبور الشعراء تختلف عن قبور الموتى، وأنت تنظر إلى القبر تجده مرتفعًا شامخًا وكأنكَ تنظر إلى السماء . هكذا أنا أنظر لقبره. أذهب إليه وحدي أرى زحام من الناس يحتشدون معي على القبر إلى أن فاجأني أحدهم سألني
    - هل أنت أخوه ؟ مسكين لا أحد يزوره
    - كيف لا أحد يأتيه؟ وهذه الملايين التي تصفق له!
    يتعجب حفار القبور من كلامي ويقول:
    -صدقني لا أحد، ولكنّي أحيانًا أتفاجأ من تصوير المارة مع قبره لا أعلم هل لتذاكر!
    ردّدت في نفسي العظماء صورهم شرف عظيم حتى بعد الموت.
    صدقونّي لا يهم ما دمت أنا أستمع إلى البردوني وهو يقرأ أبياته على شاهدة قبره، القضية معقدة وخاصة عندما تفتقد شيئًا تعودت عليه.
    ذات خميس زرت المقبرة واتجهت إليه مثلما أفعل في كُلَّ زيارة. أنا أعرف أنه ينتظرنّي كُلَّ خميس ولهذا صعقت حين لم أرَ القبر. يا إلهي قبر البردوني اختفى!
    بالأمس تهدم بيته الذي كان يمكن أنّ يُرمم ليصبح متحفًا يزوره السياح كونه معلمًا من معالم اليمن، واليوم يختفي قبره!
    يجوز أنّ السماء رغبت به فأخذته إليها، فكرة ممكنة أن يرتفع قبر البردوني إلى السماء، أو ربما يجوز خرج دون أنّ يراه أحد، راح يتجول في صنعاء أو ربما أشتاق إلى بيت صباه في البردون!
    هواجس كثيرة تأخذ بيدي عقلي وتقودني في درب مجهول!
    تأملت القبر طويلاً كان المكان بدونّ وجوده كلوحة حزينة اقتلع منها القلب، وكُنت أعرف أنّهُ ينتمي للسماء أكثر من الأرض . شاعر ثوري رفض الخنوع والخضوع وتحدى النظم الدكتاتورية، ودعا إلى قيم الحرية والعدالة والتحديث لهذا صرت اراه ( أبا ذر) هذا العصر.
    واجه الصعوبات والمضايقات والتحرشات في حياته ومات دون أنّ يعلم به أحد. لكن مع هذا من الصعوبة تصديق أنهُ رجلًا أستطاع يومًا أن يتمرد على موته!
    سألت حفاري القبور وحراس المقبرة عن اختفاء القبر!
    ولمٌ يصدقنّي أحد منّهم، وقالوا بأنّي أضعت طريقي إلى القبر وهذه تحصل مع كثير من الناس يضيعون قبور موتاهم!
    يا إلهي أنا متأكد أنه مازال هنا، أين سيذهب؟
    لقد بحثت في كل الاتجاهات، وأنا أخشى عليه أنّ يضيع.
    ليمر بالقرب منّي رجل كبير في العمر تتمشى الحكمة في شارع ملامحه ويقول: أنّ مكفوفي البصر حين يدفنون تعود إليهم أبصارهم، لا زلت أشعر بأنّي أصغي إلى صوته أسمعه:
    "وفوق ذلك ألقى ألف مرتزق
    في اليوم يسألني
    , ما لون معتقدي؟!
    بلا اعتقاد وهم مثلي بلا هدف.
    يا عمّ .. ما أرخص الإنسان في بلدي"
    ضحكت حينها في سري. أخشى أنّ يكونّ قد تبرع بقبره لدفن فقير لا يملك ثمن القبر!
    وأن اختفاء عبد الله البردوني من قبره تلك مسألة فيها الكثير من الغواية. شاعر هاجر وطنه شيء طبيعي، ولكن شاعر هاجر قبره كيف تعقل؟ لنفترض الهجرة لكن ماذا نجيب من يسألنا إلى أين هاجر؟
    شاعر تكرم بالقبر إلى فقير يسألوننا حينها أينّ ينام الآن؟ أين مثواه الجديد؟ والشعراء هم منّ أكثر الوسائل المؤدية إلى الثورة والفوضى. كان البردوني يحرك يديه بقوة وهو يقرأ وهذه الحركات لازمته حتى بعد موته، ازدادت كما اراها بعد موته!
