بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
دخل لقمان على داود، وهو يسرد الدرع، فأراد أن يسأله، فأدركته الحكمة فسكت، فلمّا اتمّها لبسها، وقال: نعم لبوس الحرب أنت، فقال: الصمت حكمة، وقليل فاعله، فقال له داود: بحقِّ ما سميت حكيماً[1].
ويقول أمير المؤمنين (ع):
"إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة"[2].
ويقول (ع) أيضاً:
"لا خير في الصمت عن الحكم، كما انّه لا خير في القول بالجهل"[3].
ويقول (ع) أيضاً:
"بكثرة الصمت تكون الهيبة"[4].
ويقول (ع):
"إذا تمّ العقل نقص الكلام"[5].
الصمت على ثلاثة أنواع:
1- صمت التفكر، والحكمة.
2- صمت السكوت عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعن الحكم.
3- وصمت يكشف عن خلل نفسي، كالخجل الزائد.
والنوع الأوّل من الصمت هو المطلوب، بينما النوع الثاني، والثالث، مرفوضان في الإسلام. لأنّ الأوّل يهدف إلى الحكمة، والحقّ، والثاني سكوت عن الحقّ، والثالث مرض نفسي لابدّ من علاجه.
انّ صمت التفكر، والحكمة، هو تحكم في الإرادة الناطقة، وهي اللسان، عن طريق قوة العقل. إذ ان ليس كلّ ظرف، ووقت، هو مجال للقول بالجهل، كما أنّه ليس كلّ ظرف، ووقت، هو مجال للصمت، والسكوت، ولكلِّ شيء معيار وميزان، إذ لا إفراط، ولا تفريط.
وصمت الحكمة، هو صمت التفكير، واستخدام العقل في قضايا نافعة، وليس أي صمت، وأي تفكير. وهو الإعداد لما يراد قوله، أو فعله، أو تقريره، في سبيل الحقِّ، لا في سبيل الباطل. وهو صمت الاجتناب عن الأقوال التي تزيد الإنسان سيئات وتبعات.
يقول الرسول الأعظم (ص):
"إذا رأيتم المؤمن صامتاً، فادنوا منه فإنّه يلقّى الحكمة"[6].
إنّ صمت الحكمة، يتطلب من الإنسان أن يتكلّم في موقع الكلام، وأن يسكت في موقع السكوت، لا أن يكون ثرثاراً، يتدفق الكلام من على لسانه، كما يتدفق الماء من أنابيب المضخات، فما وراء الثرثرة إلّا الوقوع في الأخطاء، والمزالق، وضعف الشخصية. وكما يقول الإمام عليّ (ع):
"من كثر كلامه، زلّ"[7].
ويقول (ع):
"إذا قلّ الخطاب كثر الصواب"[8].
ويقول (ع):
إنّ القليل من الكلام بأهله *** حسن، وإنّ كثيره ممقوت
مازال ذو صمت، وما من مكثر *** إلا يزلُّ، وما يعاب صموت
إن كان ينطق ناطقاً من فضة *** فالصمت درّ زانه ياقوت[9]
وعن الصمت الإيجابي، تقول الحكمة الشهيرة:
إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب.
أمّا النوع الثاني من الصمت، فهو خطير جدّاً، إذ عن طريقه يزداد المسيء إساءة، ويتمادى في إساءته، ويزداد الظالم ظلماً، ويتمادى في ظلمه.
ومما يؤسف له بشدة، كثرة الصمت – في عصرنا الحاضر – عن تقديم المعروف، ورد المنكر. انّنا نرى المنكر بأم أعيننا، فلا نتحرك لرده، في الوقت الذي يكون فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فرعين من فروع الإسلام العشرة، وتكتفي – فقط – بالإنكار القلبي، وذلك أضعف الإيمان، وربما لا ننكر شيئاً بقلوبنا!
بينما المطلوب، والواجب على الإنسان أن يدرّب نفسه على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، حسب الحالة، وحسب قدرة الإنسان الآمر والناهي، وحسب احتمال التأثير.
إنّ المسلمين في صدر الإسلام، وفي العصور المتقدمة الأخرى، كانوا يطبقون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بشكل جيِّد، ولكننا – في هذا العصر – قلّما نحرك ساكناً – في هذا المجال – فهل أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً؟ وهل انقلبت المعادلة، أم انّ الحسن يبقى حسناً، والقبيح يبقى قبيحاً؟!
