المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
كنت أعيش في بلاط معاوية كمؤمن آل فرعون، أكتم إيماني وحبي لعلي بن أبي طالب، فأنا ممّن عرف قدره وقدر اصحابه، ومن الذين عرفتهم، ضرار ابن ضمرة انه من الصادقين الموالين لرسول الله وأهل بيته، والمناصرين لهم قولاً وفعلاً، وهو من الطبقة الأولى من التابعين، فقد درس عنده العديد من الصحابة، فيعرف عن ضرار انه ممّن عاصر الإمام علياً (عليه السلام).
كان ضرار بن ضمرة (رحمة الله عليه)، خطيباً بليغاً، وله مواقف عديدة، وغالباً ما كان بنو أمية يصطادون هؤلاء للاستفادة منهم بأن يكونوا شعراء للبلاط الأموي، ووعاظ السلاطين، لكن هذا الرجل أبى أن يبيع مواهبه للباطل.
فبعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، كان معاوية يعاني عقدة الانتقام من أصحاب الإمام علي (عليه السلام)، وكان يبحث وينقب عنهم، ويعطي الجوائز لمن يخبر عنهم، وكان يؤذيهم ويحضرهم في مجالسه ويعاملهم بالاستهانة والاذلال.
وهذا السلوك الرذيل شمل أناساً كثر، وفي هذا السياق من جملة من أحضرهم معاوية ضرار بن ضمرة، وكما يقال: رب ضارة نافعة، وكم من أهل الباطل من يفضحون أنفسهم بأنفسهم.
جاءوا بضرار بن ضمرة وادخلوه على معاوية بن ابي سفيان، كان لضرار ثقة عالية بنفسه واعتماد كبير على ربه، بأن الله سينصره، فلما ادخل على معاوية أول ما فتح الكلام معاوية وجلاوزته جالسين عنده، سأله: من انت؟ قال: انا ضرار ابن ضمرة، قال: معاوية انت صاحب علي؟
قال: والحمد لله وأشكر الله على ذلك.
فقال معاوية: يا ضرار، صف لي علي بن أبي طالب؟
ما هو تقييمك لعلي بن أبي طالب؟
كان ضرار حذراً خشية أن تكون هذه مكيدة، أو استدراج، وهي عادة معاوية وسجيته.
فقال ضرار: لا، أنا أعتذر، اعفِني.
فقال: لا أعفيك، لك الأمان.
فأنا من مدة ابحث عمّن يصف لي علي بن أبي طالب.
وهنا انطلق ضرار (رضوان الله تعالى عليه) فقال: كان والله سيدي علي بن أبي طالب بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، فصرنا فنرى كيف يختار ضرار أركان حياة الإمام وكمالاته.
وأكمل يقول: يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة عن لسانه، وكان فينا كأحدنا يجيبنا اذا سألناه، ويأتينا اذا دعوناه، وهو والله مع قربه منا وقربنا منه، لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويحب المساكين.
وكان يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، لازال ضرار يقول في علي، ومعاوية يصغي، والديوان بمن فيه الاعناق مشرئبة، والجميع يترقب، ماذا سيفعل معاوية مع هذا الرجل؛ لأن كل كلمة من كلماته هي قذيفة في صدر معاوية.
فبعد أن كان معاوية يستأنس بسب عليّ أو لعنه، يأتي أحد ويضع النقاط على الحروف، فهذا غير مألوف.
فأكمل ضرار قوله: كان مولاي أمير المؤمنين يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، واشهد بالله يا معاوية، لقد رأيت مولاي علياً في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغابت نجومه، قابضاً على كريمته الشريفة، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: اليكِ عني يا دنيا، فلقد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
هنا سيطرت حالة من الهدوء على ديوان معاوية، ومعاوية متأنٍّ لهذا الاسترسال والانسياب، ثم هذا الاختيار لهذه الكلمات الجميلة، فلما أكمل ضرار بن ضمرة كلامه، فقد معاوية توازنه، فقال: عقمت النساء أن يأتين بمثل علي.
هنا أحسّ ضرار بالانتصار، وأنه أصبح سيد الموقف، فسأله معاوية: يا ضرار، اخبرني بحق كيف حزنك على علي؟ فقال ضرار: حزني على مولاي علي، حزن أم ذبح ولدها على صدرها، لا ترقى لها دمعة، ولا تنقضي لها حسرة.
فسكت معاوية قليلاً، ونحن نترقب ماذا بعد هذا الاسهاب، وهذا التحدث عن فضائل علي بن أبي طالب، وفي حضور رجل عادى علياً عمراً من الزمن؟
نصف قرن او اكثر، وصرف من ميزانية الدولة لمحاربة علي وآل البيت والرجل الذي يداه ملطخة بدماء الآلاف من البشر من محبي علي بن ابي طالب، كيف ستكون نهاية هذا المشهد في بلاط بني أمية وفي محضر معاوية؟
سكت معاوية قليلاً، ثم قال له: شكراً واذن له بالانصراف، فأصبح الكل مبهوتين، طبعاً هذا لا تفسير له إلا أن الله سبحانه وتعالى لابد أن ينصر الحق وأهل الحق، على دعاة الباطل وأهل الباطل.
لم يعش ضرار كثيراً بعد حياة الإمام علي، بل انه ما شوهد مبتسماً وكان حزيناً، وغالباً ما كان كلامه وحديثه عن فضائل وصفات الإمام علي، وكان يكشف نواقص خصومه، وهذا كلفه ثمناً، فمراراً ما تعرض الى ضغوطات، والى تهديد