    حين يقرأ لي بعض قصائده فتكون تعابير وجهه صارمة خاصة عندما يقرأ قصيدة غاضبة كنت أراه وقد استعاد الحيل بعد موته يبدو شابًا يافعًا، وكأن الموت يعيد للشعراء الشباب. لكن أن يحمل الشاعر قبره ويسيح فهذا شيء لا أعرفه، ولم أجربه في حياتي، ولا سمعت عنه لهذا صرت أتصور أنّي سأجده يوماً يطوف في الهواء أو ملتف حول شجرة عالية لها فرع في السماء!
    نسيت أنّ أقول لكم في مقابلاتي الأخيرة تأملت في وجهه كثيرًا، فلم أعد أرى أي أثر للجدري ،فهل يمكن أن يعود إلى الحياة بعدما عاش فيها الآلام وتجارب مريرة أثرت في شخصيته!
    في طفولته!
    لقد فقد بصره بسبب الجدري ومن المؤكد أنّ القرية عاملته بجفاء وهذا الأمر جعله يتمرد على الواقع.
    لا.. لا أعتقدٌ أنهُ سيعود إليها. كُنت أستمع إليه وهو يحدثنّي بألم فجأة تبسم لي وهو يقول، هل تعرف يا صديقي أن الأمم المتحدة أصدرت عام 1982 م عملة فضية عليها صورتي على أني معاق تجاوز العجز؟
    سألته في لقاءاتنا التي تكررت وخاصة أيام السفر: ماذا يتمنى رجل ضرير تجاوز اليأس بهمته ونال شهرة علمه وأدبه؟
    -أجابني الفكرة الخالدة كيف نجتاز الموت بنجاح، هل نستطيع أن نحمل قبورنا ونعود إلى الحياة باعتبارنا وصلنا مرحلة أن نكون أكبر من الموت؟
    أصبحت أتذكر كُلَّ حوار دار بيننا بل كُلَّ كلمة قالها لابني تخميناتي لعلي أعرف معنى اختفاء القبر. اشتهرت حكاية اختفاء قبر الشاعر البردوني بين حفاري القبور والمتسولين وباعه الماء والبخور.
    أستيقظ ذهني على مسألة جميلة لم أخض غمارها من قبل. هناك ناس كثيرون يعيشون بأجساد دونّ روح و تصورت اليوم أنّ هناك أرواح تعيش بيننا بلا أجساد، هل يمكن أنّ روح البردوني عادت بأمر ربها ؟ حسنًا لماذا لم تزرنّي أو تخبرنّي، و أين القبر؟
    الأرواح على ما يبدو لا تحب القبور، ولا القبور قادرة على سجن الروح أنا أعرف أنّي أعيش الأوهام بكامل حيويتها وأستغفر الله .
    القضية التي تثير الجدل داخل رأسي هو أنّي اسمعه كل يوم يقرأ لي مقطعًا من أحدى قصائده ثم يختفي ، واتذكر أمس قرأ لي:
    ( ماذا؟ أيدري إخوتي وأبي أنّي يمانيّ بلا يمن ؟!
    هل لي هنا أو ها هنا وطنٌ ؟
    لا ، لا : جراحي وحدَها وطني !)
    عندما أبحث عن ماضي رجل غادرنا إلى الغد. ستكون الحسبة هي العودة إلى الغد. الفكرة المعلقة، الوعي الروح بلا جسد، اليقظة تحت وطأة التراب ـــ الحلم يمكن أن يكون الحلم هو ذكريات الروح !