إنّ الخير هو الخير، وسيبقى هو الخير، والشر هو الشر، وسيبقى كذلك، والمعروف هو المعروف، وسيبقى هو المعروف، والمنكر، هو المنكر، وسيبقى كذلك، مهما تغيرت الظروف، ومهما تطاولت السنون، والأزمان.
إنّنا في بعض الأحيان نتجنب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من أجل أن لا نخسر أصدقاءنا، ومعارفنا. فعلى سبيل المثال: نرى أصدقاءنا يغتابون الآخرين، أو ينمّون عليهم، فنسكت، ولا نقول لهم شيئاً، وقد نرى فيهم أموراً لا ترضي الخالق، فنسكت أيضاً، ولا نوجههم لما يحبه الله، ويرضى، وبعملنا هذا، نرضي المخلوق، ونغضب الخالق، بينما القاعدة الإسلامية تقول:
"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"[10].
و"امحض أخاك النصيحة، حسنة كانت أم قبيحة"[11].
والأدهى والأمرّ اننا في بعض الأحيان نلزم الصمت عن الحكام الطغاة، والظالمين، والفاجرين والفاسقين، والمنافقين، من أجل أن نعيش، ونحافظ على مصالحنا الذاتية، وما كسبته أيدينا من حطام الدنيا ومتاعها، أو اننا نخاف من الحكام الطغاة، ومن أجهزتهم الإرهابية القمعية. لكننا لو فكرنا مليّاً، وبروية وعقلانية، لتبين لنا انّ الصمت على الظلم من أعظم العار على الإنسان!
أليس عار على كلِّ ذي لب، أن يرى الحاكم الظالم، يمارس الظلم، والطغيان، والعسف، والاضطهاد، والفساد، وانتهاك الأعراض والحرمات، وتضييع حقوق الناس، وهضمها، ويراه يزيّف حقائق الإسلام ويتصرف في البلاد، ومقدراتها، ويجعلها رهناً بيد الأجانب، والمستعمرين، أليس عار عليه أن يرى كلَّ ذلك، ويسكت؟!
يقول الرسول الأعظم (ص):
"الساكت عن الحقِّ، شيطان أخرس".
ويقول (ص) أيضاً:
"إنّ أفضل الجهاد، كلمة حقّ عند سلطان جائر"[12].
وفي الحقيقة انّ سبب صمت بعض الشعوب عن مقاومة الظلم، والطغيان في بلادها، هو الخوف من قوة الأنظمة، ومن إرهاب أجهزتها القمعية. علاوة على ذلك تولد شعور عند الناس، بأنّ هذه الأجهزة قوية، ولا يمكن قهرها، وهي ترصد وتلاحق تحركات أي إنسان، أينما كان. بالإضافة إلى شيوع روح عدم الثقة بين الناس في بعضهم البعض، بسبب تضخيمهم لقوة أجهزة المخابرات من جهة، وبسبب تهويل الأنظمة بقوتها، وخصوصاً في الجوانب الأمنية، والاستخباراتية، فضلاً عن الممارسات الإرهابية الفعلية التي تقوم بها هذه الأجهزة، في داخل السجون، والمعتقلات، من جهة أخرى.
ولو انّ الناس تعي الأمر جيّداً، لما بالغت في الخوف من أجهزة الأنظمة القمعية، فهذه الأنظمة – مهما أوتيت من القوة – هي بمثابة النمور الورقية، التي تبدو عليها ملامح، ومظاهر القوة، إلا انّها من ورق، أو هي كبيوتات العنكبوت يراها المرء ممتدة، ومتشعبة، إلا أنّها واهية، وضعيفة جدّاً، ومع أقل ضربة تتدمر.
