المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رمقتُ السماء بطرفها الغارِق بالدموع متوسلة، وكأنها تبحثُ عن شيءٍ ما، لا سبيل إلى معرفَته على الأرض ثمّ رفعَت راحتيها حيال وجهُها الشاحِب وشفتاها تتحركُ بالدُعاء، وبعد نظرةُ التوسُل هذه أخذت أصابعها المتجعدة تديرُ مسبحة الطين، حبة بعدَ حبه علها تجدُ بالتسبيحِ ما يشغُلها عما هي فيه مِن قلقٍ وأرق ولتبقى على ما كانت عليه مِن الصلابة ورباطة الجأش،على رغمِ تلك التساؤلات التي تعصف بذهنِها بينَ الحينِ والآخر تُرَى ماَ الذي أَصاب أحمد؟
لماذا لا يَرد على اتصَالاتي المُتكررة؟!
آخر اتصَال لهُ كانَ قبلَ ثلاثة أيام وسطَ أزيز الرصاص، وزَمجرة الدَبابات التي تعلو صوته، وفي نهاية المكالمة طلبَ منها أنْ ترضى عنه، وبينَ الوعي واللاوعي، ومِن
حالِ الخوفِ المؤلِم إلى حالِ الإنتظار المُميت، دخَلَت غُرفتهُ كَعَادتها في كلِ ليلة لرفعِ الوحشَة عن زوجته العَروس ريثماَ يَعود مِن وحدتهِ العَسكرية وفي تلك الليالي كانت سهرتهما ممتعة للغاية وهماَ يتباَدلاَنِ الحديث والضحكات، ثمّ تنقضي بحكاية من حكايات أمّ أحمد أيام زمان.
أما الآن فسهرتهما يسودها الهدوء ومتابعة الأخبار وفي هذه الأثناء قامت العروس الجميلة إلى المطبخ لتعد لها كوباً مِن الشاي، أما هي فكانت تتأمل ملامِحُ ولدها بصورةِ زفافه، المُعلَّقة على الجدارِ.
حدثتها بلسانِ الدموع، بآهات قلبِها الموجوع، وبينَما هي غارقةٌ ببحرِ تأمُلاتها طرقَ سمعها خبرٌ عاجل مفادهُ، تجدد الإشتباكات بينَ أبطال الحشدِ ومجرمي داعش في جبالِ مكحول، لم تنتظر سماع المزيد.. بل ركضت نحو الهاتف لتعاوِد الإتصال بولدها، لكن دونَ جدوى، لايزال
جهازه ُ مغلقاً وبعدَ اليأس من ذلك عادت
إلى التلفاز ِلتسمعَ بقية الخبر أو شيئاً جديداً عن ذلك المكان الذي فيه أحمد، وأي تفاصيل دقيقة هي التي يمكن الحصول عليها، سوى عدد الشهداء والجرحى كحصيلة أولية.
ليتهم يذكرونَ الأسماء لتعلم حالَ ولدها.. أهو مِن الشهداء أمّ مِن الجرحى، وحتى لو كانَ جريحاً المهم أنّهُ حي حاولت أنّ تبعدَ هذه الفكرة عن رأسِها وتستبدلها بأملِ عودته سالِماً معافى، لكنها لم تستطع ذلك فقد كانت تستشعرُ ناراً مُلتهبة تستعِر في قلبها.
في الغد تحولَ الأمل إلى ألم قاتل، بصرخةِ عروس ولدها عندَ الباب، عندماَ رأت حقيبة زوجها العسكرية بيدِ قريبه وفي اليدِ الأخرى منديل أبيض عليه قطراتٌ مِن دمٍ
كانَ في جيبِ أحمد لحظة أستشهاده وقد كُتِبَ عليه: " أمي الحبيبة.. زوجتي العزيزة.. الملتقى قريب"