    قرأت عن سيرته الذاتية عُين أستاذ للأدب العربي في مدرسة دار العلوم التي تخرج منها، المشكلة التي أعيشها أنّ مثل هذه المعلومات لا تهمني ولا تثيرني لأنه سبق وأن حدثني عن الوظائف الحكومية، مسؤول عن البرامج في الإذاعة اليمنية وغير ذلك فقد حدثني حتى عن رحلته العلاجية إلى الأردن وتوقف قلبه عن الخفقان . هناك أشياء أصلح أنّ أكون أنّا المصدر لها. حين رحل وترك المقبرة أصبحت أتوقع وجوده في أحد المساجد، أو في بطن نجم يسري مع الغيم، ربما مثل هذه التوقعات مجنونة ولاعقل لها، صرت أرى الغيوم كأنها أحجار من الصحراء، بعضها يصل به الحال فيتصور أنّ المقابر هي الأمل الوحيد للخلاص؛ ولهذا أشعر بأن البردوني تجاوز هذا الأمل أيضًا. فهو في العلم تغلب على ما حوله ووصل إلى النبوغ. قال لي يوماً أنا صادقت عماي، وأصبحت أرى بأن ظلمته نور، وصمته كلام.
    ومن حينها والجميع يخشى البصيرة التي تتوقد فيه. كان يقتحم جلبة الحياة ليحدثني وأنا أسمعه قبل الصوت، الفضاء الذي كان ينتمي إليه، هو فضاء الإيمان. حتى الصمت كان يرعب الطغاة لذلك سجنوه.
    -أين أنت الآن اقلقتني يا رجل؟
    - لا تخفْ عليّ أبدًا عشت أعمى و أرعبتهم، كان العالم يراني وأنا لا أراه إلا ببصيرتي، الآن غدوت أبصر العالم ببصر وبصيرة، اليوم أريد أن أرى العالم
    ـ أرى حبيبتي فتحية زوجتي المرأة التي كانت هي عيني التي أبصر بها وهي عكازي. هذه المرأة تعرف الله جيدًا وتحمل روحًا نقية، كانت هي ينبوع الحياة في قحط أيامي الأخيرة.
    اسأله عن الصمت الذي يعتريه وقلة الكلام، وعقم الحديث فيجيب بأشياء لها فعل السحر
    -كلما زاد وعي الإنسان قل كلامه، وحدثني عن بعض الطرائف التي كانت تبكيني، يرويها لي وهو يضحك، هل تأتي على الإنسان أيامًا تُضحكة أحزانه؟
    وقال: اللصوص هم سبب البلاء. لابد من محاربتهم والقضاء عليهم بالمناسبة، سأروي لك حكاية عن حقد اللصوص. هم لا يمتلكون الضمير كنا مجموعة كبيرة من الطلبة البصراء ندرس في المعهد العلمي بصنعاء وكانت لنا منحة تقدم كل شهر من الريالات العملة الفضية، آنذاك كانت هي عملة اليمن، وكان المحاسبون ونسميهم القابضون يسرقون من معاشاتنا كل شهر، حتى ضقنا بهم ذرعًا وقررنا أنّ نشكوهم؛ لكننا خشينا انّ يستبدلوا المعروض بشيء آخر، وبعد جدل صار الرأي أنّ نكلمه مباشرة ولكن على شكل نشيد وقفنا أمامه، وابتدأ ت المجموعة ( يا مولانا ,,,, نحن البصراء جئنا نشكو القابضون ) انفجر الإمام أحمد ضاحكًا و أنصفنا من أولئك اللصوص.
    يقولون في الأمثال الشعبية العربية ( من عاشر القوم اربعين يوما صار مثلهم ) وأنا عاشرت البردوني سنوات. أحضر جميع مجالسه و يصطحبني في سفره فأنا دليلة وعكازته وعينه في المؤتمرات الأدبية والمهرجانات والمقابلات التلفزيونية وأصبحت أحسب على الأدباء رغم أني لم أكتب شيئاً، وبمرور الأيام أشارك استثمر الفرص وأتصرف تصرفات الإعلامي الذي يعلم ماذا يفعل، التقيت يومًا بالأستاذ أنيس العرقوبي سألته أن يضع مقارنة بين شاعرية المتنبي والبردوني، ربما كان مثل هذا السؤال محرجًا لمكانة البردوني، كيف لي أن ازجه أمام عمالقة التأريخ والذي فاجأني هو الجواب الذي أعاد لي هيبة السؤال فقال
    ـ يكفي البردوني أن اسمه لم يقترن يومًا بالسلطة، ولم يرم عطاياها، بل سعى لهدم أسوار الحكام وطغيانهم وأنار دروب الثائرين والمشتاقين إلى الحرية.