ولقد أثبتت تجارب التاريخ وعبره، انّ أقوى إمبراطورية ظالمة، لا يمكن لها أن تصمد في مقابل تيار الثورة الشعبي الجارف، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، من العصر القديم والحديث. فأين إمبراطورية فرعون؟ وأين إمبراطورية شاه إيران، وسوموزا، ومن شاكلهم؟
إنّ الخوف يجب أن يكون من الله فقط، وليس من المخلوق، مهما كان قوياً، ومسلحاً. وبنظرة واقعية، وموضوعية، يمكن القول: أنّ إرهاب الطغاة قد يولد نوعاً من الخوف عند الناس، باعتبار أنّ الخوف غريزة فطرية في الإنسان، يستخدمها في الحذر، والدفاع عن نفسه، وإبعاد المخاطر عنها. ولكن المطلوب من الشعوب عدم تفخيم هذا الخوف، وتضخيمه، والمبالغة فيه، والتقوقع في زواياه. لأنّ تضخيم الخوف، والمبالغة فيه، يؤخر الشعب، وثورته على الظلم مدة من الزمن، من جهة، ويتيح للحاكم الظالم فرصاً ذهبية لتضييق الخناق عليه، وكبته، وتقييده، ويعطيه قوة، من جهة أخرى. والمعادلة الإسلامية تقول: "كيفما تكونوا، يولّى عليكم".
فالشعب الذي يرضى بالذل والهوان، ويلزم الصمت عن الظلم، ويتيح للحاكم الظالم فرصاً لممارسة الظلم، والطغيان عليه، انّ هذا الشعب لن يذوق إلّا مزيداً من العذاب، والظلم، والهوان، من قبل الحاكم الظالم. أما الشعب الذي يوجه يداً من حديد للحاكم الظالم، فهو الشعب القوي، المنتصر، الذي يحسب له الحاكم ألف حساب، ويرضخ لمطالبه، إن لم يسقط هذا الحاكم، ويتحرر الشعب من قيوده، وأغلاله، عاجلاً أو آجلاً.
وكما يقول أمير المؤمنين (ع):
"لا يعدم الصبور الظفر، وإن طال به الزمان"[13].
ولكن أي صبور هو المقصود؟
انّه الصبور، الذي لا يصمت، ولا يسكت عن الظلم، ويصبر في هذا المجال إلى أن تحين ساعة الفرج.
ومن الأبيات الشعرية التي تنسب لأمير المؤمنين (ع) في الصبر ما يلي:
اصبر من تعب الادلاج والسهر *** وبالرواح على الحاجات والكبر
لا تضجرن ولا يجرك مطلبها *** فالنجح يتلف بين العجز والضجر
إني وجدت وفي الأيام تجربة *** للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جدّ من أمر يطالبه *** واستصحب الصبر إلّا فاز بالظفر[14]
أما النوع الثالث من الصمت، فهو ينتج اما من:
- أسباب وراثية
- أو تربوية
- أو بيئية.
فالشخص الذي يولد من أب، وأم خجولين، أو أحدهما، فإنّه قد تنتقل إليه عوامل الخجل الوراثية، ويكون خجولاً، والشخص الذي يهان، ويحقر – تربوياً – فإنّ عقدة الحضارة قد تنشأ فيه، مسببة له خجلاً زائداً، يدعوه إلى الركون والصمت السلبي. والشخص الذي يعيش في محيط أو بيئة مشحونة بالخجل، فإنّه قد يصبح خجولاً صامتاً، متأثراً بعامل المحيط، والبيئة.
ومهما يكن من الأمر، فإنّ صمت الخجل هذا، سواء كان ناتجاً عن عوامل وراثية، أو تربوية، أو بيئية، أو كان ناتجاً عن فقدان الثقة بالنفس، أو خوفاً من التلعثم في الكلام، والوقوع في الخطأ، يمكن علاجه، لاسيّما إذا كان نتيجة أسباب بيئية، أو تربوية، مع العلم انّه حتى الصفات غير الإيجابية الموروثة، كثير منها قابل للتغيير، والتعديل.
والآن إذا أردت أن ترث الحكمة، بالدخول من أحد أبوابها الواسعة، حريّ بك أن تتصف بصمت التفكر، والتعقل، والحكمة، وأن تكون رافضاً للظلم بشتى صوره، وأشكاله، وأن تكون شجاعاً، لا خجولاً.
الهوامش:
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
دخل لقمان على داود، وهو يسرد الدرع، فأراد أن يسأله، فأدركته الحكمة فسكت، فلمّا اتمّها لبسها، وقال: نعم لبوس الحرب أنت، فقال: الصمت حكمة، وقليل فاعله، فقال له داود: بحقِّ ما سميت حكيماً[1].
ويقول أمير المؤمنين (ع):
"إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة"[2].
