يعتبر الوعي الجمالي من المواضيع المهمشة في عوالم النقد، رغم الارتكاز الكلي على المعنى الحداثوي، وذلك بسبب عدم العناية الكافية بـ (علم الجمال) الذي يرى الفن هو نتاج الوعي الجمالي في نمط من أنماطه التاريخية من منظور ذاتي تقويمي.
ويرى الدكتور فؤاد مرعي: إحالة الفن على الواقع لا يمكن أن تكون إحالة مباشرة أي لا يمكن ربطه بما هو فردي صرف.
ويؤكد غولدمان: صدور المعنى الحقيقي عن بنى ذهنية ما وراء فردية... كإجابة الإمام عليه السلام عن سؤال سألوه: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: (كَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ ويَسْقَمُ بِصِحَّتِهِ ويُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ). فكلما طال عمر الانسان يتقدم الى الفناء، وكلما مدت له الصحة، تقرب من مرض الهرم، ويأتيه الموت من الجهة التي يأمن البقاء منها وهي نفس البدن.
والملاحظ جديا تجاوز نهج البلاغة عن أي طرح فردي مصلحي أو ذاتي شخصي،
فهو يسعى إلى الدفاع الجدي عن الدين والإنسانية والمصلحة العامة للدولة والمجتمع، أي قراءة العالم من خلال ذات مبدعة مؤمنة.
فيرى البعض: أن هذا المنجز المهم ملحمة درامية تجاوزت الذاتية المتعلقة بكل ما هو شخصي، ومثل هذا التجسيد الذي هو إحدى القيم الجمالية سيجد مساحة كافية لإلغاء التقريرية والكلام العادي، ويدخل في حومة الاشتغال البلاغي، كقوله عليه السلام: (مَنْ جَرَى فِي عِنَان أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجَلِهِ). والعِنَان: هو سير اللجام تمسك به الدابة، أي من كان جريه إلى سعادته بعنان الأمل، يمني نفسه لبلوغ مطلبه بلا عمل، سقط في أجله بالموت، قبل أن يبلغ شيئا مما يريد...
ويرى معظم النقاد: إنه لا يجوز الفصل بين الوعي الجمالي والمستويات الأسلوبية الفنية، وهذا بحد ذاته موضوع مهم لا بد التأمل فيه، أي يعني أن المستويات الأسلوبية والوعي الجمالي الجمعي في علاقة طردية، فتزايد أي منهما يساهم في تنامي الآخر والعكس صحيح،
وهذا سيصب في صالح أي قراءة نقدية تأملية لنهج البلاغة، لكونه مر على تعاقبات أجيال نقدية، فلكل جيل له معطيات وعيه الخاص، والتي تتنامى عبر مدركات زمانية مكانية، أي عبر القضايا العامة التي لا تتقيد بزمن ومكان، كقوله عليه السلام: (لَنَا حَقٌّ فَإِنْ أُعْطِينَاهُ وإِلا رَكِبْنَا أَعْجَازَ الإِبِلِ وإِنْ طَالَ السُّرَى).
يرى الشيخ محمد عبده: أن هذا من لطيف الكلام وفصيحه ومعناه: أن لم نعط حقنا كنا أذلاء، وذلك أن الرديف يركب عجز البعير كالعبد والأسير، ومن يجري مجراهما. وقد يكون المعنى إن لم نعط حقنا تحملنا المشقة في طلبه، وإن طالت المشقة. وركوب مؤخرات الإبل مما يشق احتماله والصبر عليه. وحتى لو نظرنا إلى مكونات المستقبل الآتي، لنعرف أن أجيالا نقدية أخرى سيمر بها نهج البلاغة، يتضح لنا فعلا أن هذا النهج معين لا ينضب من الجمال، له ألق خاص قابل للتماهي مع رؤى كل جيل، كقوله عليه السلام:
(إِذَا اسْتَوْلَى الصَّلاحُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِهِ ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ خَزْيةٌ فَقَدْ ظَلَمَ وإِذَا اسْتَوْلَى الْفَسَادُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِهِ فَأَحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ) والخَزْية: بلية تصيب الإنسان فتذله وتفضحه، وغرر: أي أوقع نفسه في الغرر أي الخطر.
ومن الجميل أن هذا الإنجاز المبدع لا يتعامل تعامل الموروث إطلاقا، بل يتعامل تعاملا مرتكزا على المعاش في كل جيل، وقد تجاوز التناظرات التجديدية نفسها، كقوله عليه السلام: (لا تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ).
أحد مؤثرات الوعي الجمالي هو الارتكاز على العديد من الاشتغالات المبدعة، كإيقاعية الجرس الداخلي، والذي يعطي زخما تدفقيا، ومداً إيقاعيا، كقوله عليه السلام: (والْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى غَائِصِ الْفَهْمِ وغَوْرِ الْعِلْمِ وزُهْرَةِ الْحُكْمِ ورَسَاخَةِ الْحِلْمِ فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ ومَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ).
وغور العلم: باطنه، وزهرة الحكم: حسنه، والشرائع: الظاهر المستقيم من المذاهب، ومورد الشارب، وصدر عنها: أي رجع عنها بعدما اغترف ليفيض على الناس مما اغترف، فيحسن حكمه.
فالارتكاز على البنية الصورية يـقوم على خلفية تعبيرية. ومن أهم السمات الجوهرية للوعي الجمالي هي (التجادلية) لكونها تؤدي إلى فهم العالم والوجود الإنساني من منظور التناقض، كقوله عليه السلام: (وإِيَّاكَ ومُصَادَقَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ يُقَرِّبُ عَلَيْكَ الْبَعِيدَ ويُبَعِّدُ عَلَيْكَ الْقَرِيبَ). فيؤكد وجودها على الصراع المبدئي.
ويسميها الدكتور سعد الدين كليب: بالخلفية الفلسفية للوعي الجمالي. ويذهب غيره من النقاد: إلى أن الوعي الجمالي كشيء عام، هو فكر يترعرع في إطار المنظومة المعرفية لواقع تاريخي، وهذا
بطبيعته سيلغي لنا المسافة المتكونة من لحظة الإنشاء إلى لحظة القراءة. في حال أن عوالمها بين أيدينا يافعة حية تنبض بالحياة، كقوله عليه السلام: (لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وقَلْبُ الأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ).
يرى الرواة أن هذا من المعاني المحببة الشريفة، والمراد به: أن العاقل لا يطلق لسانه إلا بعد مشاورة الروية ومؤامرة الفكرة، والأحمق تسبق لسانه وفلتات كلامه مراجعة فكره، ومماخضة رأيه.
فالأستاذ طارق شفيق يرى: أن الوعي الجمالي له مقاربات واعية من الوعي الديني، حيث الانفعال الكوني الذي يرتبط بجلالة المقدس، كقوله عليه السلام: (لا يَقِلُّ عَمَلٌ مَعَ التَّقْوَى وكَيْفَ يَقِلُّ مَا يُتَقَبَّلُ). وربطها فلاسفة اليونان بالمنفعة، فالجميل ما يبلغ غايته كقوله عليه السلام: (الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ والْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ).
وعند سقراط بمعنى الخير.. كقوله عليه السلام: (فَاعِلُ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْهُ وفَاعِلُ الشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ) وأفلاطون جردها عن اللذة، وآخرون نظروا إليها كمال المعرفة الحسية.
ويرى الدكتور عز الدين إسماعيل: إن التفكير في سر القبح بحثا عن تجاوزه، سيصبح التفكير جميلا كقوله عليه السلام: (احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ واللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ).
علي حسين الخباز