    أنا رأيت أخلاق البردوني وعاشرت حضوره كنت معه في العراق في مهرجان أبو تمام في الموصل، وكنت معه أيضًا في مهرجان المربد، تقدم الشاعر نزار قباني واحتضنه كنت أنا سعيد جدًا لكون نزار كان أكثر شعبية وأناقة، أنا رجل نادل مطعم لا أفهم في عمق الأمور الأدبية فرحت كثيرًا معتبراً معانقة نزار القباني ستزيد البردوني منزلة، وإذا بالبردوني يرد مازحاً
    - لا تقل نزار بكسر النون وقلها بفتحها لأنها تعني الشيء القليل ، قبله نزار فرحان بهذا التتويج أنّ يعانق شاعراً بحجم البردوني.
    بعدما شاع خبر هجرة البردوني من القبر أصبح الناس وأهل الإعلام والصحافة يقصدوني ليتحروا عن مصداقية الخبر. صرت الوجه الإعلامي المرموق باعتباري مدير أعمال البردوني الذي ما كان يقبلني الا أن أكون أخاه. غدا لقبي الجديد مدير أعمال المرحوم البردوني. سألني أحد الإعلاميين في برنامج نقل مباشر في أحد الفضائيات المهمة . هل كنت مع البردوني في مهرجان الموصل؟
    وفي المربد أيضًا كنت معه، يبدو أنّ الجميع استساغ هذا السؤال وأصبح ينتظر الإجابة، كانت قاعة المربد تتثاءب حتى أن بعض الحضور ناموا في القاعة، لا شيء يهزهم. القصائد التي أنشدت معظمها أخذ حيز الوقت وروتينية النظم كما شخصها لي البردوني بعد المهرجان. وهذا يعني أنه يعرف المساحة التي يشتغل عليها، امتلكني الخوف لأن الشعراء في المهرجان يمتلكون أناقة عالية، والبردوني على بساطة ملبسه، جاء دور البردوني ونصف القاعة نائمة، من ضمن الآراء التي يحتفظ بها الشاعر بأن الجمهور العراقي له خصوصية عالية في تقبل الشعر، قلت يعني في المسألة قلق، قال لا بالعكس إنهم جمهوري أنا، منظر غريب لبغداد شاعر يمني بشعره الأجعد وآثار الجدري تكسو وجهه ، وأنا أقوده إلى المنبر الشعري، أنا لا أتحدث عن الأمور الفنية للقصيدة فهذا ليس من اختصاصي، لكني أتحدث عن الأمور الإنسانية، أن يتقدم هذا الرجل أمام هذا الجمع المتأنق بجميع أموره، وما أن وقف أمام المنصة. في لحظتها شعرت بكياني يتفتت وسقطت على الأرض مغشيًا عليّ أو هكذا تصورت نفسي ؛لأن هذا العمل أثار بعضاً من اللغط والدهشة في القاعة، جمهور الشعر حساس. تنحنح البردوني
    ناديت :
    ـ يا الله أرحمه ووفقه ونجحه، إلهي كم كانت هذه الدقائق حرجة متعبة ؟ مع هذا أجده يمتلك الثقة العالية بنفسه. ثم بدأ يقرأ قصيدته فتحولت القاعة إلى استجابة مذهلة، شعرت أنّ كل شيء تحول إلى لهفة تعانق هذا الشاعر-الفلاح ــ اليمني صوت أخاذ جميل ،وأداء أذهل من في القاعة. لا أحدثكم عن القصيدة لكني أحدثكم عن الموقف، وقف الحاضرون يصفقون إعجابًا بشاعر اليمن وفي القوم فطاحل الشعراء أمثال نزار قباني والبياتي وعمر أبو ريشة، فلم يكن من المتوقع أنّ رجلاً كفيف يمثل تلك الهيئة يمكن أن يفاجئ الجمهور بمثل هذه الأبيات، وعندما نزل من المنبر الشعري ظل التصفيق في القاعة ثم التف حوله العشرات وفي صالة الفندق ظل يستقبل العشرات