ويقول (ع) أيضاً:
"لا خير في الصمت عن الحكم، كما انّه لا خير في القول بالجهل"[3].
ويقول (ع) أيضاً:
"بكثرة الصمت تكون الهيبة"[4].
ويقول (ع):
"إذا تمّ العقل نقص الكلام"[5].
الصمت على ثلاثة أنواع:
1- صمت التفكر، والحكمة.
2- صمت السكوت عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعن الحكم.
3- وصمت يكشف عن خلل نفسي، كالخجل الزائد.
والنوع الأوّل من الصمت هو المطلوب، بينما النوع الثاني، والثالث، مرفوضان في الإسلام. لأنّ الأوّل يهدف إلى الحكمة، والحقّ، والثاني سكوت عن الحقّ، والثالث مرض نفسي لابدّ من علاجه.
انّ صمت التفكر، والحكمة، هو تحكم في الإرادة الناطقة، وهي اللسان، عن طريق قوة العقل. إذ ان ليس كلّ ظرف، ووقت، هو مجال للقول بالجهل، كما أنّه ليس كلّ ظرف، ووقت، هو مجال للصمت، والسكوت، ولكلِّ شيء معيار وميزان، إذ لا إفراط، ولا تفريط.
وصمت الحكمة، هو صمت التفكير، واستخدام العقل في قضايا نافعة، وليس أي صمت، وأي تفكير. وهو الإعداد لما يراد قوله، أو فعله، أو تقريره، في سبيل الحقِّ، لا في سبيل الباطل. وهو صمت الاجتناب عن الأقوال التي تزيد الإنسان سيئات وتبعات.
يقول الرسول الأعظم (ص):
"إذا رأيتم المؤمن صامتاً، فادنوا منه فإنّه يلقّى الحكمة"[6].
إنّ صمت الحكمة، يتطلب من الإنسان أن يتكلّم في موقع الكلام، وأن يسكت في موقع السكوت، لا أن يكون ثرثاراً، يتدفق الكلام من على لسانه، كما يتدفق الماء من أنابيب المضخات، فما وراء الثرثرة إلّا الوقوع في الأخطاء، والمزالق، وضعف الشخصية. وكما يقول الإمام عليّ (ع):
"من كثر كلامه، زلّ"[7].
ويقول (ع):
"إذا قلّ الخطاب كثر الصواب"[8].
ويقول (ع):
إنّ القليل من الكلام بأهله *** حسن، وإنّ كثيره ممقوت
مازال ذو صمت، وما من مكثر *** إلا يزلُّ، وما يعاب صموت
إن كان ينطق ناطقاً من فضة *** فالصمت درّ زانه ياقوت[9]
وعن الصمت الإيجابي، تقول الحكمة الشهيرة:
إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب.
أمّا النوع الثاني من الصمت، فهو خطير جدّاً، إذ عن طريقه يزداد المسيء إساءة، ويتمادى في إساءته، ويزداد الظالم ظلماً، ويتمادى في ظلمه.
ومما يؤسف له بشدة، كثرة الصمت – في عصرنا الحاضر – عن تقديم المعروف، ورد المنكر. انّنا نرى المنكر بأم أعيننا، فلا نتحرك لرده، في الوقت الذي يكون فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فرعين من فروع الإسلام العشرة، وتكتفي – فقط – بالإنكار القلبي، وذلك أضعف الإيمان، وربما لا ننكر شيئاً بقلوبنا!
بينما المطلوب، والواجب على الإنسان أن يدرّب نفسه على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، حسب الحالة، وحسب قدرة الإنسان الآمر والناهي، وحسب احتمال التأثير.
إنّ المسلمين في صدر الإسلام، وفي العصور المتقدمة الأخرى، كانوا يطبقون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بشكل جيِّد، ولكننا – في هذا العصر – قلّما نحرك ساكناً – في هذا المجال – فهل أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً؟ وهل انقلبت المعادلة، أم انّ الحسن يبقى حسناً، والقبيح يبقى قبيحاً؟!
إنّ الخير هو الخير، وسيبقى هو الخير، والشر هو الشر، وسيبقى كذلك، والمعروف هو المعروف، وسيبقى هو المعروف، والمنكر، هو المنكر، وسيبقى كذلك، مهما تغيرت الظروف، ومهما تطاولت السنون، والأزمان.
إنّنا في بعض الأحيان نتجنب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من أجل أن لا نخسر أصدقاءنا، ومعارفنا. فعلى سبيل المثال: نرى أصدقاءنا يغتابون الآخرين، أو ينمّون عليهم، فنسكت، ولا نقول لهم شيئاً، وقد نرى فيهم أموراً لا ترضي الخالق، فنسكت أيضاً، ولا نوجههم لما يحبه الله، ويرضى، وبعملنا هذا، نرضي المخلوق، ونغضب الخالق، بينما القاعدة الإسلامية تقول:
"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"[10].
و"امحض أخاك النصيحة، حسنة كانت أم قبيحة"[11].
والأدهى والأمرّ اننا في بعض الأحيان نلزم الصمت عن الحكام الطغاة، والظالمين، والفاجرين والفاسقين، والمنافقين، من أجل أن نعيش، ونحافظ على مصالحنا الذاتية، وما كسبته أيدينا من حطام الدنيا ومتاعها، أو اننا نخاف من الحكام الطغاة، ومن أجهزتهم الإرهابية القمعية. لكننا لو فكرنا مليّاً، وبروية وعقلانية، لتبين لنا انّ الصمت على الظلم من أعظم العار على الإنسان!
أليس عار على كلِّ ذي لب، أن يرى الحاكم الظالم، يمارس الظلم، والطغيان، والعسف، والاضطهاد، والفساد، وانتهاك الأعراض والحرمات، وتضييع حقوق الناس، وهضمها، ويراه يزيّف حقائق الإسلام ويتصرف في البلاد، ومقدراتها، ويجعلها رهناً بيد الأجانب، والمستعمرين، أليس عار عليه أن يرى كلَّ ذلك، ويسكت؟!
يقول الرسول الأعظم (ص):
"الساكت عن الحقِّ، شيطان أخرس".
ويقول (ص) أيضاً:
"إنّ أفضل الجهاد، كلمة حقّ عند سلطان جائر"[12].
وفي الحقيقة انّ سبب صمت بعض الشعوب عن مقاومة الظلم، والطغيان في بلادها، هو الخوف من قوة الأنظمة، ومن إرهاب أجهزتها القمعية. علاوة على ذلك تولد شعور عند الناس، بأنّ هذه الأجهزة قوية، ولا يمكن قهرها، وهي ترصد وتلاحق تحركات أي إنسان، أينما كان. بالإضافة إلى شيوع روح عدم الثقة بين الناس في بعضهم البعض، بسبب تضخيمهم لقوة أجهزة المخابرات من جهة، وبسبب تهويل الأنظمة بقوتها، وخصوصاً في الجوانب الأمنية، والاستخباراتية، فضلاً عن الممارسات الإرهابية الفعلية التي تقوم بها هذه الأجهزة، في داخل السجون، والمعتقلات، من جهة أخرى.
ولو انّ الناس تعي الأمر جيّداً، لما بالغت في الخوف من أجهزة الأنظمة القمعية، فهذه الأنظمة – مهما أوتيت من القوة – هي بمثابة النمور الورقية، التي تبدو عليها ملامح، ومظاهر القوة، إلا انّها من ورق، أو هي كبيوتات العنكبوت يراها المرء ممتدة، ومتشعبة، إلا أنّها واهية، وضعيفة جدّاً، ومع أقل ضربة تتدمر.
ولقد أثبتت تجارب التاريخ وعبره، انّ أقوى إمبراطورية ظالمة، لا يمكن لها أن تصمد في مقابل تيار الثورة الشعبي الجارف، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، من العصر القديم والحديث. فأين إمبراطورية فرعون؟ وأين إمبراطورية شاه إيران، وسوموزا، ومن شاكلهم؟
إنّ الخوف يجب أن يكون من الله فقط، وليس من المخلوق، مهما كان قوياً، ومسلحاً. وبنظرة واقعية، وموضوعية، يمكن القول: أنّ إرهاب الطغاة قد يولد نوعاً من الخوف عند الناس، باعتبار أنّ الخوف غريزة فطرية في الإنسان، يستخدمها في الحذر، والدفاع عن نفسه، وإبعاد المخاطر عنها. ولكن المطلوب من الشعوب عدم تفخيم هذا الخوف، وتضخيمه، والمبالغة فيه، والتقوقع في زواياه. لأنّ تضخيم الخوف، والمبالغة فيه، يؤخر الشعب، وثورته على الظلم مدة من الزمن، من جهة، ويتيح للحاكم الظالم فرصاً ذهبية لتضييق الخناق عليه، وكبته، وتقييده، ويعطيه قوة، من جهة أخرى. والمعادلة الإسلامية تقول: "كيفما تكونوا، يولّى عليكم".