من المحبين ، وهم يشيدون بقصيدته. واليوم يبدو أني أصبحت كبير القوم، يزورني الناس وأهل الأعلام والشعراء ــ الأدباء ليسألوني عن أخبار هجرته ميتًا، ولا أحد يصدق أني لا أعرف شيئًا من الأمر. امتلأ بيتي بأهل الصحافة والإعلام، فريق يخرج وفريق يدخل صحف مجلات وصور ومراسلي الإذاعات والفضائيات، حدث عالمي هز أرجاء المعمورة بعناوين براقة ، الشاعر البردوني يهاجر إلى المجهول. كل واحد تناول الخبر بطريقته قسم يبحث عن قضية إكرام مثواه والقلق عليه وبعضهم ينظر إليه من مصلحته الخاصة بعض الشعراء أخافهم أمر عودته فهم قلقون على كساد إنجازاتهم والسياسيون قلقون؛ لأنه يمثل وجع الرأس بالنسبة لهم. سيعود صوته هادرًا يحفز الجماهير على الثورة. قليلون هم من فرحوا . أنا آمنت بأنه لو عاد فعلا سيقتلوه، فيموت شاعر الشعب اليمني مرتين. أسألهم لأستفزهم لنفترض أنهُ عاد أين سيسكن وبيته تهدم في يوم ذكرى رحيله؟
    هل سينام في الفنادق مثلاً؟
    المهم لا تجعلوا الأمر يقلقكم سأقاسمه بيتي .
    كنت أعتقد أن هذه الضجة الإعلامية ستنتهي ويسكت صوتها؛ لكني اكتشفت أن الأمر يختلف تمامًا ، وربما حسب حساباتي المستجدة أن يكون العمل عن طريق مختلف احتمال أنهم سرقوا جثة البردوني ليتاجروا بها. جعلوا من غيبة جثته شماعة يعلقون عليها اعتراضاتهم!
    أمور كثيرة علقوها لظهور البردوني.
    المظلوم يأمل أن ينصفه البردوني. الشعراء يعترضون بعضهم على بعض باسم البردوني. أهل القصة والمسرح والرواية وقصيدة النثر وكتاب الخاطرة واللصوص الذين أطلقوا على سرقاتهم ( التناص ) يتأملون مباركة البردوني بينما بعض السياسيين يرى أن عودة البردوني ستزيد البلاد هرجاً ومرجا وتعود ارهاصات أبا ذر الغفاري ثانية ليتهم الأغنياء بأنهم سرقوا حق الفقراء . بينما عامة الشعب يرى أنه سيظهر لينصر كل الفقراء ويحي اليمن من جديد. الكثير من الصحف كتبت عن هجرة البردوني الثانية ، وهذا يعني عندي أن الجميع تاجر بعودة البردوني المرتقبة. صادروا له كل رأي، وقوله كثيرًا قالوا كل ما في نفوسهم. تحولت الغيوم في السماء وعلى نحو غامض إلى لون يشبه لون الحبر. قالوا هذه علامات عودة الشاعر الكبير. كثر المنجمون في البلاد والجوع والقتل والدمار. كتب أحد الشعراء عن البردوني بأنهُ عاش الجوع والتهديد وكان مهووسًا بمقاومة التسلط والقهر ويحب المظلومين. توجهت الأنظار إليّ لدعوتي في مهرجان يتحدث عن عودة البردوني ، على أساس أني الوحيد الذي يمثله، قلت لهم أيتها السيدات أيها السادة أنتم بائسون يائسون جدًا، هو متى رحل البردوني عنكم كي يعود؟
    لأرى ظله يلوح ليّ من بعيد ويقول: الشعراء لا يموتون أبدًا، أنهم يعيشون في أحشاء القصائد ومفردات الكلمات. يسكنون صدور من يقرأ لهم ليعودوا كلما ردّد أحدهم قصائدهم.
    الشعراء تدفن أجسادهم لتُخلد أرواحهم.
    ها قد وجدته أخيرًا​
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X