فالشعب الذي يرضى بالذل والهوان، ويلزم الصمت عن الظلم، ويتيح للحاكم الظالم فرصاً لممارسة الظلم، والطغيان عليه، انّ هذا الشعب لن يذوق إلّا مزيداً من العذاب، والظلم، والهوان، من قبل الحاكم الظالم. أما الشعب الذي يوجه يداً من حديد للحاكم الظالم، فهو الشعب القوي، المنتصر، الذي يحسب له الحاكم ألف حساب، ويرضخ لمطالبه، إن لم يسقط هذا الحاكم، ويتحرر الشعب من قيوده، وأغلاله، عاجلاً أو آجلاً.
وكما يقول أمير المؤمنين (ع):
"لا يعدم الصبور الظفر، وإن طال به الزمان"[13].
ولكن أي صبور هو المقصود؟
انّه الصبور، الذي لا يصمت، ولا يسكت عن الظلم، ويصبر في هذا المجال إلى أن تحين ساعة الفرج.
ومن الأبيات الشعرية التي تنسب لأمير المؤمنين (ع) في الصبر ما يلي:
اصبر من تعب الادلاج والسهر *** وبالرواح على الحاجات والكبر
لا تضجرن ولا يجرك مطلبها *** فالنجح يتلف بين العجز والضجر
إني وجدت وفي الأيام تجربة *** للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جدّ من أمر يطالبه *** واستصحب الصبر إلّا فاز بالظفر[14]
أما النوع الثالث من الصمت، فهو ينتج اما من:
- أسباب وراثية
- أو تربوية
- أو بيئية.
فالشخص الذي يولد من أب، وأم خجولين، أو أحدهما، فإنّه قد تنتقل إليه عوامل الخجل الوراثية، ويكون خجولاً، والشخص الذي يهان، ويحقر – تربوياً – فإنّ عقدة الحضارة قد تنشأ فيه، مسببة له خجلاً زائداً، يدعوه إلى الركون والصمت السلبي. والشخص الذي يعيش في محيط أو بيئة مشحونة بالخجل، فإنّه قد يصبح خجولاً صامتاً، متأثراً بعامل المحيط، والبيئة.
ومهما يكن من الأمر، فإنّ صمت الخجل هذا، سواء كان ناتجاً عن عوامل وراثية، أو تربوية، أو بيئية، أو كان ناتجاً عن فقدان الثقة بالنفس، أو خوفاً من التلعثم في الكلام، والوقوع في الخطأ، يمكن علاجه، لاسيّما إذا كان نتيجة أسباب بيئية، أو تربوية، مع العلم انّه حتى الصفات غير الإيجابية الموروثة، كثير منها قابل للتغيير، والتعديل.
والآن إذا أردت أن ترث الحكمة، بالدخول من أحد أبوابها الواسعة، حريّ بك أن تتصف بصمت التفكر، والتعقل، والحكمة، وأن تكون رافضاً للظلم بشتى صوره، وأشكاله، وأن تكون شجاعاً، لا خجولاً.
الهوامش:
-------------------------------
[1]- ميزان الحكمة، ج2، ص495.
[2]- المصدر السابق، ج5، ص435.
[3]- نهج البلاغة، ص502.
[4]- نهج البلاغة، ص508.
[5]- شرح الغرر والدرر، ج7، ص332.
[6]- ميزان الحكمة، ج5، ص436.
[7]- شرح الغرر والدرر، ج7، ص336.
[8]- شرح الغرر والدرر، ج7، ص332.
[9]- الديوان المنسوب للإمام عليّ (ع).
[10]- مكارم الأخلاق، ص420 (من رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسين (ع).
[11]- شرح الغرر والدرر، ج7، ص381.
[12]- ميزان الحكمة، ج2، ص470.
[13]- نهج البلاغة، ص499.
[14]- الديوان المنسوب للإمام عليّ (ع).
المصدر: كتاب كيف تتصرف بحكمة